قهر الثقافة وهيمنة الجلافة أسئلة مهمة لرواية عراقية كبيرة

قهر الثقافة وهيمنة الجلافة أسئلة مهمة لرواية عراقية كبيرة

في بحثه الدائب حول (مشكلة القوة) وممارسة القهر, رأى ميشيل فوكو أن المعرفة تمنح صاحبها قوة هائلة للسيطرة على غيره من الناس. فما بالنا بالسيطرة والقهر عندما يمارسهما من تستند قوته أساساً إلى نفي المعرفة وتدمير رموزها?!

  • لم يحب أما, ولا صاحبة, ولا زوجة, ولا أولاداً, إذ كانوا لديه مجرد (أشياء) خارج سعيه الأساسي لامتلاك القوة الشرسة
  • مواقفه تذكّرنا بجوبلز وزير دعاية هتلر الذي كان يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة ثقافة أو مثقفين
  • يجب نشر هذه الرواية في طبعات شعبية رخيصة الثمن لكي يتعمق الجميع في فهم آلية الكارثة ويفهموا ما عجزوا عن فهمه بواسطة وسائل الإعلام العربية!

يظن كثيرون أن أي مداخلة في موضوع الطاغية, أو الديكتاتور, أو المستبد الغاشم, باتت من نافلة القول ومكرور الحديث, خاصة بعد سقوط أبرز رموزها في التاسع من أبريل 2003, لكن هذا الملف المرير, سيظل في حاجة إلى المزيد من القراءة فيه يوما بعد يوم وعاما بعد عام, ومن كل زاوية متاحة, لأنه متعلق بجوهر الكرامة الإنسانية ومصائر الأوطان, دائما وفي كل حين. وزاوية الرؤية التي تغرينا بالنظر من جديد في هذا الملف الأسود, رواية عراقية تضيء بعضا من ظلمة هذا الملف بمشاعل مستعارة من نيران حقيقية لطالما أحرقت البشر - مئات الآلاف أو ملايين من البشر.

وجدتني مضطرا لسوق المقدمة السالفة بعد أن ترددت كثيرا في الكتابة عن موضوع يستمد عناصره من سيرة آخرالطغاة المخلوعين, أو المتلاشين, والذي لم أعد أحب - كما لا يحب كثيرون جدا ممن باتوا يصيبهم مجرد ذكر اسمه بالقرف - أن أسميه, إضافة لأنه لم يعد في حاجة إلى تسمية إذ بات مجرد شبح عابر ممن اجتازوا كالأطياف السوداء دهاليز تاريخنا العربي, المليء بالقهر والظلم والرعب.

ترددت تحسبا لأن تكون معاودة فتح هذا الملف نوعا من (الضرب في الميت) وهو أمر مكروه ومذموم في حسنا العربي وذوقنا الشرقي, لكنني بعد أن عاودت قراءة رواية أرجأت قراءتها بعض الوقت, وجدتني مثقلا بمرارة مضاعفة وإحساس مضاعف بفداحة ما جناه هذا الطاغية على شعبه, وعلى أمته العربية, بل وعلى معنى الكرامة الإنسانية عامة, في كل زمان ومكان. ومع الشعور بثقل المرارة والإحساس بفداحة الجرم, وجدت أن ذلك العمل الأدبي قد أضاء الكثير من الظلمات المجهولة في عالم هذا الديكتاتور وعقوده الطويلة الثقيلة, إضاءة لم تقدمها عشرات الكتب ومئات المقالات وآلاف المواد الإعلامية المسموعة والمرئية التي اتخذت من هذا الطاغية وممارساته وعصره مادة لها.وهي إضاءة ظلت طوال وقت قراءة هذه الرواية الطويلة المريرة, والمكونة من أربعمائة وأربع عشرة صفحة, تتلاعب بعلامات التعجب تلاعب النيران التي أضرمها هذا الجاني الزائل في كل ما حوله, وحيثما امتدت ذراعه المعتمة.

إبداع المنافي

الرواية التي أعنيها هي (عالم صدام حسين) للكاتب العراقي مهدي حيدر, والتي صدرت عن (منشورات الجمل) في كولونيا بألمانيا عام 2003م, قبل شهور من إزالة صدام حسين وتداعي عالمه المرعب. وهذه المعلومات الأولية البسيطة هي رواية أخرى تحيط بالرواية, وتشكل دائرة من دوائر هذه الدوامة الجهنمية التي أحدثها عالم هذا الطاغية. فاسم المؤلف (مهدي حيدر) يُرجَّح أنه اسم مستعار لكاتب عراقي خشي البطش الذي كان والذي لم يوفر مكاناً في العالم لم تمتد إليه سكاكينه ورصاصاته وتفجيراته - مما تمتلئ بذكره مجسداً صفحات الرواية التي هي بالتأكيد ليست مجرد رواية. وحتى لو افترضنا أن مهدي حيدر هو اسم حقيقي لكاتب عراقي ممن غيبت أسماءهم عتمات فترة الطاغية الزائل, فإن التاريخ الذي يشير إلى زمن ومكان كتابة الرواية في الصفحة الأخيرة, يشي بمرارة الشتات الذي دفع إليه الكاتب كما دفع قرابة أربعة ملايين عراقي تبعثروا قهراً بين أربعة أرجاء الدنيا وعبر بحارها ومحيطاتها النائية والقاسية, وبينهم النخبة الثقافية والعلمية العراقية. يختتم الكاتب روايته بالإشارة إلى أنه كتبها بين (كتماندو (نيبال) 1992 - وليما (بيرو) 2002), أي خلال عشرة أعوام خارج وطنه وفي أصقاع تشي بالبؤس وقسوة الحياة, حيث تكون نيبال - أفقر بلدان آسيا وأقساها طبيعة على مشارف هضبة التيبت وفي ظلال سلسلة جبال الهمالايا الشاهقة الصقيعية. أما البيرو, فهي بلد أمريكي لاتيني يشكل امتداداً - عبر المحيط - لحزام الفقر البشري وعناء الطبيعة. وإذا تركنا الكاتب وبحثنا عن الناشر, لوجدنا طرفا آخر من أطراف حكاية الشتات الذي تبعثرت فيه صفوة من خيرة العقول العراقية على امتداد ثلاثين عاما أمسك فيها الطاغية الزائل بمقاليد الحكم في العراق.

فدار النشر هذه أنشأها ويديرها مثقف عراقي آخر هو (خالد المعالي) الذي يتخذ من ألمانيا موطنا بعد أن صار العيش في وطنه مستحيلا خلال عقود القتل الثلاثة البشعة التي تداعت مطلع أبريل الماضي.

قبل أن تبدأ الرواية ينوه كاتبها بالقول: (هذه الرواية ليست نصا تاريخيا, بل هي عمل من نسج الخيال, يستغل الواقع لبناء عالم خيالي مواز للعالم الواقعي, يتطابق معه أحيانا ويختلف في أحيان أخرى, فتعطي شخصيات معروفة مصائر مختلفة عن الواقع التاريخي بحسب ما تقتضيه الحاجة الفنية, كما يحتوي هذا الكتاب اقتباسات عربية وأجنبية من أعمال أدباء ومؤرخين وصحافيين وسياسيين وشعراء).

صدَّر المؤلف مهدي حيدر روايته بهذا التنويه اتقاء لما يمكن أن يُحسب عليه من مخالفة لبعض الوقائع والأحداث, إن أخذت بحرفية, لكن هذا لا يمنع تبيين حجم الشر الذي وقع إبان عصر الطاغية الزائل, وهو شر هائل إن اكتفينا بحساب الوقائع التاريخية الموثقة مكانا وزمانا في متن الرواية.

أما ما يرشح من مجمل العمل, واقعيا ودرامياً, فهو يقطع بوحشية تفوق كل ما تخيلناه ويتخيله غير العراقيين, الذين لم تكوهم نار هذا الشر كيّاً مباشراً. وبرغم ذلك, فإن ما أود أن أتوقف عنده, ليس حجم هذا الشر ولا حجم ما يستحقه من إدانة, وهما هائلان, لكنني أود أن أنقل لمن لم يقرأ هذه الرواية بعد إحساسي كقارئ عام, خارج ميدان النقد الأدبي الذي له أصحابه ورموزه, وهو إحساس مفعم بالاستغراب حيال نمو هذا العالم واستفحاله والمرتكزات التي انطلق منها نحو الوحشية التي توشك أن تكون مطلقة. وهنا أجدني مدفوعاً إلى القول - من شدة إحساسي بألم العراقيين الذي جسدته الرواية بجدارة - إن هذه الرواية ينبغي أن تنشر في طبعات شعبية ميسرة وعلى امتداد العواصم العربية,لتكون بين أيدي ملايين العرب - وبالأخص الجيل الجديد - لا العراقيين وحدهم, بل كل العرب الذين يريدون فهما أعمق لما حدث ووقاية أفضل لمنع تكرار حدوثه, وفي أي بقعة من بقاع عالمنا العربي.

يمكنني إجمال الخط الفني العام لبناء الرواية - وأستسمح في ذلك أساتذتنا من رموز النقد الأدبي الذي لا أدعيه - في تعقب زمني لظاهرة نشوء وصعود صدام حسين (بطل الرواية) منذ طفولته وحتى ذروة صعوده, وهو تعقب يوشك أن يرسم خطا أو مجرى (برغم عمليات التقطيع والرجوع والتقدم زمنيا, وهي حيل فنية يعرفها أهل الأدب ونقاده, وأتقنها المؤلف), وحول هذا الخط, أو المجرى الأساسي, تظهر شخصيات وتختفي, وتبرز أحداث وتتلاشى, لكنها جميعا ترسم صورة لهذا العالم الفاجع, الذي لم يكن عالم صدام حسين وحده, بل عالم أمة كاملة, في فترة زمنية مثقلة بآلام تفوق حد التصور والتخيّل.

إننا لا نقرأ الروايات لنكتفي بالتفجُّع, خاصة إزاء رواية كهذه, بل نجد أنفسنا مدفوعين لطرح الأسئلة والبحث عن إجابات (كيف حدث هذا? لماذا حدث ما حدث?) وهي أسئلة تاريخية في هذا الموضوع لأنها تنبع من قراءة عمل يحمل عبء التاريخ وإن زعم كاتبه أنه ليس تاريخاً!

بداية تشبه النهاية

(بدأ الهجوم عند الثانية فجراً بتوقيت بغداد يوم الخميس 16 يناير 1991. كان صدام حسين نائما ببذلة كاكية مثقلة بالنياشين, وبحذاء عسكري, مع مسدس في حزام جلد يزنر وسطه, وراء مكتب ضخم من خشب السنديان, في مقر محصن تحت مدرجات ملعب كرة القدم يبعد خمسة كيلومترات عن المجمع الرئاسي حيث أقام 12 سنة محاطاً بحرسه الجمهوري منذ أعلن الرئيس أحمد حسن البكر في 16 تموز (يوليو) 1979 على التلفزيون, وأمام الأمة جمعاء, اعتزاله وتنحيه عن كل مناصبه لأسباب صحية). بهذه البداية, شبه النهاية, يفتتح الكاتب روايته ويصور حجم الدماء الذي تفجر مع اندفاع هذه الغارة على بغداد بينما الطاغية في مخبئه المحصن تحت الأرض: (الرئيس صدام حسين رئيس الوزراء, رئيس مجلس قيادة الثورة, الأمين العام للقيادة القطرية لحزب البعث والقائد الأعلى للقوات المسلحة منذ 1979, أحس بارتجاج المكتب تحت ذراعه ورأسه أراد أن يفتح عينيه (سمع أيضا قرعاً على الباب) لكنه كان يعيش مرة أخرى (ومن دون أن ينجح في الخروج من ذلك الفخ) زمناً قديماً: ذلك الزمن البعيد الذي سبق خروجه الثاني من بيت أمه صبحة في قرية شويش إلى بيت خاله خيرالله في تكريت), ومن هذا الرجوع الذهني في الزمان يُخرج لنا الكاتب صدام حسين من مخبئه فنراه في عمر الطفولة (خمسة أعوام) وهي طفولة شديدة القسوة ومليئة بالشوك, في ظل زوج أم لص وعدواني يضرب الطفل بعصى منقوعة بالزفت كلما تساءل لماذا يطلقون على عمه وزوج أمه (حسن الكذاب), وبيئة لا تكف فيها العقارب عن التقاتل في صحراء الشوك وبقايا الأشجار الميتة, وبشر لا يكفون عن إيذاء هذا الطفل. وبدلا من أن تكون هذه الفظاظة المبكرة دافعا لارتقاء الطفل نحو عالم ينبذ الفظاظة, وهو رد فعل ليس نادراً بل هو شائع لدى كل أطفال البؤس الذين خرج منهم عباقرة ومصلحون وعلماء وأدباء أهدوا الإنسانية كثيرا من الخير, بدلاً من ذلك كانت ردة فعل الطفل صدام حسين على بؤس نشأته تأسيساً مخيفاً لبؤس أشد, وافتتح هذا البؤس بقتل فتى يكبره أمعن في اضطهاده, وأي قتل: (حين قسا جسمه قليلا, انتظر ليلة كاملة الظلمة كثيفة الغيوم, وأخرج قضيب الحديد القديم من البورة قرب الحظيرة المهدمة. تسلل من وراء أشجار مكسورة وحيطان قصيرة, رأى ذلك الشبح الذي يكبره بحفنة أعوام يلتصق بشجرة تين.. اقترب صدام بلا صوت رفع القضيب وأهوى به - الضربة الأولى أصابت الظهر والكتف. سقط الفتى أرضا. استمر يضربه بالقضيب الحديد حتى احترقت يده واكتوى جلد أصابعه. صراخ الفتى امتزج بعواء الذئاب والضباع البرية).

من هذه النقطة المعتمة في الطفولة بدأت رحلة صعود الديكتاتور, صعودا وحشياً لم يكن العقل أو الفكر فيه غير أداة لتمكين القناص من فرائسه, وحش يفترس وحوشاً إذ لم يقتنع أبدا بأساس الخير في التكوين الإنساني, لم يقتنع إلا بأن الشر يتربص به حيثما كان, لهذا لم يؤمن إلا بقوة الافتراس: كيف يكون الأشرس والأدهى والأسرع قفزاً على خصومه حيث لم يكن هناك مكان في عالمه إلا للخصوم, ومن ثم كان سعيه الدائم لامتلاك القوة, والقوة بلا حدود, كان أي كابح لشراهة القوة هذه ينفره, وبديهي أن الثقافة - والتعليم أحد وجوهها - كانت شيئا زائدا خارج عالمه, حتى لو كانت الدراسة مجرد إذن مرور لأحد عوالم القوة, العسكرية, فقد استمات في دخول الكلية العسكرية دون أن يحصل على الثانوية, وحاول أن يجد واسطة من وجهاء تكريت, ففشل, ولجأ للعقيد البكر: (قال صدام حسين للعقيد البكر:

- ألا تستطيع التدخل? أجابه العقيد البكر:

- عليك بإنهاء دراستك الثانوية أولاً... عندئذ...

لم يسمع صدام تتمة الجملة... ثانوية الكرخ لا تهمه. ليست الدرب المفضي إلى القوة. لماذا ينتظر?).

ولم ينتظر, بل توجه مباشرة إلى أفحش مظاهر القوة: البطش, وقبل أن يطوّر عقله السياسي, ولو ببعض التثقيف, قفز قفزته الواسعة الأولى في عالم السياسة عن طريق تبني منهج الاغتيالات, والمشاركة الفعلية في مؤامراتها, وأبرزها محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم التي فشلت ونجا منها, وأصيب فيها بجرح في ساقه. هرب بجرحه إلى سوريا ومنها إلى مصر - التي كانت في خصومة مع عبدالكريم قاسم - حيث عاش بضع سنين كلاجئ سياسي. وفي مصر التي كانت تموج بالأفكار الثقافية آنذاك لم يستفد من ذلك المناخ, بل عاش في حلقة مغلقة مع أشباهه, ومارس سطوة الشراسة على مَن حوله حتى أن هناك جريمة قتل يرجح أنه كان وراءها, وضحيتها لاجئ سياسي عراقي ممن كانوا في هذه الحلقة المغلقة.

القتل, والشروع في القتل, تلك كانت المنظومة (الفكرية) التي تشغل بال الفتى الذي سيغدو ديكتاتورا دموياً, أما الثقافة, والتعليم, والمعرفة أبسط وجوهها, فلا ملامح. لم يحصل على الثانوية العامة برغم توافر ظروف استثنائية لحصوله عليها في مصر. أقصى ما حصل عليه هو (شهادة إتمام تدريب المرحلة الثانوية من مدرسة قصر النيل الثانوية الخاصة. وبهذه الشهادة (الخاصة) أدخل كلية الحقوق, ولم يكملها. فلا التعليم, ولا الحب, ولا الثقافة بكل أطيافها كانت مبتغاه, بل القوة, وأقصر طرق القوة حتى لو كانت أدناها.

فكرهه لأمه التي تزوجت عمه (الكذاب) المخمور دائما والذي يكيل له العذاب بعصاه المزفلتة يومياً, وفشله في كسب العلم للدخول إلى الكلية العسكرية, وانحرافه إلى سلوك طريق الإجرام السياسي, أدى ذلك إلى بلادة حسّه, فمات القلب وتسلط الوحش المفترس بداخله, ليشيع ظاهرة العنف والقتل فيمن حوله, ولتتسع الدائرة يوماً بعد يوم لتصبح هذه الظاهرة العلامة الكبرى في مسيرة حكم الطاغية في العراق وما حول العراق.

تطويق الآباء بأطفالهم!

مسيرة طويلة من الطعن, والذبح, والشنق, والتفجير, والحرق, وقطع الرءوس وجدع الأنوف والآذان, والدسائس والوشايات القاتلة, كل ذلك شكّل درج الصعود الذي تبلور أولا في تشكيل جهاز (أمن الحزب) وهو أمن بلا رحمة, أمن بلا ذرة من ثقافة! وعبر هذا الجهاز الوحشي تواصل الصعود السياسي. وطبيعي أن يتجلى الصاعد إلى أعلى الدرج تجليات تنم عن جوهره حتى عندما يرتدي قناعاً يتقمص شيئاً مما يبدو ثقافة! (ففي عام 1977 صدر عن (منشورات الثورة) في بغداد كتاب جمع مقالات ومحاضرات ومقابلات لنائب أمين عام مجلس قيادة الثورة, نائب أمين عام بعث العراق الرفيق صدام حسين. عنوان الكتاب (الديمقراطية مصدر قوة للفرد والمجتمع)! في إحدى المحاضرات في (وزارة التربية والتعليم) يشرح صدام حسين للمسئولين في الوزارة! الأسلوب النموذجي لتعليم فتيان العراق وفتياته, يقول: (مبتدأ التربية الفهم. والخلية الأساس للحياة البشرية, خصوصا في بلادنا العربية, هي العائلة, المشكلة في العراق أن الأب والأم مارسا - بسلطتهما داخل البيت - تأثيرا رجعياً على أطفالهما. هنا نتدخل: علينا أن نأخذ الولد الصغير ونعلمه أن يشع في قلب البيت ويمحو ظلامية الأجيال السابقة, الآباء انحرفوا لأسباب كثيرة, منها أنهم نشأوا في بيئات رجعية سبقت ثورتنا, أما الولد الصغير فهو لايزال نظيفاً, علينا أن نحارب من أجل خلاص الولد, علينا أن نحوّله إلى عنصر متفاعل مع مجتمع الثورة, علينا في الوقت نفسه أن نحفظه بعيدا عن التأثيرات السلبية. علينا تطويق الراشدين بأطفالهم! علّموا الطالب أن يحذر أهله, ويقول لهم: (هذا تصرف خطأ) إذا سمعهم يناقشون أسراراً حزبية أو ينتقدون سياسة الدولة)!

(عليكم أن تزرعوا في كل زاوية من الوطن ابنا وفيّاً للثورة - بعين أمينة وعقل ثابت - يتلقى الإرشاد القويم من مركز الثورة. علّموا الطالب الاعتراض على تجاوزات أهله لأن هذا الاعتراض مفتاح الديمقراطية وسعادة المجتمع. علّموا الطالب في الوقت نفسه أن يكون حذراً في تعامله مع الأجانب, لأن الأجنبي عين دولته الأجنبية وأذنها, ولأن بعض هؤلاء لا يبغون إلا تخريب مجتمعنا. علّموا الطالب أن الحديث مع الأجنبي من دون وجود رفاق متمرّسين في هذه الأحاديث هو أمر ممنوع. علّموا الطالب أن يحترم كلماتكم بأن تكونوا القدوة البعثية الصاحية دائماً. الطفل في علاقته بالمعلم هو بالضبط مثل حجر رخام بين أصابع النحّات الذي يملك تحويل هذه القطعة إلى عمل فني خالد أو إهمالها وتركها في العراء للمؤثرات السلبية وعوامل الطبيعة الفتّاكة. علينا أن نساعد الطالب على رؤية العالم رؤية إيجابية تخلو من كل مؤثر سلبي. حين يشع الولد على أهله يغيّرهم إلى الأفضل: إذا اعترض على أخطائهم دائما, تعلّموا تصحيحها. إذا تابعوا انحرافهم, وإذا لم تنفع تحذيرات الولد (وهي كلها توجه إلى الأهل باحترام) فعلى الولد عندئذ أن يلجأ إلى المعلمين, إلى أساتذته)!

هذه هي (قمة) الرؤية في (الثقافة السياسية) للوحش بعد أن تبوأ قمة السلطة, تحويل الأطفال - الأبناء جواسيس ومخبرين على آبائهم وأمهاتهم, ولكن أخيرا رأينا في أحد التقارير المتلفزة مع أول عودة لطلاب مدارس العراق بعد زوال حكم الطاغوت كيف كان الأولاد والبنات ينزعون من كتبهم المدرسية صورة الطاغية التي فرضت بالألوان على مداخل كل كتبهم وكراريسهم المدرسية, وهذا ما حدث قبلا لكل أبناء أنظمة الطغاة بعد سقوطهم.

لم تكن الثقافة في عرف هذا الديكتاتور غير زوائد منفرة أخذ يجز ويقص أعناقها وأعناق أصحابها من حزبيين (رفاق) وكتّاب ومبدعين وفنانين ومفكرين حتى صار العراق بلدا طارداً لكل هؤلاء, ومَن بقي منهم لم يكن أمامه إلا النفاق أو الصمت أو السجن والقبر. أما مهرجانات الثقافة العراقية في عهده, والمطبوعات, والعلاقات بالمثقفين العرب, فإنها لم تكن في عمق نواياها المظلمة غير محاولة لتكميم الأفواه ورشوة من يقبل الرشى, للسكوت عن جرم كبير مورس ضد العراق والعراقيين على امتداد أكثر من ثلاثة عقود تحكم فيها طاغية أبعد ما يكون - بتكوينه واختياره - عن احترام الثقافة أو ملامستها.

حصانة الألم

يقول أحد شخصيات الرواية - وهو مثقوف بائس سقط في فخ العمل والعمالة لأجهزة الطاغية القمعية - تسبب هذا المثقوف في قتل إخوته وسجن بعضهم - يقول لصاحبته بينما يخرجان من إحدى صالات السينما في منفى بعيد أرسل ليتعفن فيه على مهل: (إن الأفلام - مثل الروايات - تجعل الحياة أقل ألماً).

لكن على العكس من ذلك تجيء هذه الرواية نفسها, لتؤكد أن قراءة بعض الروايات - مثلها - تجعل الألم أشد, لكنه ألم يجعل مَن كانوا لا يصدقون يراجعون أنفسهم, ويجعل مَن كانوا يستصغرون أمر إهمال الثقافة, والسماح لمجرم بالدوس على أعناق المثقفين وجثثهم ليصعد نحو مطلق القوة... قوة البطش الوحشي... يجعل هؤلاء وهؤلاء, ويجعل الجميع, يشددون الحرص على الثقافة كمعيار للوقاية من أكثر الشرور هولاً في حياة الأمم.

 

سليمان إبراهيم العسكري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات