قبل جلد الذات لنُصالحْ السياسة والفكر

قبل جلد الذات لنُصالحْ السياسة والفكر

كتب الأستاذ صلاح السّاير في مقاله (دعوة صريحة لجلد الذات) المنشور بـ (العربي) العدد 529, يدعونا إلى (حرب مقدسة يتوجب شنّها ضدّ الذات متى ما أردنا الحياة ومشاركة البشرية هموم هذا الكوكب الذي نعيش فيه وعليه), ذلك (أن الحرب ضد الذات والقدرة على تفكيك العقل الجمعي والذهنية السائدة, ليست بدعة أو ابتكارا جديدا, أو وصمة عار منقوشة على الجبين العربي, بل اختيار تاريخي خاضته قبلنا الشعوب الحسية فاستحقت الحياة الكريمة, وتهرّبت منه شعوب أخرى تتوهم بأن ثقافتها فوق النقد وأرقى من المراجعة, فاختفت من المشهد الحضاري ولم يتبقّ منها سوى أشلاء محفوظة في متحف).

حماة الثغور

لا شك أن ما ينعم به الغرب من تفوق حضاري على كل المستويات, كان ثمرة لجهود المفكرين من أبنائه منذ ما سمّي بعصر النهضة الأوربية وبخاصة منهم فلاسفة الثورة الفرنسية من أمثال فولتير, وروسو, ومونتسكيو, وغيرهم, أو بمعنى آخر, هو ثمرة التفاعل وتصالح السياسة مع الفكر, إيمانا بأن علماء الأمة حماة مرابطون على ثغورها الفكرية والثقافية, كما أنّ جنودها حماة مرابطون على ثغورها الجغرافية, وأن قوتها ومنعتها كما تكون برجال الحرب تكون كذلك برجال العلم والفكر, وأن اقتحام عدوّها لثغورها وحدودها الجغرافية ليس أخطر من اقتحام عدوها لحصونها ومعاقلها الفكرية.. ولكن يبدو أن هذا التصالح لا يزال بعيد المنال في وطننا العربي مادام رجال السياسة مُعْرضين عمّا يقوله رجال الفكر من أبناء أمتهم, غير عابئين بما تحمله أقوالهم وكتاباتهم من مبشّرات وطروح للخروج من ربقة التبعية والتخلف.. ولو أردنا أن نبحث عن أدلة وحجج لهذه العقلية لضاق بنا المجال, وسأكتفي بما يسمح به هذا المقال من أمثلة:

1 - كتب عبدالرحمن الكواكبي منذ أكثر من قرن, بصراحة ووضوح يفوقان صراحة ووضوح فلاسفة النهضة الأوربية, كتابه الشهير (طبائع الاستبداد) حيث بيّن أن الاستبداد بمختلف أوجهه هو العمود الفقري لظاهرة التخلف على كل المستويات, وأن المواطن في ظل الاستبداد يفقد حبّه لوطنه ولا يتوانى لحظة في مُناصرة العدوّ الغازي لبلده, في محاولة يائسة لتخفيف وطأة الاستبداد عنه وعن إخوانه, دون التفكير في عواقب هذا العمل, وتوالت الكتابات بعد الكواكبي, تؤكد أنه لا نهضة للعرب المسلمين ولا تقدم ولا نهضة في غياب ديمقراطية شعبية تساهم فيها الجماهير الواعية والمندمجة والمنظمة, لتحدد شكل إدارة المجتمع ومضمون حركته وتصبح - الديمقراطية - أسلوب حياة كاملا للفرد والجماعة والإدارة والدولة, ذلك أن الواقع الاجتماعي واحتمالات المستقبل لا يحدّدها أهل القمة على انفراد ولا أهل القاع على انفراد, وإنّما تحدد عبر جدلية بين القاعدة والقمة, لكل من الطرفين فيها دور مميّز يتأثر ويؤثر في دور الآخر, ويُعتبر شرطا محددا لفعل الآخر ونتيجة من نتائج فعل الآخر في الوقت نفسه... قيل هذا الكلام منذ زمن طويل بصيغ مختلفة, وكنّا نأمل, بعد حصول دولنا على ما سمّي بالاستقلال السياسي, أن ندخل عالم الديمقراطية والحرية من الباب الكبير, ونعيد بالفكر والساعد ما ضاع منّا من عزة ومنعة, ولكن الذي وقع غير ذلك..

2 - كتب أكثر من مفكر عربي وغير عربي, خاصة بعدما عاشته أوربا من حربين كونيتين أظهرتا وحشية الإنسان الغربي, كتبوا أن الحضارة الغربية لا تستحق أن تكون نموذجا تقتدي به دولنا التي تبحث عن التنمية, وأن السبيل الوحيد أمامنا ونحن نبغي التقدم والتحضر, هو أن نتصالح مع ذاتنا ومع هويتنا الحضارية, أي مع هويتنا الإسلامية التي ما عرفت أمتنا العزّة والمنعة إلا في ظلها, لتصبح أمة ذات رسالة إنسانية, وأن يعاد تأصيل الإنسان العربي - المسلم في ثقافته الإسلامية التي شكلت شخصيته عبر التاريخ, لأن الثقافة, بتعبير مالك بن نبي (هي حياة المجتمع وعنوان تطوره, ورباط الوحدة بين أبنائه, من دونها يصاب بالتشتت والتفكك فينهار بنيانه ويسير في طريق التخلف وتغيب فيه الحركة والنشاط, ويقل عطاؤه وينضب, فيصحّ تسميته مجتمعا ميّتا).. وقالوا إن أي مشروع مستقبلي للبلاد لا يراعي معطياته التاريخية, مآله الفشل, لأن أوّل البناء في تكوين الأجيال هو الإيمان بذاتية خاصة لها قيمها ووجودها وكيانها وتاريخها مختلفة عن غيرها.. وهو - للتذكير - الطريق نفسه الذي سارت عليه أوربا في نهضتها حين تصالحت مع هويتها وعادت إلى جذور ثقافتها اليونانية المسيحية.. قالوا هذا وأكثر منه, ولكن أقوالهم ظلت محبوسة في طيات الكتب والمجلات, ولم تجد من يحوّلها إلى مشروع حضاري.. ولا تسل بعد ذلك عن الواقع.

مضاعفات التطرف

3 - كتب أكثر من مفكر - من المسلمين ومن غير المسلمين - أن ظاهرة ما اصطلح على تسميته بالتطرف, ليست جديدة على الساحة العربية, ولسيت حكراً أو وصمة في جبين شعب دون شعب من شعوب العالم ولا طبقة دون طبقة.

وكتب أكثر من مفكر أن التطرف ظاهرة لها أسبابها الموضوعية, وهو مؤشر انعكاس لتعثر النظام السياسي والاجتماعي في مواجهة الأزمات الداخلية أو الخارجية, والذين يتطرفون هم أكثر الناس حساسية بنتائج ومضاعفات هذا التعثر, إنهم ضحايا فشل النظام, بل إن ما يبدو في نظر السلطة تطرفا قد يكون في الواقع صيغة أيديولوجية للتعبير عن أوضاع حضارية واقتصادية واجتماعية وسياسية تعاني منها شرائح معينة في المجتمع أكثر من غيرها, فيصبح بالتالي - التطرف - هو الصيغة الوحيدة البديلة للاستغاثة والتعبئة والتحدي.. وأياً كانت مظاهر التطرف وأسبابه, فهذا ليس موضوع حديثنا ولسنا نبرّر وجوده, ولكنه - التطرف - ظاهرة اجتماعية لا تُتَناول بمثل هذه السهولة وهذا الارتجال, مثلما تفعل الصحف السيارة في أوطاننا, التي أصبح لها الكلمة الفصل في تحديد الموقف والقرار السياسيين.. هذه بعض من أمثلة عديدة لغياب المصالحة بين الفكر والسياسة في أوطاننا والتي أبقتنا في ربقة التخلف والتبعية, وقد قُدر لنا أن نصالح بينهما في يوم من الأيام لتغيّر حالنا إلى ما هو أفضل, وعندها فقط يكون جلد الذات - إذا كنا لم نجلدها بعد - نافعا ومفيدا, وعندها فقط نتحوّل من موقف المازوشستي والملتذ بِجَلْدِ ذاته وتعذيبها إلى موقف الفاعل في تاريخ الإنسانية... اللهم هل بلغت? فاشهد.

 

محمد الصالح عزيز

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات