العرب ودُماهُم المتحرِّكة منى سنجقدار شعراني

العرب ودُماهُم المتحرِّكة

ولدت فكرة المحاكاة لدى الإنسان منذ بدء الخليقة, محاكاته للطبيعة, أو للكائنات الحية حوله, وحين أَصَّل العلماء والمفكرون تلك الفكرة, وجدت طريقها إلى الحياة العامة, من مرابع اللهو والهزل, إلى مراتع الجد والعمل.

بدأت الفكرة بقناع يخفي الحقائق ويتغنى بالمعجزات, ثم تحولت الى صنم أو تمثال يتكلم بلغة الآلهة, وما لبثت أن تحررت وتركت ذلك الدور لتستقر بين أيدي الاطفال تمرح وتلعب معهم في كل آن. فهي العروس والراقصة والمغنية, وهي الجندي بخطواته الايقاعية, والرياضي بحركاته البهلوانية, وعازف الناي بموسيقاه الانسيابية. دخلت القصور بأزيائها التراثية, وأخذت مكانها في مجالس اللهو بقرب علية القوم, ولبست الثياب الحريرية والحلي الذهبية وأصبحت محط الأنظار ومفخرة السلاطين أمام أعين الزوار. انطلقت سيرتها على كل شفة ولسان, وأصبحت بطلة القصص الشعبية والحكايات المروية.

لم تكتف (الفكرة) بهذا الانتصار بل دخلت إلى المعامل والمصانع متباهية بقدراتها الفنية ومتعالية على مبتدعها الذي يسعى إلى تسهيل الحياة البشرية. احتلت مركزا مرموقا في أكبر وأعظم الشركات, حتى شردت ألوف العمال في شتى الصناعات وفرضت نفسها على الحياة الصناعية متحدية العقول البشرية التى تسعى إلى تسجيدها بأثمن المعادن, وترويجها الى أعظم الأماكن. ولاتزال حتى يومنا هذا الشغل الشاغل للفنيين والعلماء والتقنيين. قصة طريفة نرويها بأبعادها التاريخية وتطوراتها الفنية والتقنية في رحلة طويلة تتجاوز القرون السبعة (القرن الثالث الهجري - القرن العاشر الهجري) في بلاد العرب والإسلام التي قفزت حضارتها قفزة نوعية في تلك الفترة الزمنية.

الدمى المتحركة أول الحكاية

ترجع الدمى المتحركة إلى عهود غابرة حيث ظهرت على شكل أقنعة أو أصنام تتحرك أجزاء منها بواسطة يدي الإنسان. اقترنت هذه الدمى بالطقوس الدينية, إذ نقرأ في كتاب (الموتى) ما مفاده أنه عند المصريين القدامى, وفي الحفلات الجنائزية, كان الكاهن يرتدي قناع المعبود أنوبيس (إله الموت)- وهو على شكل ابن آوى - فيقترب من تابوت الميت وبيده آلة لها شكل غريب يحركها, وهو يتلو بعض التعاويذ, لكي تطلق لسان الميت في الآخرة.

ونشأت أيضا في بعض مواطن الحضارات القديمة تقاليد دينية, اتخذت من الدمى المتحركة أصناما وأوثانا تقدم لها الفديات البشرية أو الحيوانات. وقد أشار دونالد هاردن, الى تقاليد كانت تقام حتى القرن الثاني قبل الميلاد, في مواطن الحضارات الفينيقية على امتداد شمالي إفريقيا, حيث كانت الآلهة القديمة تصنع من البرونز على هيئة تمثال مادا ذراعيه, توضع عليهما الأطفال الصغار فتنثني الذراعان وتقذفان بالأطفال وسط النار المشتعلة تحت التمثال.

وكتب ولكنسون في كتابه عن العادات والتقاليد عند قدماء المصريين يصف مجموعة من لعب الأطفال كانت تثبت بواسطة خيوط تيسر حركة الأطراف وكانت تصنع من الخشب

وطرأت تغييرات مهمة لجهة الشكل وطريقة العمل على الدمى المتحركة, بين العهود القديمة وعهد ما قبل الميلاد, وتحديدا في القرنين الثالث والثاني, حيث تحولت الدمى المتحركة من أصنام تعبد - تصنع من الخشب أو الطين, وتحرك بواسطة الإنسان أو الخيطان - إلى رموز للتسلية أو لتجسيد الحياة العملية في المجتمع.اعتمدت المعادن في صناعتها وتركزت حركتها على ثقل الماء, و قوة ضغط الهواء أو وزن الأثقال, وذلك تطبيقا للنظريات العلمية المعتمدة في علمي الطبيعة والرياضيات وغيرهما من العلوم التي انتشرت في هذا العهد, عهد مدرسة الإسكندرية التي ضمت نخبة من علماء اليونان أمثال كستبيوس, فيلون البيزنطي وهيرون الإسكندري وغيرهم.

الدمى المتحركة عند العرب

لم يهتم العرب قبل الإسلام بالدمى المتحركة, وقد اقتصرت اهتماماتهم على تعظيم الأصنام وعبادتها. نجد في كتاب (الأصنام) لابن الكلبي وصفا للوثن (هبل) حيث قال: (وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة إنسان, مكسور اليد اليمنى, أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب...). كذلك وصف ابن كلبي الوثن (ود) بقوله: (تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال... عليه سيف قد تقلده...)

بعد الإسلام تغيرت المفاهيم والطبائع وتحولت الوثنية, إلى عبادة الخالق, وأصبح شغل العرب الشاغل الذين اعتنقوا الدين الإسلامي تنفيذ تعاليم الدين الحنيف ورفع رايته. بعد أن استقرت تلك الراية في بقاع الأرض اتجه اهتمام الخلفاء والأمراء والحكام الذين توارثوا الحكم في البلاد العربية والإسلامية إلى رفع راية العلم. من القرن الثاني إلى القرن العاشر للهجرة (الثامن إلى السادس عشر للميلاد ) ظهرت نهضة علمية مميزة في جميع ميادين العلم والمعرفة.ولم يكن هناك تخصص في علم واحد بل ولج العالِم حقولاً عدة فكان فيلسوفا وموسيقيا ورياضيا وفيزيائيا, طبيبا ومهندسا وشاعرا, فلكيا وميكانيكيا ورياضيا. وتحلى العالم العربي بالأمانة العلمية, فلم ينسب لنفسه ما ابتدعه أسلافه بل كان يصرح بما اكتشفه هو, ويناقش ويحلل أراء من سبقوه. لم يقتنع العالم في تلك الحقبة من الزمن بالنظريات العلمية بل أخذ يطبقها في حياته العملية ومختبراته العلمية. احترم الحرفيين والعمال بعد أن كان اليونان يحتقرونهم, وانتقل الفكر العربي من المنطق التجريدي إلى منطق التجربة والبرهان, فلا عجب اذن أن يهتم العرب بصناعة الدمى المتحركة, التى اعتمدت في تركيبها وعملها على المفاهيم النظرية للهندسة الميكانيكية.

ونستعرض فيما يلي بعضا من أعمال أهم العلماء الذين عملوا في هذا الحقل وفقا للتسلسل التاريخي:

بنو موسى بن شاكر : محمد وأحمد وحسن (القرن الثالث الهجري):

إخوة ثلاثة عملوا في حقول عدة (الرياضيات- الفلك - علم الحيل) - فقدت معظم مخطوطاتهم. ومنها تلك التي تتعلق بوصف الدمى المتحركة لكننا نعتمد على ما ورد في كتاب الحكيم بن ريان الطبري (فردوس الحكمة). يصف الطبري ساعة نحاسية هائلة أقيمت بمرصد (سر من رأى) من صنع الأخوين محمد وأحمد. (كانت تلك الساعة تسير بدفع الماء فتمثل أبراج الشمس, فما تكاد نجوم وأجرام السماء تشرق أو تغرب حتى تشرق الدمى أو تغرب تبعا لصورها الممثلة في تلك الساعة التي تستمر في دورانها بهذه الكيفية طوال العالم. وكانت في هذه الساعة دمى تصدر في مواعيد محددة بعض الأصوات أو الأنغام, ومن الدمى ما كان على شكل طير يغرد في مواقيت محددة..)

وفي مخطوط: (الآلة التى تزمر بنفسها) وصف دقيق لزامر آلي لا يتسع المجال لسرده ونكتفي بالرسم الذي استخلصناه من الوصف, علما بأن المخطوط لا يحتوي على أي رسم.

أما أبو العز إسماعيل بن الرزاز الجزري (أواخر القرن السادس الهجري) فهو مهندس وميكانيكي ترك مخطوطا مميزا يحمل عنوان (الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل) ضمنه مواضيع عدة تتعلق بالهندسة الميكانيكية كالساعات وآلات رفع الماء والآلات الروحانية (أي المسلية) وغير ذلك. أما بالنسبة للدمى المتحركة فقد ظهرت في وصف الساعات المائية, وكذلك في الآلات الروحانية, ننتقي منها ما ورد في هذه الأخيرة نظرا لسهولة فهمها.

كأس تحكم في مجالس الشراب

هي كأس متخذة من فضة مستطيل الشكل وعلى رأس الكأس غطاء مسطح مخرم وفي وسط الغطاء قبة وعلى القبة طائر قد فتح منقاره ودون حافة الكأس بلبلة لطيفة. إن الساقي يأتي بالكأس ويضعها في وسط المجلس ثم يصب على غطاء الكأس شرابا فيدور الطائر ويصفر, وعندما يقطع الصب يقف الطائر وينتهي الصفير.فمن وقف أمامه حكم عليه بالشرب, فإذا شرب وترك شيئا صفر الطائر ولا ينقطع صفيره إلا إذا لم يبق في الكأس شيء.

وللدلالة على عبقرية الجزري في الوصف الدقيق ومدى إتقانه للصنعة, ننقل حرفيا ما ورد في المخطوط لصنع هذه الكأس. يقول الجزري: (تتخذ كأس من فضة مستطيلة الشكل جالسة على كعب تقبضه الكف, ثم يتخذ لها غطاء مسطح, في وسطه قبة لطيفة ويخرم جميع الغطاء والقبة. ثم يتخذ بطة من فضة ويذهب منها ما يذهب وينقش وتتخذ لها رجلان من أصول فخذيها تتحركان, ويتخذ فيما بين فخذيها من بطنها ثقب مربع. ويفهم أن جميع ما يتخذ من داخل الخزانة هو من رصاص قلعي ونحاس مرصرص..)

على هذا المنوال المميز يصف الجزري آلاته فهو يدخل في أدق التفاصيل التقنية مع القياسات الدقيقة لكل جزء من أجزاء الآلة ونوعية المعدن المستعمل. ويذهب إلى أبعد من ذلك في تحديد مزج المعادن والنسب المناسبة لصنعة مميزة.

الجارية والخزانة

في صفة ظاهر الصورة ومعناها (النص مأخوذ من المخطوط) (وهي خزانة من الخشب لها باب عليه مصراعان مطبقان, ولتكن هذه الخزانة, الى جانب ملك في مجلس شراب, وهي لطيفة الصنعة مغرقة بالنقوش. وعند مضي ثمن ساعة ينفتح المصراعان عن جارية قايمة في الباب بيدها اليمنى قدح من زجاج مملوء من شراب وفي يدها الشمال منديل لطيف فيأخذ الملك القدح ويشرب ما فيه من الشراب, ويعيد القدح إلى يدها وإن شاء مسح فاه بالمنديل, ثم إنه يطبق عليها المصراعين). وعند مضي ثمن ساعة يعاد العمل كالسابق.

بعد هذه المقدمة يشرح الجزري بالتفصيل كيفية عمل كل جزء من أجزاء الدمية مع تبيان المقاييس المطلوبة إلى جانب نوعية المعدن أو الورق المستعمل كما يعمد إلى شرح كيفية تركيبها.

وإذا ما تابعنا الرسم نرى أن الخزانة تعلوها قبة مخصصة للشراب, في أسفل القبة ثقب يتسرب منه الشراب إلى الكفة ومنها من ثقب في أعلى الخزانة إلى القدح الذي بيد الجارية. عند ذلك تثقل يد الجارية فتنحني إلى الأمام حول محورها وتجري على الدولابين التي تقف عليهما لأن السطح الذي تحت الدولابين مائل إلى الأمام. بذلك يفتح مصراعا الباب وتظهر الجارية.

يقول الجزري: (يأخذ الملك القدح من يدها ويشرب ما فيه وان شاء مسح فاه بالمنديل, ثم يضع القدح في يدها ويدفع الجارية برفق إلى أن يمنعها مانع ويرفع يدها إلى فوق فينطرح طرف القضيب المعطوف على السفود, ولا يتبين ذلك لمن حضر, ومعظم ما يرى أنه وضع القدح في كف الجارية وأطبق المصراعين وكذلك يجري الأمر في كل ثمن ساعة.)

وتبقى ملاحظة عن الكفة وهي عبارة عن وعاء صغير له شكل مميز كما هو في الرسم ومثقل أسفله, بحيث يبقى سطحه موازيا للأفق وهو ملآن أو فارغ. أما إذا أضيف إليه ولو قطرة ماء فوق استيعابه انقلب وفرغ كل ما فيه.علما بأن هذه الكفة هي من التقنيات المعتمدة عند الجزري ومن تخصصاته.

الطست وكم الدم!

لقد وصف الجزري عددا من هذه الآلات التي تستعمل لفصاد الدم ومعرفة كمية الدم المفصود. والشكل يوضح في أعلى الرسم أحدهما يحمل في يده اليسرى لوحا وفي يده الأخرى قلما. والآخر يحمل عصا يدور بها على دائرة رسمت أمامه. يجلس الكاتبان على سقف قصر فيه اثنا عشر بابا ولكل باب مصراعان يختبئ خلفهما صبي يده اليمنى عاقدة عشرة, ويظهر فوقه فتحة ظهر منها يد عاقدة أيضا عشرة..يرتكز القصر على أساطين يمر في داخلها حبال, علق فيها أثقال أو عوامات. ويلاحظ وسط الرسم بكرة كبيرة وبكرتان صغيرتان إلى جانبها.

يقول الجزري: (من الواضح الجلي متى وضع الطست بين يدي من يُريد الفَصْدَ على ما تقدم, وندى أرضه بقليل من الماء وفصد ووقع الدم, الى أرض الطست من الدم درهم فإن قلم الكاتب يتحرك ويسامت رأس قلمه كتابة درهم ويرتفع اللوح ويوازي رأس قلم الكاتب كتابة درهم, وكذلك حتى يكمل عشرة, دراهم. وحينئذ ينفتح المصراعان الطويلان عن باب فيه صورة صبي عاقد عشرة وعن كوة فيها يد عاقدة عشرة وكذلك يتوافق الكاتبان على درهم درهم حتى يكتمل عشرون درهما فينفتح المصراعان اللذان يليانهما عن باب فيه صورة صبي عاقد عشرين بيده وعن كوة فيها يد عاقدة عشرين, وكذلك حتى تنفتح جميع المصاريع عن الأبواب...)

تقي الدين الدمشقي

كان تقي الدين بن معروف قاضيا فلكيا مهندسا وميكانيكيا في أواخر القرن العاشر الهجري, ترك عدة مخطوطات في حقول مختلفة.أما بالنسبة إلى الدمى المتحركة, فنجد في مخطوط (الطرق السنية في الآلات الروحانية) بعضا منها. الا أن التقنيات التي استعملها تقي الدين تختلف عن التقنيات التي استعملها الجزري. على سبيل المثال نصف دمية تحمل عنوان (سرير العاشق). يقول تقي الدين: (وهو صندوق لطيف عليه شخصان متقابلان أحدهما بوجهين وجه مليح ووجه قبيح فإذا أدير الوجه المليح كان الشخص المقابل له مقبلا بوجهه عليه مادا يده إليه بتفاحة أو زهرة أو غير ذلك, وإذا أدير إليه الوجه القبيح انصرف بوجهه عنه وأدار ظهره إليه وجمع يده بما فيها إلى صدره).

وحيث إن الرسم مفقود في المخطوط عمدنا إلى إعادته وفقا لشرح تقي الدين, ونلاحظ هنا أن تقي الدين استعمل تقنية لم ترد عند من سبقوه, فهي عبارة عن سير جلدي سمره بين البكرتين حاملتي الشخصين.

قد يتساءل القارئ ما هي حال الدمى المتحركة في الفترة الزمنية, الواقعة بين عهد بني موسى والجزري, وبين هذا الاخير وتقي الدين ?

لم تمت صناعة الدمى المتحركة في هاتين الفترتين, وبإمكاننا متابعتها في المراجع التاريخية, وحكايات الرحالة والقصص الشعبية, حيث لا يتسع المجال لذكرها.

ولا بد لنا من التنويه بما أنجزه العرب في هذا المجال فلم يكن الهدف من صناعة الدمى المتحركة التسلية فقط, كما اتهمهم بعض المستشرقين ولم يكونوا مجرد نقلة لعلوم اليونان بل أبدعوا في هذا المجال, وأن اهتمامهم بآلات التسلية لم يمنعهم في الحياة العملية من استغلال المعرفة والخبرة التكنولوجية في صنع الآلات المفيدة للمجتمع. وأن تعليق الكاتب Price (في كتاب العلم والعمل النافع في صناعة الحيل للجزري أبو العز إسماعيل, والذي حققه الدكتور أحمد يوسف الحسن) بعد مطالعته ترجمة كتاب الجزري بالإنجليزية يفي حق العرب في هذا المجال, حيث يقول: (إن أهم انطباع يكونه المرء هو أن هذه التكنولوجيا الغنية للألعاب الفلسفية التي سارت على نهج هيرون الإسكندراني ليست نوعا من اللهو التافه لمجتمع مترف أو مجتمع يكثر فيه استخدام العبيد, بحيث تشغل الناس وتصرفهم عن الاهتمام بالآلات المفيدة, بل إنها تمثل الإنجاز أو التيار الرئيسي للمهارات الميكانيكية الدقيقة التي استمرت وازدهرت في الأجيال اللاحقة, في ورشات صانعي الساعات وصانعي الأجهزة العلمية, تلك التكنولوجيا التي كانت القوة الدافعة الأساسية وراء كل من الثورتين العلمية والصناعية).

 

منى سنجقدار شعراني 




الدمي المتحركة عند هيرون الاسكندري





الجارية والخزانة





الزامر الآلي - بنو موسى بن شاكر





كأس تحكم في مجالس الشراب





طست القصر يعرف من كمية الدم الحاصل فيه





سرير العاشق - تقي الدين