حسن مطلك .. زهرة عزرائيل محسن الرملي

حسن مطلك .. زهرة عزرائيل

هذه شهادة دونها الكاتب العراقي د.محسن الرملي عن شقيقه الروائي الراحل حسن مطلك (1961 ـ 1990) الذي أعدمه شنقا النظام الدكتاتوري السابق في العراق بتاريخ 18/7/1990 بتهمة اشتراكه في محاولة قلب النظام. وحسن مطلك, الذي يطلق عليه البعض تسمية (لوركا العراقي). هو صاحب رواية (دابادا) التي عدها النقاد من بين أهم الروايات العراقية التي ظهرت في العقدين الأخيرين لما تميزت به من فرادة على صعيدي الشكل والمحتوى.

في لقاء مع الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو قال: لا أستطيع الكتابة عن الأحداث الكبيرة في حياتي الشخصية, كموت أبي أو أمي مثلا. وهذا ما أدركته أنا أيضا, حيث إنني لم أستطع الكتابة عن شقيقي حسن مطلك بشكل مباشر أبدا على الرغم من مرور أكثر من عقد على رحيله.. وهأنا أحاول ذلك للمرة الأولى, ولهذا تزدحم ذاكرتي بالكثير ويغص قلبي بالوجع.. لم أكتب عن حسن مباشرة على الرغم من أنه أحب وأعظم من عرفت, وأن موته كان أكبر كارثة في حياتي.. لكنه ظل حاضرا بأشكال متعددة في كل نصوصي قصة ومسرحا ورواية.. بل إن آثار تأثيراته على نصوصي واضحة من حيث اللغة والمناخ والتقنية والرؤية وحتى الشخصيات, وبمجرد قراءة عادية لنصوصنا ستبدو وجوه التشابه جلية وأحيانا إلى حد التطابق.. ذلك لأننا كنا ملتحمين ومنفتحين كل منا على الآخر بشكل حميمي كامل إلى الحد الذي تختلط فيه عليّ الذكريات الآن, ويصعب عليّ التمييز بين ما عشته أنا أو عاشه هو, أو بين ذكرياتي وما أذكره عنه لأننا قد عشنا أحداثا وتفاصيل كثيرة مشتركة.

لقد كنت أتبع خطواته وأحفظ وصاياه وأسلك سلوكه.. كان بوصلتي ونموذجي, بدأ بالرسم فبدأت بالرسم, ومر كاتبا وممثلا ومخرجا في المسرح المدرسي فمررت على دربه, وتحول إلى الكتابة فتحولت إليها.. كنت أسير على خطاه في حياته وأحلم بالسير على خطاه في موته, مع أنني أدرك أن ذلك لن يرضيه, فهل سأستطيع أن أختار موتي كما فعل هو? لأنه من المؤسف أن نموت ميتات عادية مادام لابد أن نموت. لقد كان يتوقع لي عمرا مديدا كعمر جدي (والد أمي) بينما يتوقع لنفسه موتا مبكرا فيردد بين المزح والجد: نحن العباقرة هكذا, نموت مبكرين لأننا نعيش حياتنا بكثافة مضاعفة ونشعل طاقاتنا إلى أقصاها. وعلى هذا الأساس كان يستخف بأية نصيحة توجه إليه لترك التدخين على اعتبار أنه يُنقص العمر, ويسخر من الأحاديث عن فوائد الرياضة ووصفات الأطعمة التي تطيل العمر. وقد سجل نبوءته هذه في رائعته (دابادا): (قال إنه يعي وقائع موته كمن ينفذ خطة طويلة بذل في إعدادها زمنا يمتد من آشور بانيبال حتى القيامة) ص52. بل أكد حتى على تحديد سنوات عمره حيث يقول: (سأموت في الثلاثين أو أتعرض لأزمة) ص107. وهذا ما حدث فعلا, فقد تعرض لأزمة التعذيب الشديد ثم مات وهو على أعتاب الثلاثين من عمره.

لم أكن الوحيد ممن أذهلتهم وشدتهم وأثرت فيهم شخصية حسن بحكم حب المعرفة, وإنما كل الذين عرفوه من أهل وأقارب وأصدقاء وجنود وفلاحين.. حتى أن أمي كانت تصفه بأنه (وليّ من الأولياء) دون أن تضيف على هذه التسمية كلمة (الصالحين) لأن هذه الكلمة تعود في مفهوم أمي التقليدي على رجال الدين وحسب.. وما كان موت أمي إلا حزنا عليه حيث كانت تسهر أمام نافذة البيت تدخن التبغ الرديء على الرغم من إصابتها بمرض الربو, منتظرة أن يطل قادما من معتقله.. وظلت تمارس انتظارها له حتى بعد إعدامه فراحت تذبل وتشيخ يوما بعد آخر حتى ماتت. كانت تقول إنه الوحيد الذي لم يتعبها في ولادته ولا في تربيته, لأنه كان قليل البكاء أو التشكي, وكان دائم التأمل والشرود أو الانعزال مع ألعاب يبتكرها هو بنفسه, ولم يأتها طفل يشكو منه ولم يأتِ هو شاكيا من أحد.. كان هادئا مسالما ممتلئا بذاته, يحبه معلموه لذكائه وانعدام مشاكساته في المدرسة, وتفوقه في الدراسة وفي النشاطات المدرسية التي تفوقت لاحقا على اهتمامه بالدراسة حين توجه إلى المسرح والرسم والنحت.. فبدأ الصراع القاسي مع والده (رجل الدين الفطري) الذي بنى جامع القرية بيديه على أرضه وأمَّ المصلين فيه, حافظا للقرآن بعد أن علم نفسه القراءة والكتابة مقابل حفنات من التمر للشيخ الملا. وتولى خطب الجمعة. كان الأب يرفض (شخابيط) ابنه ويعتبرها حراما وتماثيله أصناما, فيكسر لوحاته ويحطم تماثيله ويمزق دفاتر رسمه, واصفا إياه بـ (الخائب) ومرددا المثل القائل(إن النار تخلف عار) قاصدا نفسه بـ (النار) بمعنى التألق الاجتماعي العشائري والديني, حيث كان قوي الشخصية, عنيدا, عصبي المزاج, حاسما في أحكامه في فض المنازعات على الأراضي والماء والزواج والميراث والقتل وغيرها. ولهذا فلن يرضى أن يكون ابنه (فنانا) ينكس (عقاله) وهامته الشامخة أمام الناس, فماذا سيقول الناس عنه: هذا (الركاص) هو ابن ملا مطلك?. و(الركاص) أو (الراكوص) يعني (الراقص) لأن تسمية (فنان) في مفهوم أبي, أيا كان نوع هذا الفنان, هو(ركاص). هذا المفهوم هو الذي حرمنا, نحن الاثنين, من حلمنا بمواصلة دراستنا في (أكاديمية الفنون الجميلة) لأن عائلتنا قد هددتنا بقطع علاقتها بنا وبالتبرؤ منا في حال تنفيذنا ذلك. وكان حسن, إزاء هذا, يحتمل بتفهم غضب وعنف والده دون أن يتخلى عن احترامه ومحبته له, ودون أن يتخلى, في الوقت نفسه, عن ممارسة عشقه للفن, سرا, حتى تحول هذا الأمر إلى القراءة حين راح يُغلف الكتب بصفحات الجرائد وأوراق أكياس الإسمنت, فيظن الأب أنه يقرأ في كتبه الدراسية.. وهكذا قاده إدمان القراءة إلى الكتابة.

قوة في الحضور

لست هنا بصدد خط سيرة لحسن مطلك لأن ذلك ما أنوي القيام به مستقبلا مدعما بالتفاصيل والوثائق, ومنسوجة بمفاصل من كتاباته هو.. ولكن امتلائي الدائم بحضوره في ذاكرتي والقلب هو الذي يقودني للإسهاب أحيانا.. ذلك أن حسن مطلك كان قويا في حضوره ـ مثلما كان قويا في غيابه ـ جذابا ومؤثرا بسلوكه وطروحاته وأسلوبه في الحديث. صادقا بالكلمة والفعل حد الموت. متمردا على التخلف والقيود العشائرية على الرغم من أن الحكومة قد كتبت في (شهادة وفاته) بأنه (أعدم شنقا) والأسباب (تكتل عشائري) فقد كان غرضها تشويه سمعة محاولة التغيير وتبرير قتلها له ولرفاقه, مع أنها لا تحتاج إلى تبرير أفعالها بعد أن قامت أصلا على سفك الدماء والبطش بالشعب العراقي وجيرانه ومادامت تدرك أن كل تبريراتها لا تنطلي على أحد, لا داخل العراق ولا خارجه..

لقد كان حسن مطلك متطابقا مع ذاته, سريع البديهة, واضح القصد والآراء والمواقف, صادقا في سلوكه وموحدا بين أقواله وأفعاله بشكل كيخوتي يراه البعض جنونا فيما يراه البعض الآخر شجاعة وجرأة حقيقيتين كانتا تثيران الخشية عليه من قبل محبيه من أهل وأصدقاء.. وأذكر من مواقفه حين كان مديرا لمدرسة قرية (الزرارية) إحدى قرى (الزاب الأسفل), حين جاءه مفتش مبعوث من مديرية التربية, وبعد أن تفحص المفتش وضع المدرسة اجتمع بحسن وبقية المدرسين والمعلمين في نهاية الزيارة وقال لحسن: المدرسة بشكل عام رديئة. فأجابه حسن على الفور وسط دهشة الحاضرين: المدرسة رديئة لأن مديرية التربية رديئة, ومديرية التربية رديئة لأن وزارة التربية رديئة, ووزارة التربية رديئة لأن الحكومة رديئة, والحكومة رديئة لأن رئيس الحكومة رديء. فساد الصمت والذهول على الجلسة للحظات, ثم أخذ المفتش (وكان من أصل كردي) حسن مطلك جانبا وقال له: أنت على حق ولكن لا تقل هذا الكلام أمام أحد غيري.. أما عني فسوف أكتب أي شئ روتيني في سجل زيارتي. وغادر بعد أن ودع حسن معانقا له بقوة وسط دهشة الآخرين.

الوطن بحاجة إليّ

وأيام عمل حسن مطلك كمدرس لمادة (التربية وعلم النفس) في معهد كركوك للمعلمين ربطته علاقات وثيقة بالطلبة وبعوائلهم الكردية والتركمانية, وكان الجيران منهم يجلبون له الطعام في القسم الداخلي, حيث يقيم مع طلبة المحافظات, ويغسلون ملابسه أو يدعونه للسهر في بيوتهم. وقد حضرت إحدى تلك السهرات فوجدت حسن يتحدث ويتصرف بحرية تفوق حريته حتى داخل بيتنا, وعرض عليه البعض أن يهربوه إلى خارج العراق فكان يرفض قائلا: إن الوطن بحاجة إليه.. وأن لديه مهام هنا يريد القيام بها... ولم نكن نتوقع أن تكون إحدى مهماته هذه هي القيام بمحاولة لقلب نظام الحكم.. تلك المهمة التي قطعت أمامه الطريق لإنجاز مهماته الأخرى ومنها ما أشار إليه في يومياته من أنه يريد أن ينال جائزة نوبل, لا للجائزة بعينها, وإنما لرفعة اسم أدب وطنه.. لأنه يغار من آداب الشعوب الأخرى ولا يحتمل أن يتم تجاهل أدب شعبه الذي هو أقدم أدب في العالم.

كان حسن مطلك المثقف كثير القراءة وله خصوصيته في استخراج الرؤية من النصوص التي يقرأها وطبيعة تأويله لها ونقدها. وأكثر قراءاته كانت في الفلسفة وهو لا يتردد في مناقشة أعقد الطروحات الفلسفية مع أي شخص بمن في ذلك البسطاء من الفلاحين ممن كان بعضهم يلقبونه بين الجد والسخرية بـ (الفيلسوف الدفين), وهو ميال إلى الفلسفة المثالية أو الأصح الإنسانية أكثر من ميله إلى المادية أو الميتافيزيقية. يميل إلى أفلاطون والسفسطائيين وهيغل وسارتر وهو شديد الإعجاب بالمتشائم شوبنهاور وبنيتشه الذي يحفظ الكثير من أقواله.

وكان من عادة حسن أن يحفظ عن ظهر قلب النصوص التي تعجبه لغة أو بناء أو رؤية.. ومن ذلك أذكر أنه يحفظ قصة (البومة في الغرفة البعيدة) لغسان كنفاني والفصل الأول من رواية (الصخب والعنف) لوليم فولكنر وهو الفصل المتعلق بشخصية المعتوه بنجي, وتأثيره واضح تماما على حسن في دابادا في شخصية شاهين.

كما يحفظ قصيدة لوركا (الزوجة الخائنة).. فهل أطلق عليه أصدقاؤه ألقاب (لوركا العراقي) و(كنفاني العراق) لإعجابه بهما وحفظ نصوصهما وتشابه نهاياتهم العنيفة?

كتابة بلا كلمات

ومن عادة حسن أيضا أن يعيد كثيرا قراءة الكتب التي تعجبه.

لقد أعاد حسن قراءة جويس و(السيدة دلاوي) لفرجينيا وولف. ولكنه لم يعد قراءة ماركيز مثلا على الرغم من اندهاشه الأول به لأنه كان يقول: إن ماركيز لا يحتاج إلى إعادة قراءة وأنه سيبقى هكذا دائرا حول عمليه العظيمين (مائة عام من العزلة) و(خريف البطريرك) ولن يأتي بجديد. ولهذا لم يهتم بمتابعة جديده.

ومن طرائف أو مواقف حسن المتعلقة بطبيعة تحسسه للغة أنه قد غضب على خطيبته المعلمة وانفصل عنها لأنها أصرت أن تكتب بالتاء المفتوحة كلمة تنتهي بالتاء المربوطة. ومما أذكر أيضا أنه قد اشترك في الندوة التي عقدت في بغداد حول أدب الحرب سنة 1988 أو 1989 فقرأ شهادته وعاد ليجلس في مقعده المجاور للروائي فؤاد التكرلي فقال له التكرلي: شهادتك ممتازة ولكن فيها أخطاء لغوية. فأجابه حسن على الفور: أليس ذلك بأفضل من أن أكتب باللهجة العامية? فسكت التكرلي مشيحا بوجهه عنه.

أما عن الكتابة فلم تكن لحسن مطلك طقوس محددة, لكنه غالبا ما يكتب في الليل ويدخن كثيرا أثناء الكتابة, ويستيقظ أحيانا في منتصف الليل ليكتب سطرا.. وكم من مرة أيقظني ليقول لي: اسمع لقد أتتني هذه الجملة. ما رأيك?. كان يكتب أحيانا مقاطع تأتيه تدفقا دون استنادها إلى فكرة مسبقة أو إلى هيكل تخطيطي حيث يقوم لاحقا بتطويرها أو دمجها في نصوص أخرى أو التخطيط على أساسها لعمل متكامل. وكان كثير المراجعة لكتاباته وكثير الشطب والإعادة ومن ذلك أنه أعاد كتابة روايته (دابادا) خمس مرات على مدى خمس سنوات. وغيّر مدخل روايته (قوة الضحك في أورا) عشرين مرة.. ومات وهو يفكر بتغييره.

الاعتقالات والموت

لقد اعتقلوا حسن صبيحة يوم 7/1/1990 في قرية (صبيح) عندما كان متوجها إلى مدرستها حيث كان مديرا. لم يقاوم لأنه لم يكن يحمل معه إلا الكتب والقلم, وحين أصعدوه في سيارة (اللاندكروز) كان يلوح للقريبين من أهل القرية وطلابه مودعا. دام اعتقاله ستة أشهر في الشعبة الخامسة من مديرية الأمن العامة, لم يسمح خلالها لنا بالسؤال عنه أو زيارته.. لقد عشنا أياما مروعة ومريرة, وبعد التقصي من قبل عوائل المعتقلين الآخرين عرفنا اليوم والساعة التي ستتم فيها محاكمتهم في محكمة (الثورة) المعروفة بعدم عدالتها وبخلوها من المحامين والقانون ووحشية قراراتها اللامسئولة, فذهبنا عدد من العوائل لنرابط هناك خلف الأشجار خفية على طريق يؤدي إلى المحكمة علنا نحظى برؤيتهم من نافذة سيارة أو في حوض شاحنة.. ولكننا لم نر إلا رتلا من السيارات العسكرية والمدنية ومدرعات محملة بالعساكر وطائرة مروحية تحوم في السماء. طافت في ذهني لحظتها أمنيات أن أكون بطلا من أبطال الأفلام الأمريكية الذي ينقذ من يشاء بقدرته العجيبة على التحارب. نظر إليّ أخي الكبير واحتضنني باكيا بعد أن مر الرتل.. شعرت بالغصة تغرقني وبسواد العالم من حولي وبقهر مميت يهتكني.. ثم وقعت مغشيا عليّ. وقد وصف محمود جنداري تلك اللحظات من داخلها في قصته (وليمة الدم) بالقول: (من أين يأتي الكلام يا حيّ وأنت دخلت بي عصر الرصاصة وغادرت عصر الكلمة/ لا تقل إن الكلمة الحق اختفت/ موجودة/ لكن أين الكلام? ومن أين يأتي?/ تراصف معي وتعال لنتطلع من كوة واحدة/ لترى كيف ينبعث الموت من هذه المائة شيء/ كيف تتبدد الرهبة ويفيض الإحساس بالخوف اللذين يتوفران فيك بكميات كبيرة/ الخوف والرهبة اللذين شعرنا بهما بشكل حقيقي ونحن في الطريق إلى المحكمة في تلك السيارات المغلقة/ تحف بها سيارات أخرى, مصفحة ودبابات وطائرات مروحية/ سبعة وعشرون رجلا لا يعرف أحدنا الآخر/ لكننا نعرف أننا نساق إلى المحكمة).ص136من مجموعته (مصاطب الآلهة) دار أزمنة/الأردن1996.

وجبات التعذيب

قيل: إن حسن مطلك كان يتحدث معهم (رفاقه في المعتقل) عبر أنابيب الماء الفارغة التي كانت تربط بين زنزاناتهم. كان يقويهم ويقص عليهم الطرائف (النكات) كي يبتسموا بعد وجبات التعذيب.

وقيل: إن حسن قد اعترف في التحقيق صراحة برغبته في تغيير النظام وبيّن الأسباب وكان طليق اللسان وكأنه مسرور بالحرية في أن يقول ما يريد أمام قاتليه لأنه كان متأكدا من إعدامه.

وقيل: إن صاحبه آواة كان يقول: أقوالي لكم هي ما يقوله حسن مطلك. دون أن يعرف ما قاله حسن في التحقيق.

وقيل: إن حسن قد أصر على التصحيح اللغوي لنص إفادته في المحكمة وقرار الحكم.

لقد أعدموه شنقا لأنه مدني بينما أعدموا العسكريين من رفاقه بالرصاص ولم يسلموا جثثهم إلى أهلهم إلا بعد أن دفعوا ثمن الرصاصات التي قتلوهم بها, كما لم يسلموا بعض الجثث لأنهم شوهوها.

قالت زوجة حسن التي رأته في التابوت: لقد حاولت إيقاظه لأنه كان.. وكأنه نائم ووجهه مفعم بالرضا. منعت علينا السلطات إقامة مأتم له وحذرت الناس من تعزيتنا فيه. فكان أهل القرية يتقاطرون علينا سرا, في الليل, كي يعزونا. ومن ذلك أيضا أن ما يقارب عشرة أطفال ممن ولدوا بعد إعدامه قد حملوا اسم (حسن) كنوع من المحبة والاعتزاز والذكرى..

ترى هل قلتُ كل ما أعرفه, وما أريد, وما أستطيع, وما يجب قوله عن حسن مطلك? بالتأكيد: كلا. فسوف أبقى نازفا عليه وعنه دمعا وحزنا وحبرا ما حييت.

ولأن حسن مطلك هو أروع روح عرفتها شخصيا من بين جميع الأرواح التي عرفتها وقطفها عزرائيل, لذلك غالبا ما يحضرني وصف صديقه أردال له في قصيدة عنه. حيث يشعر بما أشعر فوصفه بـ (زهرة عزرائيل).. لقد بكينا حينها بمرارة (بكينا أكثر من كل أطفال العالم) كما يقول حسن مطلك في صرخته (دابادا).

.. بكينا في البيت والقرية وكركوك والموصل وبغداد والبصرة.

.. بكينا في الشمال والجنوب والوسط.

.. بكينا في كل العراق على حسن مطلك وعلى الشهداء وعلى العراق..

.. ومازلنا نبكيهم في مغترباتنا.

 

محسن الرملي 




منحوتة للفنان أحمد السطوحي (مصر)