النكتولوجيا العربية آخر الأسلحة... ضد القمع

إذا كان مناسبا ومألوفا لجوء الإنسان إلى التنكيت في ساعات اللهو والمزاح والدعابة, فإن الأمر الذي يثير التساؤل ويحرض على التحليل هو ذلك الحضور الغزير للنكتة في ساعات وأيام وشهور المحن والكوارث.

الظاهرة الجديدة الطريفة التي اقتحمت نسيج حياتنا الاجتماعية اليومية العربية: حريّة بالاهتمام والتقدير والمعرفة والتحليل, وكل ما يفضي إلى تفسير وتبرير وتعليل شيوعها وانتشارها.

أعني: ظاهرة التراسل عبر الهاتف المحمول (MSG), التي باتت عادة يومية, وطقسا ضروريا يمارسه الخاصة والعامة (إلا من رحم ربي) من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي كل يوم!

وقد أحالت المسجات M.S.G الكرة الأرضية - بطولها وعرضها - إلى قرية عالمية صغيرة يتناقل الناس فيها ويتبادلون الأخبار, والتعليقات والنكات, والسباب والهيام والتشبب والتجارة والشجار, والحوار والجدل, وكل أنواع التواصل وأشكاله وألوانه!

وإذا كانت جامعة الدول العربية العتيدة أخفقت في تحقيق أي نمط من أنماط الوحدة العربية, وبح صوتها من اللعلعة بشعاراتها وأناشيدها دون جدوى, فإن التلفون المحمول - بقدراته وتقنياته الاتصالية المتطورة - تمكن بسهولة ويسر من تحقيق الوصل والتواصل بين ديار بني يعرب!

وقد وسم العامة الرسائل الهاتفية بتسمية (المسجات: جمع مسج الإنجليزية) إلى حين أن يفتح المولى الكريم على مجمع الخالدين (مجمع اللغة العربية) باسم (حلمنتيشي) قاموسي يرقد بين طيات القاموس, ولا يعرف دربه صوب ذاكرة الحياة اليومية للمواطنين البتة كالعادة!!

ما علينا. فالمهم الآن أن العامة وسمت الرسائل الهاتفية عبر المحمول باسم (المسجات), وباتت معروفة للقاصي والداني بهذا الاسم الحركي الشهير!

دنيا من (المسجات)

إن الحضور الكثيف (للمسجات) في حياتنا الاجتماعية اليومية بيّن وواضح, ولا أخاله يحتاج إلى برهنة وتدليل. ذلك أن تجلياته (تغرد) صباح مساء في كل بيت ومكتب وخيمة وقصر وشاليه ويخت (ماركة يختي عليه) ودكان وعشة.. و.. كل مكان يخطر أو لا يخطر على بالك!

فالنكتة المصراوية التي يتندر بها الشعب المصري في الصباح الباكر, تتواتر عبر كل الديار والأقطار العربية في التو والحين!

ويمكن لنا القول إن الهاتف (النقال, الجوال, المحمول, الخلوي, وهذه تسمياته المترادفة في البلاد العربية المشرقية والمغربية) صار - بمعنى من المعاني - بمنزلة الصحيفة والمقهى والنادي والخاطبة ووكالة الأنباء والمأذون والبنك وما خفي أكثر وأشمل. لكن المولى سبحانه أمرنا بالستر!!

وإذا شاء لي القارئ الكريم اتخاذ مسوح (الواعظ واعتمار عمامته) يمكن لي القول: إن خدمات التلفون النقال سلاح ذو حدين. ففي مقدور المرء توظيفه للترويج والتواصل والتزاوج والتسوق والمداعبة والمزاح والإعلام والتوعية.... إلى آخر خدماته السوية, كما يمكنه - في الوقت نفسه - إذا شاءت نفسه الأمارة بالسوء والشيطنة والحماقة... إلخ أن يجعله وسيلة سلبية قد تصل حينا إلى حد خراب البيوت!

من البدهيات التي باتت شائعة ومعروفة أن الإنسان - وحده - هو: الحيوان الوحيد الضاحك الذي يضحك على الآخرين, وعلى نفسه! فالضحك ظاهرة إنسانية ينفرد بها الإنسان عن غيره من الحيوانات. والضحك يرتبط عضويا بالنكتة, والملحة, والمزحة, والفكاهة, والقفشة, والزغزغة, والدلدقة والغشمرة, والدعابة... وكل الأشكال والأفعال المحرضة على الضحك والمثيرة له.

فلا ضحك دون سبب أو مثير. وحتى الإنسان (المهبول) الذي يبدو لنا أنه يضحك دون سبب أو مبرر, لاشك أن لديه سببه المخفي الخاص الذي يدفعه إلى الضحك والقهقهة!

الحاجة إلى النكتة

والإنسان يحتاج دوما إلى النكتة والسخرية والضحك, لمجابهة أعباء ومعاناة الحياة اليومية. وبهذا المعنى فالنكتة ظاهرة إنسانية يمارسها كل خلق الله في جميع أرض الله. صحيح أن هناك بعض الشعوب: تتميز بأن الحسّ الفكاهي لديها أشد حضورا وأكثر غنى عن غيرها من الشعوب.

بل إنك تجد أن بعض الجماعات - داخل الشعب الواحد نفسه - تتميز عن بقية الشعب بحسّها الساخر اللاذع, وروحها الفكاهية البينة! فعلى سبيل المثال لا الحصر تجد أن المراكشيين (سكان مدينة مراكش) معروفون بالنكتة والسخرية في المملكة المغربية أكثر من غيرهم في المدن المغربية الأخرى.

وفي المملكة العربية السعودية يتسم أهل القصيم (نجد) بالملاحظة ذاتها! وفي دولة الكويت يتميز أهل محافظة الجهراء بالمزية نفسها السالف ذكرها, وعلى ذلك قس عين الملاحظة في بقية الديار والبلاد.

والملاحظ أن الشعوب والأمم والقوميات والطوائف تتبادل التنكيت والسخرية من بعضها البعض الآخر, وهذا أمر بدهي وطبيعي لأن النكتة تحتاج إلى موضوع وبطل تتمحور حولهما النكتة والسخرية. ومن هنا: تجد أن الصعايدة - مثلا - يشكّلون المادة الدسمة لنكات المصريين بعامة والقاهريين بخاصة!

وفي السياق ذاته تجد أن أهل (حمص) محل تنكيت الشوام (أهل دمشق) على الدوام! الشاهد أن حضور النكتة في نسيج الحياة اليومية الإنسانية لا يحتاج إلى تدليل, لأن تجلياته تلعلع في كل زمان ومكان, وحاضرة على طرف لسان كل إنسان!

والحق أن النكتة حاجة إنسانية ضرورية يستحيل أن يعيش الإنسان - الحيوان الضاحك - بمنأى عنها! فهو يلوذ بها في الأفراح والأتراح, ويمارسها ساعة الجد ووقت الهزل ووقت الهزيمة أيضا.

نكات الهزيمة

فعلى سبيل المثال لا الحصر خيم على مصر المحروسة إثر هزيمة حرب 1967 غيوم السخرية المرة, وهطلت عليها أمطار النكات الموجعة المعرّية لأسباب الهزيمة وأبطالها. وكانت نكات هذه الحقبة المريرة مرّة ولاذعة قاسية, إلى درجة أن الرئيس جمال عبدالناصر - رحمه الله - طالب الجماهير الشعبية بأن تكف عن جلد الذات و(تخف شويه) عن التعريض بالمهزومين, ولحسن حظ نظام عبدالناصر - آنذاك - أن التلفون المحمول و(مسجاته) لم يكن حاضرا ساعتها, وإلا لكانت الفضيحة مدوية.

ولم نروح بعيدا, ونتحدث عن حضور النكتة إثر هزيمة حرب 1967...?!

فحالما بدأت الحملة العسكرية على العراق الشقيق للتخلص من نظام صدام اهتزت التلفونات المحمولة برنين اللحن المميز (للمسجات), وراحت تلعلع: بالنكات والنوادر والتعليقات الساخرة والأقوال المأثورة التي لعلع بها العرب - مشرقا ومغربا - طوال الفترة التي استغرقتها حملة التحرير. وهكذا راحت (المسجات) (MSG) تنتقل وتتواتر بين المواطنين العرب مخترقة الحدود, عابرة البحار والمحيطات, ليتم تداولها - في التو والحين - في العواصم, والحواضر, والمدن, والقرى العربية.

ويمكنني القول - دون مبالغة - إن المواطنين العرب تداولوا ملايين (المسجات) خلال الفترة التي أتحدث عنها - حملة تحرير العراق.

فكانت الرسائل الهاتفية تعبّر بحق عن لسان حال المتراسلين, بكل ما تنطوي عليه الرسائل من مرارة وشجن, وسخرية و(شماتة), وغيرها من المشاعر والاستجابات, الخارجة من رحم الأزمة المحنة الفتنة!

منقاش... بطل الوهم

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن العديد من (المسجات) قد تمحورت حول بعض الموضوعات والشخوص, والتي استأثرت بكم هائل من النكات اللاذعة المرة أكثر من غيرها. ومن هنا تجد شخصيات (صدام - والصحّاف - ومنقاش) كانت المحور الرئيسي لأكبر عدد من النكت اليومية, طوال فترة الحرب. وقد راعني اعتراض بعض المتشنجين على شيوع ظاهرة (المسجات) إبان (الحملة على العراق) لظنه (وأرجو ألا يكون آثما) بأنها ترف ومضيعة للمال, وإهدار للوقت وما إلى ذلك من مفردات التنطّع التي يلوكها ويجترها الرافضون لكل جديد وحديث يكتنف حياتنا الاجتماعية.

وهذا المنحى دليل على ميلهم صوب التجهم ورغبتهم في الغم والنكد! فحق لنا - والأمر كذلك - أن نسمهم بقبيلة (بني نكد) الرافضة لكل شيء!

ولو قيض لآلاف النكات والتعليقات الساخرة الواردة في الرسائل الهاتفية من يجمعها ويصنفها ويبوبها لشكلت مادة دسمة للباحثين الراغبين في معرفة اتجاهات بوصلة الرأي العربي العام, وفي سبر نفسيته وشخصيته, وتحليل مزاجه العام, ومعرفة رأيه ورؤيته للأحداث والوقائع, فضلا عن كيفية استجابته للتحديات التي جابهته إبان: الحرب على العراق كما وسمها الإعلام الغربي. كما هو معروف.

وأحسب أنه من واجب الشركات العربية للهاتف المحمول أن تزود مراكز البحوث بمحتوى آلاف النكات والتعليقات الساخرة التي تم تداولها خلال شهري مارس وأبريل وما تلاهما. إذا كان ذلك ممكنا من الناحية التقنية.

والحق أن (المسجات) باتت في هذه الأيام تعبر عن الإعلام العربي الشعبي. لذا من حق أصحاب القرار - فضلا عن عامة الناس - معرفة لسان حال الأمة من المحيط إلى الخليج.

ولحسن حظ (مسجات) الهاتف المحمول: أنها بمنأى عن عيون ومقص ورقابة (المكتوبجي) الاسم الحركي العثماني التركي لحضرة الرقيب العتيد! إنها ثقافة (الديجيتال) والعولمة... حيث بات كل شيء (سداح... مداح) على حد تعبير إخوتنا في مصر المحروسة.

وهكذا نجد أن النكتولوجيا العربية الهاتفية جعلت الأرض العربية تنكت وتسخر وتضحك بالعربية. ولعل النكتولوجيا العرباوية تكون وسيلتنا صوب الوحدة العربية المقبورة المأسوف على شبابها.

وقد صار من المعروف أن النكتة أصبحت من أفتك أسلحة الحرب النفسية. ومن هنا تجد أن العديد من أجهزة المخابرات في الدول تملك (ورشا) لصناعة النكتة, باعتبار أن (النكتولوجيا) صارت صناعة حربية مدمرة يعول عليها في الحروب والمحن والأزمات.

ولعلنا لاحظنا التراشق الرهيب بالنكات بين الأطراف المتحاربة, والتي نقلتها (المسجات) في التو والحين.

وقد أدركت قوات التحالف أهمية وجدوى الرسائل الهاتفية في إشعال نيران الحرب النفسية, لذا أولتها العناية الكافية, ولم تكتف بإشاعتها بين عامة الناس, بل إنها حرصت على إيصالها إلى (صدام حسين وجماعته) في عقر دارهم!

ومن يعلم, فقد تكون النكتة أحد أسباب هزيمة وانهيار صدام في الحرب النفسية, ألم يقل (بول فاليري - 1871-1945): (إن الذين يخشون النكتة, ليست لهم ثقة كبيرة في قوتهم!!)

أقوال مأثورة عن الضحك والنكتة

  • أبادر بأن أضحك على كل شيء خشية أن أكون مضطرا للبكاء على كل شيء.

يومارشي (1732-1799)

  • إن الذين يخشون النكتة: ليست لديهم ثقة كبيرة في قوتهم!

بول فاليري (1871-1945)