إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

أفلاطونية

عاد ولدي الأصغر من المدرسة منفعلاً بألم, وبدلاً من أن يبادئني بإفراغ آخر أو أقوى ما علق بذهنه من ذكريات اليوم المدرسي, كنسيانه سؤالاً في اختبار الشهر, أو عدد المرات التي جعلت المعلمة أولاد صفه يصفقون له فيها, أو فقدانه قلمه أو مسطرته, أو إتيان أحد الأولاد بتصرف مضحك.. بدلاً من هذا كله اندفع مختنقاً بالشكوى يخبرني أن هناك ولدا أكبر منه في المدرسة يتعمد مضايقته دائما في باحة المدرسة, واليوم طارده بلا سبب وضربه فأوقعه. غلى الدم في عروقي على الفور, وهممت بأن أوبخه, وأن أعيد على مسامعه الرد التقليدي الذي اعتاد الآباء تكراره على أبنائهم في مثل هذه الحالة: (من يضربك اضربه), لكن نظرة شاملة إلى الكيان الصغير للولد أوقفتني, ضممته إلى صدري وأخبرته أنني سأتصرف بسرعة وسأجد طريقة لا تجعل هذا الولد يضربه أبداً.

في حقيقة الأمر لم أتصرف بسرعة ولا ببطء, ظلت شكوى ولدي الصغير تتكرر من عدوان هذا الولد الذي يكبره عليه, لقد انعطفت خواطري في أزقة فلسفية, لكنها واقعية أيضاً. فماذا لو أن هذا الولد المعتدي أقوى وأشرس من ابني إلى درجة تجعل الاشتباك معه خطراً أفدح على الصغير? ماذا لو أدى دفاع الصغير عن نفسه إلى نتائج أخطر من محاولة تحاشيه العدوان أو حتى الاصطبار عليه? ماذا يفعل الصغير في مواجهة الكبير العدواني الأقوى منه?

ظلت تلك الأسئلة تتفاعل في نفسي بحيرة, وبأبعاد تتجاوز حدود الأفراد لتشمل التجمعات البشرية, والمجتمعات, والأمم. وانتهت إلى إجابة بدت لي منطقية: أن يشكو الصغير لكبير آخر يوقف الاعتداء عليه أو يردعه. وفي حالة ابني كان ذلك يعني أن يشكو الولدَ المعتدي لمشرفة فصله, أو حتى للناظر. لكنني كنت أعرف أن هذا - على الأرجح - لن يحدث, غالبا لخوف الصغير من أن تجلب له الشكوى مزيداً من عدوان الولد الكبير عليه. ورجحت ضرورة أن أذهب بنفسي لناظر المدرسة لمعالجة الأمر.

ألغيت ارتباطاتي السابقة لأتمكن من الذهاب إلى مدرسة الصغير في اليوم التالي - وقبل عودتي من العمل إلى البيت - مررت على النادي وسجلت صغيري في فريق الناشئين للتدريب على ثلاثة ألعاب دفاعية وقتالية دفعة واحدة: الجودو, والتايكوندو, والكاراتيه!

لم ينه هذا المسألة, إذ ولّدت ألعاب الصغير الجديدة أسئلة جديدة لديّ, فهو إن اكتسب القوة فستظل هناك احتمالات لقوة أكبر منه يمكنها قهره, ثم ماذا سيفعل بقوة الألعاب الجديدة هذه تجاه الأصغر منه والأضعف. ألست في ذلك أثبّت وأكرر صيحة ثراسيماخوس السوفسطائي في محاورات أفلاطون: (القوة هي الحق)? ألست أبتعد عن حلم أن يكون الحق هو القوة?

أم أن كل أحلامنا (المثقفة) ما هي إلا سفسطة في مواجهة عالم لا يكف عن تذكيرنا بأنه ليس أكثر من غابة, بل غابة أكثر وحشية من غابات الوحوش?!

 

محمد المخزنجي