دالي فنان القرن العشرين كسر الحواجز بين الواقع والحلم بندر عبدالحميد

دالي فنان القرن العشرين كسر الحواجز بين الواقع والحلم

شغل سلفادور دالي (1904- 1989) العالم بأخباره الطريفة وأعماله الفنية التي لا تشبه غيرها, على مدى ستين عاما, ولم يكن ينافسه في شهرته سوى بابلو بيكاسو, فإلى جانب خصوصية دالي في الرسم والنحت والتصميم كان له أسلوبه المتغير المتمرد في الحياة, مما أعطاه جاذبية العبقري والبهلوان والمهرج والساحر والمجنون معا, وهو الذي ظل إلى آخر أيامه يستعد للاحتفال بعيد ميلاده المئوي عام 2004.

برزت الموهبة المبكرة لدالي في الرسم وهو لايزال في السادسة من عمره, كما كانت نزعته نحو التمرد والاستقلال عن سلطة الأب تكبر معه, فشق عصا الطاعة في المدرسة وكلية الفنون, وفي المجموعة السريالية التي انتمى إليها بعد أن ظل عضوا بارزا فيها على مدى عشر سنوات. وكان جريئا في الرد على الذين يتهمونه بالغموض, حيث قال: لا غرابة ألا يفهم الجمهور أعمالي, فأنا لا أفهمها أيضا.

كان القرن العشرون مزدحما بالأنشطة الفكرية والإبداعية المتنامية والمتحولة في موازاة التطور العلمي والصناعي والمتغيرات الكبرى التي ارتبطت بمسارات الحربين العالميتين الأولى والثانية ونتائجهما. وشهد هذا القرن مزاوجة جريئة ومتسارعة بين الفنون المرئية كالرسم والتصوير الضوئي والسينمائي والعمارة والمسرح من جهة, وهذه الفنون والصناعة والعلوم الحديثة وأطيافها بما فيها من المنجزات المستحدثة في دراسات علم النفس التي تمحورت حول مدرسة فيينا, التي قادها فرويد وكارل يونج, وكان من أبرز إنجازاتها المؤثرة كتاب فرويد (تفسير الأحلام) الذي صدر عام 1900, وفتح أبوابا ونوافذ كانت مغلقة, أو كان بعضها مفتوحا على قليل من الضوء وكثير من العتمة, من جهة أخرى

وتسارعت التحولات الكبرى في الفنون الإبداعية الحديثة التي برزت ملامحها في نهايات القرن التاسع عشر, وأخذت هذه التحولات أشكالا من القفزات النوعية, في منعطفات حادة, في الأسلوب والمادة والموضوع, من خلال تجارب فردية أو تيارات أو مدارس تحمل أسماء واضحة, وكان التجديد يتسارع بحيث تنطفئ بعض تلك التجارب والتيارات بعد عمر قصير, أو تذوب في تيار جديد آخر كالتكعيبية (1913- 1917) والدادائية (1915- 1922) ثم السريالية (surrealism) التي ولدت مع البيان السريالي الأول الذي أصدره أندريه بروتون عام 1924.

اكتشاف الأحلام

كانت الأحلام عند فرويد, كما هي عند بروتون, هي الطريق التي تقودنا إلى اكتشاف اللاشعور, وهي لدى معظم السرياليين ذات أهمية خاصة لأنها تعكس ما هو خفي في أعماقهم, وهي بذلك تشبه وثائق قادمة من عالم خفي ومدهش معا. وحمل العدد الأول من مجلة (الثورة السريالية) نماذج لنصوص عن أحلام ثلاثة من رواد السريالية هم بروتون, دي كيركو, رينيه غوتييه, وجاءت تحت عنوان يقول: إن الأحلام وحدها هي التي تقود الإنسان إلى الحرية. ومن هنا تبرز المخيلة كقوة إبداعية تأخذ مكانها إلى جانب العقل والمنطق أو كبديل عنهما, لأنها تمثل ما فوق الواقع, وهو معنى السريالية.

كتب فرويد رسالة إلى أندريه بروتون يستغرب فيها أن تكون أبحاثه من أهم مصادر الحركة السريالية, وأن يكون أبا روحيا لهذه الحركة, مع أن أساليب الفن بعيدة عن اهتمامه. وبعد أن هاجر فرويد إلى لندن, وصل إليه صديقه القديم ستيفان زفايج بصحبة سلفادور دالي عام 1938, وصرح فرويد بأنه معجب بذكاء هذا (الشاب الإسباني), ولكن دالي رسم بعد ذلك بالحبر الأسود صورة ساخرة لفرويد, يبدو فيها كعجوز منحوس, وأعطى الصورة لستيفان زفايج وطلب منه أن يوصلها إلى فرويد, ولكن زفايج كتب في مذكراته أنه لم يعط الصورة إلى فرويد الذي كان مريضا, وخشي زفايج أن تسبب له رؤيتها مزيدا من الألم.

دالي ولوركا وبونويل

وفي ذلك العام الذي ولدت فيه السريالية كان يعيش في المدينة الجامعية في مدريد ثلاثة من الأصدقاء الوافدين من خارج العاصمة هم: فدريكو جارسيا لوركا, ولويس بونويل, وسلفادور دالي. وكانوا يشقون طريقهم بقوة ليصبحوا أهم ثلاثة مبدعين في ثلاثة حقول مختلفة, في الثقافة الإسبانية في القرن العشرين.

بدأ لوركا بكتابة الشعر والمسرح, واستمرت تجربته بالصعود والتوهج حتى موته مقتولا على أيدي القوات الفاشية بقيادة فرانكو عام 1936, في بداية الحرب الأهلية الإسبانية, بينما اتجه بونويل إلى الفن السينمائي فاتجه إلى باريس عام 1925, والتقى بالمجموعة السريالية, وعمل في مجال السينما, إلى أن أخرج فيلمه المثير الأول (كلب أندلسي) الذي كتب السيناريو له بالتعاون مع سلفادرو دالي عام 1928, وتبعه الفيلم الثاني (العصر الذهبي) عام 1930, بالتعاون مع دالي أيضا, قبل أن تبدأ رحلته الطويلة مع السينما فقدم مجموعة نادرة من روائع الأفلام التي صورها في المنفى في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك على مدى نصف قرن قبل عودته إلى إسبانيا ثم وفاته فيها عام 1982.

الطريق إلى السريالية

أما سلفادور دالي فإن نجاحه بدأ بمعرضه الأول في برشلونة, عام 1925, ثم معرضه الأول في باريس عام 1927, حيث بيعت كل لوحاته المعروضة, وكان أندريه بروتون قد كتب تقديما لهذا المعرض قال فيه: (إن دالي أتحف العالم بكائنات جديدة تماما). ومن هنا دخل دالي إلى المجموعة السريالية من بابها العريض.

يعتمد دالي على الاستخدام الكامل لتقنية الرسم الخادع الذي يعكس وهم الحقيقة, مع ارتباطه بالتحليل النفسي, كما في لوحة (الرجل غير المرئي) 1929, فهي اللوحة الأولى التي يستخدم فيها شكلا مزدوجا, حيث يكون الرجل هو المرأة, في الوقت نفسه. أما في لوحات (الراقصون) و(الأسد والحصان) و(مولد رغبات سائلة) فإنه اعتمد على (التذكر النفسي) وهو ما يعني لديه (إعادة التكوين الفوري للرغبة من خلال انكسارها في دائرة الذكريات).

كان الكتاب والشعراء السرياليون يعتمدون على الكتابة الآلية التي وصفها أندريه بروتون في كتابه (السريالية والرسم) بأنها (طريقة تلقائية في المعرفة اللاعقلية, تقوم على إعطاء التداعيات والتفسيرات الهذيانية موضوعية نقدية منتظمة).

أما سلفادور دالي فإنه اعتمد على البارانويا النقدية, أو الهذيان النقدي, الذي يفتح الممرات الداخلية المتواصلة بين الحلم والواقع, وهذا هو موضوع كتاب (الأواني المستطرقة) لأندريه بروتون, لكن دالي أعطى خصوصية واضحة لأسلوبه في العمل, بحيث كان يضع حامل اللوحة قرب السرير لكي يستطيع أن يرى ما رسمه ويستوحي ما سيرسمه في اللحظات التي تتواصل بين اليقظة والنوم, أو الواقع والحلم, وهذا ما عبر عنه بروتون في كتابه (مطلع النهار) حين قال: (ربما انفتحت بفضل دالي للمرة الأولى النوافذ الذهنية على مصاريعها).

السريالية.. أنا

كتب بروتون وإيلوار معا, في عام 1930 (مفهوم النقاوة) جاء فيه (أن العقل يمكن أن يقدم كل صيغة معروفة للجنون على شكل قصيدة), أما دالي فإنه كان يطمح إلى توليد أعمال بصرية من خلال السيطرة على الاضطرابات العقلية, حيث يفكر الرسام ويعمل كأنه تحت تأثير اضطراب نفسي, أو حالة هذيان, ولكنه يظل واعيا لما يحدث حوله.

من أوائل اللوحات التي حملت ملامح سريالية واضحة في أسلوب دالي تلك التي رسمها وهو في الخامسة والعشرين من عمره وأطلق عليها بول إيلوار اسم (الرياضي الكئيب). كان دالي متأثرا بفنون عصر النهضة من خلال زياراته المتعددة إلى إيطاليا, وهذا ما توحي به براعته في إتقان الرسم التشريحي الذي يشكل عنصرا واقعيا في لوحاته التي لا تنتمي إلى الواقعية.

وفي الوقت الذي كان فيه مؤسس السريالية أندريه بروتون يدافع في بياناته وتصريحاته عن حقوق الفنانين, ويحثهم على عدم تقديم أي تنازلات لتلبية رغبات الجمهور, كان دالي من أكثر الفنانين التزاما بالسريالية, ولكنه ما لبث أن تمرد وأثار استنكار السرياليين, واتهموه بأنه (عبد للدولار), وفصلوه من عضوية المجموعة عام 1939, غير أنه صرح في لقاء صحفي, قائلا: (السريالية هي أنا).

كشف الأقنعة

أضاف دالي إلى السريالية المخيلة المفرطة والتقنيات المرئية التي طورها بجهد شاق وموهبة غير عادية أعطت أعماله نكهة خاصة وبراعة في التهريج والمغامرة, وتهذيب التخيلات والإصرار العنيد على الابتكار, واستطاع أن يجسد مخاوفه وذعره ورغباته ليكشف القناع الذي يضفيه العقل على الحقيقة.

إن انفصاله الدرامي عن والده كان واضحا في لوحته (العصر القديم لوليم تيل) 1931, أما ولعه بالأطعمة الغريبة فأوحى له برسم جالا وعلى كتفيها شريحتان من اللحم. ويتذكر دالي, في كتابه (الحياة السرية لسلفادور دالي) الذي صدر في عام 1942 بداياته جيدا فيقول: (في السادسة من عمري كنت أريد أن أصير ديكا, وفي السابعة أردت أن أصير نابليون, وكانت طموحاتي تكبر منذ ذلك الحين).

رسم دالي لوحة شهيرة بعنوان (تواصل الذاكرة) عام 1931, يظهر فيها عدد من الساعات التي تشير إلى الوقت, وهي تبدو مرتخية في حالة مائعة, وهو يذكر أن فكرة هذه اللوحة خطرت له عندما كان يأكل قطعة من الجبن. وتعكس غرابة أعمال دالي صورة من غرابة أطواره في حياته اليومية وفي أحاديثه وكتاباته, فهو يقول: (يمكن أن أقفز من النافذة إذا رأيت جرادة في الغرفة).

في المعرض السريالي الدولي الأول الذي أقيم في لندن صيف 1936, وصل دالي إلى إحدى القاعات ليلقي محاضرة وهو يقود كلب صيد سلوقيا, ويرتدي بزة غطاس ضيقة, سببت له اختناقا, بينما حضر ماكس أرنست إلى قاعة اللقاءات الصحفية بصحبة امرأة تغطي رأسها باقة كبيرة من الزهور, وهي ترقص.

وفي المعرض السريالي الذي أقيم في باريس عام 1938 عرض دالي في مدخل الصالة منحوتة (تاكسي المطر) حيث نجد سيارة يتساقط عليها الماء, وتزحف فوقها مجموعة من الحلزونات الحية.

رسم دالي لوحات بارعة عن أشعار لوتريامون (أناشيد مالدورر), وهي التي يراها السرياليون جزءا من امتدادات جذورهم المتعددة, لكنه حينما بدأ بتنفيذ سلسلة الرسوم الخاصة بكتاب (دون كيخوته) عام 1958 ابتكر أداة غير مألوفة في الرسم, هي بندقية قصيرة تطلق رشات من الحبر الصيني بدلا من الرصاص.

دالي وجالا

لم تكن جالا مثقفة, لكنها كانت قوية وذكية, تملك حساسية خاصة لتمييز المستويات المختلفة من الشعر والرسم, فكانت رفيقة للمبدعين, تلتقط إشاراتهم وتحرك أوهامهم وتنصحهم أو تشجعهم بأسلوبها الخاص. وهي تحب المال وهذا ما جعلها تدرك الأساليب المثالية لتسويق أعمال دالي, في الوقت الذي كانت فيه تمثل دور الملهمة الغامضة, حيث كانت صورتها حاضرة في أشكال مختلفة.

كانت جالا فتاة روسية تدعى إيلينا ديماكونوفا, جاءت إلى فرنسا بمفردها عام 1913 وهي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها, وأقامت في مصح للمعالجة من مرض السل, وبعد أربعة أعوام التقت بول إيلوار وتزوجت منه, ونذرت نفسها له حتى وقعت في غرام الفنان ماكس أرنست مع أن إيلوار كتب لها يقول بأنها ستبقى زوجته إلى الأبد.

وعندما ارتبطت حياة دالي بحياة جالا ظهر تأثيرها الواضح عليه وعلى أعماله الفنية, لأنها كانت حريصة على منع تخيلاته المتطرفة, في الحياة والفن, من أن تصبح حالة مرضية, وهذا الحرص الدائم كان سببا في الجاذبية المتصاعدة والمستمرة بينهما, إلى درجة أن دالي كان يوقع على بعض لوحاته باسمه واسم جالا, معا, وكان يكرر فكرته عن ارتباط اسم جالا بالعبقرية, حين يقول: (إن كل رسام جيد يريد أن يكون مبدعا, وينجز لوحات رائعة, عليه أولا أن يتزوج زوجتي).

دالي والسينما

في عام 1928 أبدى دالي اهتماما خاصا بالسينما والتصوير الضوئي, وكان قد نشر أربعة مقالات في هذين الموضوعين, وأنجز مع صديقه لويس بونويل فيلما مثيرا هو (كلب أندلسي) الذي كان ينسجم مع أفكار دالي عن الفن, وهو لا يحمل قصة أو حكاية, وإنما لوحات مشهدية غريبة, مشحونة بالأحلام والكوابيس والرؤى, حيث تظهر على الشاشة يد مقطوعة, ثم شرفة, ورجل يحمل شفرة حلاقة يراقب السماء, حيث تعبر غيمة نحو القمر المستدير, وعينا فتاة شابة تلمعان وتقترب إحداهما من الشفرة التي تبدأ بحزّ العين في مشهد مثير, هو من أقسى المشاهد في تاريخ السينما الصامتة.

وكان نجاح فيلم (كلب أندلسي) حافزا لكي يطلب أحد كبار الممولين من بونويل تقديم فيلم آخر, فسافر بونويل ليلتقي بدالي, حيث أنجزا سيناريو فيلم (العصر الذهبي) الذي عرض في باريس عام 1930, وجاء ترتيبه الثالث بين الأفلام الفرنسية الناطقة, وعلى مدى ستة أيام لقي الفيلم إقبالا واسعا, ولكن أعضاء المنظمات اليمينية المتطرفة هاجموا صالة العرض بتحريض من بعض الصحف وحطموا لوحات المعرض السريالي المرافق لعرض الفيلم, وألقوا الحبر والمتفجرات على شاشة العرض, وكسروا المقاعد, فقامت الرقابة الفرنسية بمنع الفيلم لمدة استمرت خمسين عاما. وصرح دالي بأن مساهمته في هذا الفيلم كانت تهدف إلى تعرية الآلية المنحطة للمجتمع الراهن.

في (العصر الذهبي) صور ومشاهد غير مألوفة, حيث نرى الأسقف والزرافة مقذوفين من النافذة, وعربة تقتحم صالون الحاكم, وعظاما وهياكل بشرية قرب الشاطئ, والشاعر جاك بريفير وهو يعبر الشارع, وبقرة تبرك فوق السرير, بعين مفتوحة, ربما كانت هي العين التي قال عنها دالي: (إن العين الواسعة للبقرة يمكن أن تعكس في بياضها الناصع صورة مصغرة لمنظر طبيعي), كما قال: (إن السينما يمكن أن تعرض حبة السكر على الشاشة كما لو كانت أكبر من منظر أبنية عملاقة). وكتب عام 1930 سيناريو فيلم طويل مع الرسوم لكنه لم ينفذ.

هاجر دالي إلى الولايات المتحدة عام 1940, وعمل هناك على مدى ثمانية أعوام في مجالات متعددة, وصمم الديكور لفيلم هيتشكوك (المسحور), كما كتب سيناريو فيلم رسوم متحركة أنتجته شركة (ديزني) بعنوان (داستينو), وكتب سيناريو فيلم (دون كيخوته) ولكنه لم ينفذ.

كما كان دالي مولعا بشخصية الممثلة الاستعراضية الأمريكية (ماي ويست), فرسمها في لوحة نصفية شهيرة, ممزوجة بواجهة صالة سريالية, كما صمم أريكة شهيرة تحمل صورة شفتيها الحمراوين.

 

بندر عبدالحميد 




 





الصخرة النائمة, 1937م





وجه جارسيا لوركا في شكل طبق فاكهة, 1938م





الحرب الأهلية, 1936م





صورة ذاتية للفنان, 1941م





النذير, 1938م