إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

الحب أعزّك الله!

لو بُعث ابن حزم الأندلسي من رقاد القبور وقيل له إن كتابه في الحب «طوق الحمامة/ في الألفة والأُلاّف» قد صدرت منه منذ طبع لأول مرة بالعربية عام 1914، بعد أن اكتشفه المستعربون، عشرات الطبعات، وإنه نقل إلى اللغات الأجنبية وحوله كُتب ما لا يحصى من الدراسات، في حين فقدت مؤلفاته الأخرى في الفقه والسياسة وسواهما كل اهتمام كان لها في زمانه، فلربما فقد عقله. ذلك أن ابن حزم كتب هذا الكتاب ذا الطابع الرومانسي في مقتبل عمره ولم يعد إلى مثله أبدًا. فقد شغلته انشغالات أخرى أكثر أهمية من الكتابة في الحب منها الوزارة التي وُليها مرتين، ومنها السياسة التي أحرقته في أتونها. ومع أن الباحثين يحصون له ما لا يقل عن أربعمائة مؤلف، إلا أن «طوق الحمامة» كان طوق نجاته الوحيد وطوق عبوره إلى زماننا الراهن لا لشيء إلا لأن موضوعه كان عن هذه العاطفة الغلابة التي كثيرًا ما تجتاح القلوب فتحولها إلى نوع من المناطق المنكوبة.

والغريب أن ابن حزم الذي كتب «طوق الحمامة» قبل أكثر من ألف سنة، لم يفقد كتابه جدّته ونضارته إلى اليوم. وتبدو آراؤه حول الألف والأُلاّف، بلغة عصره، أو حول الحب والمحبين، بلغة عصرنا، عصرية تمامًا. فتشخيصه في جوهره، مماثل لتشخيصنا. «الحب، أعزك الله، داء عياء وفيه الدواء، ومقام مستلذّ، وعلّة مشتهاة، لا يود سليمها البرء منها ولا يتمنى عليلها الإفاقة». ولنتأمل جمال كل عبارة ودفئها ونزولها منزلها. والحب «أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة».

وردا على كل من يقف بوجه الحب أو ينهى عنه، يضيف ابن حزم أن الحب ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة إذ القلوب بيد الله عز وجل. «وقد أحبّ من الخلفاء المهديين والراشدين كثير، ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل»!

يطرح ابن حزم في هذا الكتاب أسئلة حارقة مؤرقة حول طبيعة هذا الزائر الغريب: ما هو الحب؟ كيف يولد وينمو ويموت؟ وهل هو مرض؟ وهل نستطيع أن نبرأ منه؟ وهل هناك أشخاص معرّضون أكثر من سواهم «لفيروساته»؟ وفي فصوله يروي جوانب من تجربته وجوانب من تجربة سواه. من بين هذه الفصول فصل يتحدث فيه ابن حزم حديثًا حزينًا عن جاريته «نِعَم» (بكسر النون وفتح العين) التي ماتت وهي دون العشرين من العمر: «كنت أشد الناس كلفًا وأعظمهم حبًا بجارية لي كانت مني خلد اسمها نعم فجعتني بها الأقدار. ولقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرّد من ثيابي ولا تفتر لي دمعة عليها».

هذه الحكاية التي يرويها ابن حزم تدل على أصالة معدنه وعلى كرامات مزروعة في ذاته. هو يحزن مثل هذا الحزن على جارية له ماتت وهي نضارة الصبا. وفي حكايات أخرى له نجد عفّة وإشادة بالتعفف. و«كثيرون من الناس يطيعون أنفسهم ويتبعون أهواءهم ويتجنبون ما حضّ الله عليه ورتّبه في الألباب السليمة من العفة وترك المعاصي»!

حيّرت مثل هذه الفقرات في «طوق الحمامة» المستعربين الأوربيين وبخاصة الإسبان منهم فاستندوا إليها - في جملة ما استندوا - لإعطاء ابن حزم هوية غير هويته العربية الإسلامية. قالوا إن هذه الفقرات عن التعفف في الحب دليل آخر على أن ابن حزم من أصول إسبانية مسيحية لأن العرب والمسلمين لا يلحّون على التعفف مثل هذا الإلحاح، غير متنبّهين إلى أن الحب العذري الذي «فوجئوا» به في «طوق الحمامة» إنما هو صناعة عربية قديمة، وأن للعرب براءة اختراعه.. لم يلتفت هؤلاء إلى تراث الشعراء العذريين العرب ولا إلى قبيلة بني عذرة القديمة ولا إلى نمط حياة كامل لهذه القبيلة في التعفف، ولا إلى أن جد ابن حزم قدم إلى الأندلس في مرحلة مبكرة مع الأمير عبدالرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بعبدالرحمن الداخل.. فاستكثروا علينا حتى نزعة تطهر وعذرية، وبحثوا لها عن نسب غير نسبها الأصلي!.

 

جهاد فاضل