شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

راهبة الدير

كان زعيماً للإرهاب... ولكنه يدّعي أنه راعي الحرية والمساواة. بينما حصدت المقصلة آلاف الأحرار من الثوار الفرنسيين ممن اعتبرهم بعض أعدائه خلال مرحلة زعامته لحكم الإرهاب الذي استهدف التخلص ممن سماهم بالخونة... وهم في عرفه كل معتدل يجرؤ على انتقاده أو نقد رجاله وأعمالهم.

كانت الثورة الفرنسية في ذلك الوقت قد بدأت تنقلب على نفسها وعلى المخلصين من قادتها. وكان (مارا) أحد قادة عصر الإرهاب الجديد برغم أنه في أول أمره كان يسمى (صديق الشعب). وإذ كان في أعماقه مبنيا على سوء الظن, فقد كان يرى الخونة في كل مكان, ولا يفتأ يحرض الشعب على العنف وإهراق الدماء ما جعله يصبح مستحقا للقب (السفاك). وكان عصره هو العصر الأوسط في تاريخ الثورة وهو عصر الإرهاب بزعامة روبسبيرو مارا... بينما كان العصر الأول هو عصر الجيرونديين وهم الجمهوريون الديمقراطيون, أما العصر الثالث فكان ما سمي بعصر الاعتدال.

وهكذا كان (مارا) من العصر الأوسط الذي لا يحفل بالأشكال القانونية, ومن أنصار الدكتاتورية الباريسية والقبض على السلطات كلها بيد من حديد. وإذ كان هؤلاء هم نواب باريس وضواحيها, فقد أعلنوا أن باريس هي التي أنقذت البلاد من القوى الرجعية المتهاونة المتمثلة في الجيرونديين الذين انهاروا بعد أن تغلب عليهم الإرهابيون حتى قضوا عليهم, خاصة بعد أن حققوا الأغلبية في المؤتمر الوطني بإصدار الحكم بإعدام الملك لويس السادس عشر الذي سيق إلى المقصلة في 21 يناير1793 مما آذن بكوارث في الداخل والخارج وحرب طاحنة بين أوربا والثورة وما تبع ذلك من انتشار الفتن والاضطرابات الداخلية.

الراهبة شارلوت

في ذلك الوقت ظهرت على صفحة الأحداث الراهبة (شارلوت كورداي). كانت شارلوت فتاة فرنسية تنتمي إلى أسرة شريفة قديمة. ونشأت في وسط بعيد عن الريف والطبيعة, ثم قضت صباها في أحد الأديرة كراهبة متدربة, حيث لقّنت القراءة والكتابة وجال فكرها جولة صغيرة في الكتب المقدسة. وحين خرجت من الدير لزمت عمة لها عجوزا كان بمنزلها بعض الكتب التهمتها التهاما. وشغلت الفتاة بكتب التاريخ والتراجم حيث امتلأ رأسها بقصص المجد والبطولة والتضحية, فكانت أمنيتها الدائمة أن تخدم بلادها ويخلد ذكرها في صفحات التاريخ وتقرن ترجمتها إلى تراجم أولئك الأبطال الذين قرأت عنهم وأعجبت بكفاحهم...!

حين نشبت الثورة الفرنسية وهي في حوالي العشرين من العمر اهتمت بها وأخذت تدرس أسبابها وترقب تطورها وتتابع شخصياتها. وغذت معرفتها بالثورة من خلال بعض الشباب الذين كانوا يلتقون في دار عمتها. وكان من بينهم شاب ألماني اسمه (آدم توكس) كان غارقا في متابعة أحداث الثورة.

تأثرت شارلوت كورداي كثيرا بكل ما يحكيه آدم من تعاطف مع العامة لقيامهم على الحكومة الملكية ورغبتهم في إسقاطها. وتذكرت الفتاة كيف رأت بعينيها عسف النبلاء والموظفين بالأهالي الذين كانوا يئنون من الضرائب الباهظة المتوالية حتى عمّ الفقر البلاد وشمل الشقاء جميع الطبقات عدا الأشراف والموظفين وكل من له اتصال بالبلاط الملكي. وحين قامت الثورة وحققت نجاحها الأول وأسقطت الباستيل شملها الفرح والابتهاج لانتصار العامة. إلا أنها مع متابعتها لأحداث الثورة وتقلباتها مع ما كان يحكيه لها (آدم) عما كان يجري في باريس من تآكل الثورة التي أكلت أبناءها بعد أن تولى قيادتها فئة من الغلاة راحوا يسيرون على طريق التقتيل واضطهاد المخالفين لمذهبها القائلين بالتروي والاعتدال. وحكى لها آدم ما كان يجري في باريس على أيدي فئة الإرهابيين بزعامة روبسبير مارا الذي استطاع أن يتولى الأمر وحده في قمة عصر الإرهاب.

سيطر على رأس شارلوت أن مارا أصبح زعيم الفئة السفّاكة بعد أن وجدت أن المقصلة لم تعد تهدأ عن قطع الرءوس وخاصة ممن كانوا من الجيرونديين الذين كان أغلبهم ممن يقيمون في نورماندي موطنها. وكانت تغشى اجتماعاتهم وتشرب آراءهم المعتدلة. وهنا قر قرارها أن تذهب إلى باريس وتقتل السفاك مارا...!

غرام بعد المقصلة

وصلت شارلوت كورداي إلى باريس وراحت تتحسس الطريق الذي يوصلها إلى مقر غريمها مارا. وخلال بحثها عرفت الفتاة أن السفاك لا يظهر كثيرا للناس بل كان يقيم في داره حيث يصدر كل قراراته بالقتل والتعذيب وقطع الرءوس بالمقصلة. وعرفت شارلوت أنه كان يعاني مرضا جلديا رهيبا أصابه حين قضى فترة هروبه من أعدائه الجيرونديين عندما كانوا يتولون الأمر, فلجأ إلى إنجلترا ليعود بعدها ليختفي منهم في مكان لا يخطر ببالهم. لم يكن هذا المكان سوى سرداب تجري فيه أوساخ مراحيض باريس. ومن هناك كان يرسل على أعدائه سهاما من المقالات المسمومة ويحرض عليهم العامة. وناله من مقامه في ذلك السرداب تقيحات شنيعة تقذي عين الناظر وتؤلمه أشد الألم. وانتهت به الحال إلى أن يخفف وطأة ذلك المرض الجلدي الشنيع بأن يقعد طول نهاره في حوض ماء دافئ لا يرى أحدا ولا يراه أحد.

من باريس أرسلت شارلوت إلى مارا ورقة تقول فيها: (أيها المواطن العظيم, لقد وصلت من كاين بنورماندي هذه الساعة, وليس من شك في أن حبك لبلادك يرغبك في أن تعرف الحوادث التي حدثت في نورماندي على أيدي أعدائك. وسأزورك بعد ساعة. فأرجو من إحسانك أن تتكرم بمحادثتي وسأفيدك بما فيه منفعه فرنسا...)!

رفض مارا أن يستجيب للفتاة ثلاث مرات, ولكنها جاءت في المرة الرابعة وأخذت تتكلم بصوت مرتفع مع الخادم وتلح في رؤية مارا لمصلحة الوطن... وسمع مارا صوتها فاستدعاها, وكان قاعدا في حوض يغمر الماء الدافئ معظم جسده وهو يقرأ ويكتب. فلما دخلت حيّته وأخذت تصف له جماعة الجيرونديين المعتدلين في بلدتها وما ينوون ارتكابه. فلما سمع مارا ذلك قال لها:

(جميع هؤلاء الذين تذكرينهم سيقتلون قريبا تحت سكين المقصلة..)

وكانت شارلوت قد أخفت سكينا أخرجته من صدرها وطعنت مارا به طعنات عدة مزّقت قلبه ورئته. وصاح مستغيثا فدخلت خادمتاه وأوثقتا شارلوت ليسلماها إلى المخفر لتقدم بعد ذلك إلى المحاكمة.

المقصلة في الانتظار

في يوم المحاكمة تزاحم الناس لرؤية راهبة الدير التي نجحت في تخليص فرنسا من السفاك وكان من بين المتزاحمين الشاب الألماني آدم لوكس. وأطل الفتى إلى الفتاة التي وقفت على المقصلة بثبات. كان وجهها يجلله شعر جميل يزيد حسنه منديل أبيض وفي عينيها يتجلى جد ووقار مع وجه ينبض بالصحة الوفيرة, وقد احتقن بفعل الشمس والهواء الطلق. تكسو كل ذلك هالة قدسية من التضحية وبذل النفس في مصلحة الوطن, وقبل أن يهوي سكين المقصلة على عنقها سمعها بأذنه وهي تقول:

(حسبي أني أديت واجبي... وما عدا ذلك فباطل).

وهتف آدم لوكس يلعن القضاة الذين حكموا عليها بالإعدام. وأذاع في الناس رسالة قال فيها:

(ليست المقصلة عارا الآن إذ قد صارت منذ 17 يوليو مذبحا غسل من كل دنس بهذا الدم البريء).

وانتشرت الرسالة بين الناس. وقبض على آدم لوكس وقدم إلى المحاكمة. ولأنه كان ألمانيا, فقد كان القضاة الذين سبّهم يميلون إلى تبرئته على شرط أن يجحد ما قاله وأن يعود إلى ألمانيا. ولم يكد آدم يسمع ما يطلبه القضاة حتى عاد يسبهم ويشتمهم ويحقرهم ويمجد ذكر شارلوت التي ستصعد برغمهم إلى السماء...!

وحكم عليه بالإعدام... وسار إلى المقصلة مستبشرا واثقا أنه أدى ما عليه نحو شارلوت كورداي.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات