جدار بين ظلمتين.. والمنافي العراقية جابر عصفور

 جدار بين ظلمتين.. والمنافي العراقية

كتبت منذ عامين أو أكثر عن المنافي العراقية, مؤكدا أنه لا يوجد مثقف عربي عانى, ولايزال يعاني, مرارة المنفى مثل المثقف العراقي الذي كتب عليه أن ينتقل من منفى إلى منفى, هاربا من وحشية القمع, كما لو كان مقدورًا عليه ممارسة شعائر الاغتراب القسري, تكفيرا عن جريمة التفكير الحر والإبداع الجسور والمخالفة التي تؤكد الحضور. لقد تحول العراق منذ سنوات عديدة إلى وطن جمر, طارد للمثقف الحر الذي لم يأمن على نفسه, خصوصا بعد أن توحَّشت براثن قمع زبانية صدام حسين إلى أبشع حد, ولم يكن هناك من إمكان للوجود في هذا الوطن إلا للذين يماشون, أو يحشون بالصحف المشتراة العيون, موشّين ياقات قمصانهم برباط السكوت. ولذلك تكاثرت المنافي العراقية خارج العراق, طوال زمن صدام حسين, ولاتزال كذلك رغم سقوط صدام حسين, فالآثار البشعة التي خلَّفها عهده لاتزال متجددة الكوارث, تأبى أن تترك العراق في سلام, وانقلبت بالوطن المحتل من حلم إلى كابوس, كابوس لايزال امتدادا للواقع المحبط الذي جعل العراق أضيق من ثقب الإبرة في أعين الأحرار من أبنائه. ولم يكن أمام هؤلاء سوى الفرار الذي يتجدد كل صباح, والذي قصد إليه أمل دنقل عندما تحدث - في قصديته (الطيور) - عن النفوس المتمردة, المهاجرة كالطيور التي ليس لها أن تحطّ على الأرض, وليس لها غير أن تتقاذفها فلوات رياح المنفى, مرشوقة في امتداد السهام المضيئة للحرية - الأمان, بعيدًا عن سمائها الأولى, وفي المدى الذي يظل يسترجع كل الجدران الواقعة بين الظلمات.

وبالقطع لم يكن العراق وحده في معاناة القمع, فوطأة الظلم واقعة على المثقفين في كثير من الأقطار العربية, وخنق حرية التفكير مثل قمع الاختلاف دافع متجدد إلى تكرار ظاهرة المنافي العربية الجديدة التي أصبحت واقعا نراه في كل الأقطار الأوربية والأمريكية وغيرها من أقطار العالم المتقدم. وما أكثر ما كتبه المثقفون العرب من روايات في المنفى, ومن قصائد وأشعار, ومسرحيات ولوحات, ودراسات وكتب, فضلا عن مجلات المغترب الأدبي وصحفه. ودائما, نحن في حضرة الحرية الغائبة عن الأقطار التي دفعت بنيها إلى الهجرة, وفي حضرة القمع التي تتولى كتابات المنفى تعريته, كأنها تكمل المهمة التي تبدأ في الداخل, وهي المقاومة بالكتابة التي هي نقيض التعصب والظلم والفساد, الكتابة التي لا تتردد في اللجوء إلى حيل المجاز والكناية لتراوغ براثن الشر, وتنطق المسكوت عنه من الخطاب السياسي والاجتماعي والفكري المقموع. وبالطبع, تختلف درجات المصارحة بين كتابات الداخل والخارج, منافي الوطن والمنافي في خارج الوطن, لكنها تلتقي جميعا في الحافز الذي يستبدل مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع, وآفاق الحرية بشروط الضرورة, وجرأة إنطاق المسكوت عنه بخنوع الذي يبقي المستور مستورا.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكثر الأعمال الإبداعية والمذكرات الشخصية وكتابات السيرة الذاتية التي تتعرض لأشكال القمع الموجودة على امتداد الوطن العربي, فظهرت روايات السجن التي فرضت حضورها, تدريجيا, في ربع القرن الأخير بأقلام كتَّاب من أمثال عبدالرحمن منيف (شرق المتوسط) وشريف حتاتة (العين ذات الجفن المعدني) وإسماعيل فهد إسماعيل (المستنقعات الضوئية) وياسين رفاعية (الرجال الخطرون) ونبيل سليمان (السجن) وصلاح حافظ (القطار) ورفعت السعيد (البصقة) وشاكر خصباك (الحقد الأسود) وفاضل العزاوي (القلعة السوداء) وفيصل حوراني (المحاصرون) وصنع الله إبراهيم (تلك الرائحة - شرف) وغيرهم. وهي روايات عرفها القارئ العربي بفضل الهوامش المحدودة من الحرية المتاحة في بعض الأقطار العربية أحيانا, وغير المتاحة في العراق في كل الأحوال, شأن روايات السجن في ذلك شأن كتابة السجن المصاحبة التي أخذت شكل مذكرات أو يوميات أو رسائل أو شهادات, تجمع بين ممثلي اتجاهات متباينة تباين فتحي عبدالفتاح (شيوعيون وناصريون) وإلهام سيف النصر (في معتقل أبو زعبل) وطاهر عبدالحكيم (الأقدام العارية) ومصطفى طيبة (رسائل سجين سياسي إلى حبيبته) ونوال السعداوي (مذكراتي في سجن النساء) وأحمد رائف (البوابة السوداء) وفتحي فضل (الزنزانة) وغيرهم وغيرهم. وما يصل بين هذه الكتابات هو أنها جميعا أشكال من المقاومة التي هي تسجيل للقمع واحتجاج عليه بتعريته والكشف عن آلياته ولوازمه, وذلك على نحو يمتزج معه التسجيل الذاتي بالتوثيق الموضوعي, ويكتسب السرد ملامح نوعية يتحول بها السارد الضحية إلى شاهد على جلاّديه, وتتحول الكتابة إلى فعل من أفعال الإدانة.

وتتسم هذه الكتابة بملامح متكررة, أو ثابتة, أولها أنها كتابات تستخدم التوثيق وسيلة للإدانة, وكشفا عن بشاعة الجرم, سعيا إلى زيادة عدد المحتجّين على النظام السياسي الذي ينتج هذه الظاهرة غير الإنسانية, وفضحا لهذا النظام في أعين العالم كله, وتأكيدا للحقيقة التي يسعى هذا النظام - عادة - إلى إخفائها وراء شعارات برَّاقة. ولذلك تلجأ هذه الكتابات إلى التفاصيل الواقعية المؤلمة مهما كانت قسوتها أو بشاعتها, وتتأنى سرديا ووصفيا إزاء مشاهد التعذيب والتنكيل والقتل الذي يحدث في السجون والمعتقلات, كما تسلّط عدساتها الضوء على الشخصيات المرتبطة بالسجون من العسكر الحرّاس والعسكر السجَّانين والعسكر الذين يتولون عمليات التعذيب ويتفننون فيه. ورواية (العسكري الأسود) التي كتبها يوسف إدريس مثال دال على ذلك, والملمح الثاني لهذه الكتابات أنها لا تكتب تحت وطأة الحدث القمعي للسجن أو غيره مباشرة, حتى لو استعان كاتبها ببعض المذكرات أو اليوميات المهربة.

إنها دائما تتم بعد انتهاء التجربة الموجعة والبشعة, وعلى سبيل الاسترجاع الذي يسعى صاحبه إلى تجسيد مشاهد الرعب على الورق, وتثبيت مشاعر الخوف والقلق والألم والحزن والغضب واليأس والإحباط وغيرها على الورق, خوفا من النسيان, وقصدا إلى أن تظل وقائع العذاب باقية في الوعي الجمعي كالعار, وفي تاريخ الطغاة كالجريمة, وفي مسيرة التحرر كالدافع المتجدد والمتوهج إلى الأبد. وليست الإمكانات العملية هي التي تحول دون الكتابة الآنية لروايات السجن أو مذكراته, وإنما الإمكانات النفسية أيضا, فمن الذي يمتلك رفاهية الوقت والكتابة وسط عواصف التعذيب المتكررة, وفي مناخ الانتظار الدائم للأفظع والأقبح والأقتل.

والملمح الأخير لهذه الكتابات أنها مكتوبة ومنشورة خارج وطنها, بعيدا عن النظام السياسي القائم, وفرارا من بطشه وإدانة له بنشر هذه الكتابات في بلد عربي آخر يسمح بها,استغلالا للتناقضات العربية - العربية, أو في أوطان أوربية وجد مثقفو المنفى فيها الحرية التي حُرِموا منها بالحديد والنار في أقطارهم العربية كلها. وبالطبع, يحدث أن توجد هذه الكتابات في البلد نفسه, ولكن بعد انتهاء النظام المتَّهم بالقمع أو انهياره لسبب أو لآخر, تماما كما حدث في عهدالسادات, عندما تكاثرت الكتابات عن السجون والمعتقلات الناصرية, وهي الكتابات التي نظر إليها النظام الساداتي بعين العطف النفعي ومن منظور الاستخدام السياسي غير المباشر, فسمح بها ولم يعترض عليها ولم يصادر شيئا منها, لأن هذا النظام وجد في مثل هذه الكتابات ما يخدم دعاياته المضادة للناصرية, ويبرر بها شعاراته (الزائفة) المرفوعة عن الحرية والديمقراطية.

وبالطبع يمكن أن نرسم خارطة جغرافية لروايات السجن ومذكراته, حيث يمكن أن نكتشف شيئا دالا, وهو شحوب مذكرات السجن العراقي وندرتها بالقياس إلى بقية الأقطار العربية, خصوصا طوال فترة نظام صدام حسين, وذلك لما عرف به هذا النظام من مطاردات مستمرة لمعارضيه في الخارج, ونجاحه في اغتيال رموز عراقية في المنفى, الأمر الذي أشاع الرعب في العراقيين المنفيين على نحو يحكى في مئات الصفحات, وأنا شخصيا شاهدت من نماذج الرعب بين المنفيين طوعا والهاربين من نظام صدام ما جعلني كارها لهذا النظام منذ سنوات طويلة في حياته. ومع ذلك فلم يسكت المنفيون العراقيون عن إدانة أنظمة القمع بوجه عام, والقمع العراقي بوجه خاص, حتى ولو على سبيل المجاز التاريخي, ولذلك كتب محمد حسين الأعرجي كتابه (جهاز المخابرات في الحضارة الإسلامية) وأهداه إلى أرواح شهداء القمع: يعقوب النجار العامل العنيد شهيد أقبية التعذيب في مديرية أمن النجف 1961, ونزار حبيب الأعرجي شهيد انتفاضة معسكر الرشيد 1963, وفاضل صالح الأعرجي شهيد انتفاضة (مارس) 1991 وغيرهم من الذين لم تذهب تضحياتهم سدى. وهو إهداء كاشف يتجاوب والدلالة نفسها التي انطوت عليها محاولة عبود الشالحي في موسوعته المذهلة (موسوعة العذاب) التي امتدت عبر سبعة مجلدات لتصف صور التعذيب البشعة التي أمر بها سلاطين الظلم الذين كانوا أسلافا لأمثال صدام حسين.

ولذلك لم أستغرب عندما وجدت أن روايات السجن العراقية المباشرة والصريحة تأخرت كثيرا, وظلت مقموعة في الصدور والأوراق لسنوات طويلة, إلى أن تشقَّقت قبضة الرعب الوحشية في العراق, وتراخت أصابعها السامة خارجه, وبدأ نظام صدام في سقوطه الذي استمر لسنوات عديدة إلى أن سقط تماما - مع الأسف - تحت أقدام أحذية الجندي الأمريكي والبريطاني. حتى رواية (عالم صدام حسين) التي ظهرت قبل السقوط النهائي لصدام حسين, وفي سياق توقع هذا السقوط, حملت اسم كاتب مستعار, يخفي الإسم الحقيقي لمؤلفها على سبيل التقية, وخشية من أجهزة مخابرات صدام التي كانت ممتدة لتطول المعارضين الذين يشكّلون خطرا على هذا النظام البشع.

ومن أبرز كتابات السجن الدالة - في هذا السياق - كتاب (جدار بين ظلمتين) لبلقيس شرارة وزوجها رفعة الجادرجي, فقد لاحظت من الفحص الأول أن الكتاب صدر عن دار الساقي في طبعته الأولى سنة 2003 بعد سقوط نظام صدام حسين, وأن التجربة التي يحكي عنها الكتاب وقعت ما بين صباح السبت 16 ديسمبر 1978 والعشرين من أغسطس 1980, في فترة زمنية لا تتجاوز أكثر من عشرين شهرا وأن صاحبها ظل بعد هذه التجربة في العراق قرابة عامين, عاقدا العزم على مغادرة العراق حين تتاح له الفرصة, ممارسا أساليب التقية الممكنة, إلى أن استطاع أن يغادر العراق نهائيا في أواخر عام 1982, وظل في المنافي العراقية مع زوجته لسنوات طويلة, طاويا تجربته المؤلمة في أعماقه وأعماق زوجه, صامتا عن إنطاق المقموع في داخله حول هذه التجربة, إلى أن قرر - هو وزوجه - في النهاية إطلاق سراح المكبوت في ربيع سنة 2001, فبدأ عملية الكتابة التي نتج عنها العمل الاستثنائي (جدار بين ظلمتين) في العام نفسه, وخرج العمل إلى النور بواسطة دار الساقي في سنة 2003 كما سبق أن قلت.

وأنا أصف عمل بلقيس شرارة ورفعة الجادرجي (جدار بين ظلمتين) بأنه عمل استثنائي لأنه العمل الأول الذي يجاور بين ظلمة السجن الضيق الذي دخله رفعة الجادرجي ظلما, ولأسباب سياسية لا علاقة له بها, وحشر فيها اسمه حشرا لمصادفة عبثية, وظلمة السجن الأوسع الذي أصبح هو الوطن ومقر الأسرة, حيث كانت تعيش الزوجة بلقيس شرارة حُرَّة كالسجينة, قلقة على زوجها الحبيب, مطاردة بكوابيس الرعب المتوقع, وعيون الريبة والتنكّر والجحود, فكانت في ظلمة سجن موازٍ لسجن زوجها. ومن هنا جاء عنوان الكتاب الدال وتجربته الفريدة التي يزدوج فيها السرد والسارد, فينقسم الكتاب إلى فصول متوازية, فصل للزوج الذي يحكي الحدث من وجهة نظره وحسب ما رآه وشعر به, وفصل مواز للزوجة التي تحكي الحدث نفسه من وجهة نظرها وحسب ردود أفعالها الشعورية والانفعالية وردود أفعال العالم المحيط بها والاستجابات التي تراوحت بين السلب في الأغلب والإيجاب في الأقل, ولذلك نسمع في الكتاب صوتين بالقدر الذي نرى ظلمتين, ونرى كارثة السجن الظالم للمرة الأولى من خلال تداعيات وعي الزوج السجين وتداعيات وعي الزوجة الحرّة السجينة.

وبالطبع, تختلف خصائص الصوتين, ويعكس كل منهما اهتماماته الثقافية وتمييزاته الشعورية وعلاقاته النوعية, وذلك بالقدر الذي يسمح به الانعكاس للزوجة أن تكشف لا شعوريا عن ميولها الأدبية وأفكارها الاجتماعية ونزعاتها النسوية التحريرية.

ويمكن للقارئ أن يلمح تكرار بعض الأحداث بين فصول رفعة الجادرجي وفصول بلقيس شرارة, ولكنه التكرار الذي لا مفرَّ منه, والذي يتيح لنا أن نرى الموضوع نفسه, أو الحدث, من خلال منظورين, وعينين, ووعيين مهما تشابها في بعض الملامح والسمات, فإنهما يختلفان على أكثر من مستوى, الأمر الذي يضفي على السرد حيوية لافتة, ويتيح لنا قدرا من اتساع الرؤية التي توازن بين داخل السجن وخارجه, فنكتشف - مثلا - أن التضاد البسيط أو الحدِّي بين عالم السجن وعالم الحرية ليس هو نفسه الذي اعتدنا عليه, خصوصا عندما نشهد التداخل الذي يمتد من الداخل إلى الخارج, ومن الخارج إلى الداخل, فندرك شيئا فشيئا أن رفعة الجادرجي لم يكن وحده في الزنزانة التي احتوته عاريا, وإنما كان الوطن كله في سجن ممتد, سجن احتوى الزوجة وأصدقاءها الأقل الذين وقفوا معها في المحنة, وأصدقاءها الأكثر الذين فرّوا منها فرار السليم من الأجرب. ولم يكن هناك فارق جذري بين النوعين, فكلاهما كان حبيس السجن الأوسع الذي كان يوازي السجن الأصغر ويحمل قوانينه نفسها التي تبدأ وتنتهي بالقمع, والتي تشيع الخوف في كل مكان واتجاه.

مغزى الكتابة

ولكن رغم التميز الذي يمكن أن يلمحه القارئ ما بين صوت الزوجة بلقيس شرارة وصوت الزوج رفعة الجادرجي, فهناك الاتفاق على مغزى الكتابة وهو المغزى الذي تشير إليه بلقيس في مقدمتها (التي كتبتها في فبراير 2001) حين تذكر أن الكتاب سيرة ذاتية واقعية وسرد للأحداث التي عانتها وزوجها من وطأة الاعتقال والحكم المؤبَّد التي صدر بحقه, وتسجيل لما عانته شخصيًا من الحالة النفسية بوصفها زوجة معتقل وسجين في العراق, وراجية أن يكون ما كتبته وزوجها وثيقة أخرى من الوثائق التي تصف معاناة الناس في العراق. ويمضي رفعة الجادرجي في الاتجاه نفسه مؤكدا أنه يكتب وزوجه هذه المذكرات ليس من موقف ممارس للسياسة, بل لأن لهما موقفا ذاتيا منها, كما أن لهما موقفا من مختلف الظواهر الاجتماعية الأخرى. ولذلك يتضمن تسجيلهما لما عانياه موقفا سياسيا واضحا, حتى على سبيل الإضمار, يستنكر أي نوع من السلطوية على إرادة الإنسان, سواء أكانت من مصدر علماني أم ديني.

لقد أقدما على تسجيل الأحداث المؤلمة, التي مرَّت بهما متمنّين أن تؤلف ولو جزءا ضئيلا من الخزين المرجعي السياسي بمرور الزمن, فكلاهما يعتقد أن الفكر السياسي في العراق لن ينمو ويتطور وينضج ما لم يتكون خزين مرجعي صادق ومحلّل للأحداث. وتتجلى أهمية ذلك حين نضع في اعتبارنا أن المجتمع العراقي عامة لم يمتلك من هذا الخزين المناسب ما يجعله يتمكن من تفعيله, والاعتماد عليه, ليحدث النقلة المطلوبة نحو الحداثة, حيث يتمتع المواطن بحقوق الإنسان. إن المجتمع العراقي مجتمع تقليدي في مرجعياته ومواقفه من الوجود فيما يقول رفعة الجادرجي, فهو مجتمع أغلبه غارق في غيبيات وأساطير فات زمانها, وأصبحت تشكّل عائقا في وجه الحداثة والتحديث المقترنين بحقوق الإنسان واحترامه كرامته. ويجتمع الاستبداد السياسي مع التخلف الاجتماعي والجمود الفكري فتنتشر آفات التعصب والفساد والتسلّط والعداء للجديد المقترن بالحرية. وما لم يقدّم الكثير من المفكرين ويسهموا في تكوين خزين مرجعي سياسي لكي يستطيع الإنسان العراقي الرجوع إليه بهدف الدراسة والتحليل والنقد الموضوعي الجريء, فلا فائدة في صناعة المستقبل, وسيأتي بعد صدام من يشبهه, وتتكرَّر الدائرة الجهنمية من التخلف الذي يتبادل موقعه مع الاستبداد والفساد.

ويسجل رفعة الجادرجي في هذا الصدد أن المجتمع العراقي لم يعرف الدولة الحديثة بعد, فهو لم يمتلك دولة مبنية على المؤسسات بالمفهوم المعاصر, ولم يمتلك الحرية الملازمة لهذه الدولة. وكانت النتيجة أن المجتمع العراقي - وفي سياق الظلم الذي تعاقب عليه - لم يحظ بقيادة سياسية فكرية, تحاول توعيته بموقف سياسي حر شفاف, وتدريبه على ممارسته إلا فيما ندر, فظل مستلبا منها, تحت إدارة سلطوية وأنظمة حكم توارثت الاستبداد الذي وصل إلى مداه الأعنف في زمن صدام حسين. والحل هو تأسيس مرجعية فكرية سياسية معاصرة, والمضي قدما نحو تأسيس الدولة المدنية الحديثة بكل شروطها ولوازمها, ابتداء من مبدأ فصل السلطات, وتداول السلطة والديمقراطية, وانتهاء بالحرية بكل معانيها وفي كل مجالاتها.

تجربة فريدة

ولكي يسهم رفعة الجادرجي وزوجه في المقاومة بالكتابة قدَّما لنا كتابهما المشترك الذي يستحق الإشادة لما يقدمه من تجربة فريدة, تجمع بين متعة القراءة وآلام موضوعها, خصوصا حين تغوص الكتابة في أعماق ظلمة الخارج وعلاقات ظلمة الخارج فتوجعنا, لأنها تكتب عن آلام وأوجاع لانزال نعيشها, ولايزال يعيشها الشعب العراقي في معاناته التي بدأت من زمن صدام ولم تنته إلى اليوم.

والمفارقة الطريفة (المضحكة المبكية) في هذا الاتجاه أن الزنزانة التي اعتقل فيها رفعة الجادرجي ليقضي الحكم الظالم بالسجن المؤبد كانت في معتقل أبي غريب, أو سجن (أبو غريب) الذي تحوّل إلى ساحة تعذيب بشعة لممارسة أنواع السادية الشاذة بأيدي الجنود الأمريكيين الذين جاءوا بدعوى التحرير والحرية, فانتهى الأمر بالمفسدين منهم إلى ارتكاب الجرائم المضادة لحقوق الإنسان في السجن نفسه الذي مارس فيه زبانية صدام حسين جرائمهم البشعة على المساجين العراقيين الضحايا في كل الحالات, وفي مفارقة - إن دلّت على شيء, فإنما تدل على حجة منطلقات كتاب رفعة الجادرجي وزوجه بلقيس, خصوصا من زاوية تأكيد حقوق الإنسان العادلة, واحترام حقه في الاختلاف, ومماسة حريته في التعبير عن أفكاره بما لا يكون سببا في التنكيل به في حمأة التعذيب البشعة التي أطلق عليهم اسم (سجن أبو غريب) في العهدين: الصدامي والأمريكي بلا فارق.

والمفارقة الموازية أن رفعة الجادرجي لم يدخل (سجن أبو غريب) محكوما عليه بالمؤبد لأسباب سياسية تتصل بهجومه على صدام حسين مثلا, أو اختلافه مع حزب البعث الحاكم في التوجه, أو غير ذلك من الأسباب التي دفعت بالآلاف المؤلفة من العراقيين الأحرار إلى السجن, وإنما دخل السجن مصادفة, وبسبب خلاف سياسي لا علاقة له بين الحكومة العراقية والحكومة البريطانية, وترجع الحكاية إلى حادثة اغتيال عبدالرازق النايف في المنفى البريطاني الذي اختاره لنفسه بأيدي المخابرات الصدامية. وقد قبضت الحكومة البريطانية على الشابين المجندين اللذين اغتالا النايف, وطالبت الحكومة العراقية بالإفراج عنهما, ورفضت بريطانيا لأنها قدمتهما للمحاكمة, ولابد أن ينالا العقاب حسب القوانين البريطانية, فحاولت الأجهزة العراقية الضغط المضاد, وقبضت على أحد رجال الأعمال البريطانيين - سباركي مدير الشرق الأوسط لشركة ويمبي - بلا سبب مقنع, واحتجزته مع استجوابه عن معارفه الذين ذكر على رأسهم رفعة الجادرجي, فقبضت على الجادرجي لهذا السبب, وحوكم بتهمة تشبه الخيانة العظمى, وسعى محامي البعث المأجور إلى إنقاذه بتخفيف الحكم إلى المؤبد, وكانت بداية المأساة التي أطاحت بالرجل إلى جهنم (سجن أبو غريب) قرابة عامين, وظل الأمر على ذلك الحال إلى أن توسطت عائلة الرجل وأصدقاؤه العرب والأجانب, وسعت زوجه وأمه أكثر من مرة للإفراج عنه دون جدوى.

ولم يتم الإفراج عن الجادرجي إلا بسبب مؤتمر عدم الانحياز الذي تقرر إقامته في بغداد, وسأل الرئيس صدام الذي كان يريد إعادة تخطيط عاصمة ملكه ليزهو بها على رؤساء الدول القادمين إلى مؤتمر عدم الانحياز - أقول سأل الرئيس عن أهم المعماريين العراقيين فقالوا له: واحد في السجن هو رفعة الجادرجي, والثاني في الخارج هو الدكتور محمد مكية الذي ترك العراق منذ بداية السبعينيات, فأمر الرئيس بالإفراج عن رفعة الجادرجي واستقدام محمد مكية ليقوما بمهام التخطيط المعماري الجديد بمناسبة انعقاد مؤتمر عدم الانحياز سنة 1982, وبالفعل يفرج عن الجادرجي بتعليمات الرئيس, ويمارس الرجل عمله, ويلقاه الرئيس ليتفقد معه النماذج في سبتمبر 1980, ويصدر بعدها قرارا جمهوريا بإنهاء قضيته تماما.

وإذا كانت دلالة هذه المفارقة تشير إلى عشوائية اعتقال البشر في الأنظمة الاستبدادية, حيث لا توجد ضمانات لحقوق الإنسان, ولا محاكمات عادلة, ولا قانون حقيقيًا أو دستور يحتمي به المواطنون, ولا أحزاب حقيقية يمكن أن تدافع عن أبنائها وبناتها في مواجهة عسف النظام القائم, فإن دلالة المفارقة نفسها تشير إلى الديكتاتور الأعظم, البطريرك الأكبر في الأنظمة الاستبدادية, ذلك الذي تتجمع بين يديه مصائر البشر, يفعل بها ما يريد دون رقيب أو حسيب, وحسب مزاج يمكن أن ينقلب من النقيض إلى النقيض, فيجمع بين وهب الحياة والمال, وقبض الحياة والمال حسب الأطوار, وتبلغ المأساة الإنسانية ذروتها حين تتعلق حياة ومصائر عائلات المسجونين بأصابع هذا الطاغية الذي يسرف في الظلم, ولا يعدل إلا في أندر الحالات كي يكون عدله النادر والزائف مكرمة يتغنّى بها العبيد.

مسحوق الهمس

وقد خرج رفعة الجادرجي من سجنه نتيجة إحدى هذه المكرمات, وبعد أن حاولت أمه وزوجه وأقرباؤه المحاولات المتكررة للحصول على هذه المكرمة سدى, بل بعد أن بذل الأصدقاء من الخارج كل المحاولات بلا فائدة, ولم ينقذ الرجل سوى الحاجة إليه, فأخرج من السجن الذي ما كان ينبغي أن يدخل إليه فعلا, لكن المؤكد أن دخوله إلى السجن قد أفاده وأفادنا, فجعلنا نرى بعينيه طوائف الشعب العراقي المختلفة, وأحزابه المعارضة التي جاورته في (سجن أبو غريب) فاقترب منها, وشاركها حياة الرعب والقمل والجوع, وانطلق وإياها في فانتازيات الخيال المقموع الذي يخترق به السجين جدران سجنه, ليشبع الرغبات المقموعة في داخله, ويمارس - على مستوى الوهم - حياة الحرية التي جعله السجن يعرف معناها وغاياتها, وممتعة هي الصفحات التي ينطلق فيها رفعة الجادرجي ليحدّثنا عن فانتازيات السجناء الذين يستبدلون بقسوة الزنزانة وضيقها وظلمتها حنو الخيال واتساعه وامتداداته المنيرة, وقد دفعتني هذه الصفحات إلى تذكر قصة يوسف إدريس القصيرة (مسحوق الهمس) وهي قصة تدور حول مسجون قيل له إن وراء جدار زنزانته تقع زنزانة في سجن النساء, تقطنها سجينة أو سجينات, ويمضي الخيال المحروم في اختراع محادثات وهمية هي مسحوق الهمس, وعلاقات خيالية, وتنتهي في النهاية إلى الإحباط المطلق حين يكتشف السجين أن مسألة زنزانة النساء هذه وهم خالص وإشاعة لا محل لها من الحقيقة, والإحباط نفسه هو ما تنتهي إليه فانتازيات رفعة الجادرجي وأقرانه الذين تباينت مستوياتهم الاجتماعية على المستوى الذي تحقق به الزنزانة عدلا اجتماعيًا مفتقدًا في الخارج, فيتشارك الجميع في الظلمة والقمل والرعب والإحباط والحيز الضيق الذي ينحشرون فيه كأنهم في علبة سردين.

وبالطبع, لا يترك رفعة الجادرجي المجال إلا ويحدّثنا عن أقرانه في المعتقل, وذلك في سرد يصل بين ملامح الشخصيات, وملامح المكان, فيسقط الظلمة والضيق على النفوس المستوفزة, ولكن التي تظل مع ذلك قادرة على الضحك الذي يشبه البكاء واقتراف لحظات فرح مسروقة والتذبذب بين أمل الإفراج والخروج من الظلم وإحباط تحطم الأمل وتر مشدود بين النقيضين اللذين يتوزّع حولهما كل شيء في السجن, فعالم السجن, دائما, سواء في روايات السجن أو ذكرياته, هو عالم حدِّي, القسوة فيه مطلقة, والعنف لا حد له, والظلمة مطبقة تماما كأبواب الزنازين المغلقة, والضيق هو الشعور المقموع المناقض تماما للشعور بالحرية, والقذارة منتشرة كالحشرات, والطعام هو مرآة المكان الضيق المحاصر, والمراحيض ممتلئة بالبقايا الآدمية التي تزيل الفارق بين الإنسان والحيوان, فالمطلوب من زنزانة الاعتقال في النهاية هو تحويل الإنسان إلى حيوان, أو شيء لاإرادة له, ولا قدرة له على المقاومة, ولا أمل له إلا في مكرمة من سيد المكرمات الأكبر, الحاكم الواحد الذي لا حاكم سواه, وماعدا الصمت الذي يمتد ثقيلا, لزجا, دبقا, كثيفا, يمكن أن يرى ويحس, خصوصا في تثاقله الذي يهبط على الصدر فيكاد يخنقه.

وبالطبع, يمكن أن نستشف ملامح الحاكم الأوحد - صدام - من تفاصيل السرد وتجاوبه بين فصول رفعة الجادرجي وفصول زوجه, فهو يحمل الملامح النمطية نفسها التي حملها نموذج الحاكم المستبد في (خريف البطريرك) التي كتبها جارثيا ماركيز, والتي تجاوبت مع صورة صدام حسين في رواية (عالم صدام حسين) الشهيرة. أقصد أنها الملامح التي تفرض نفسها على الجميع, وتعمل الأجهزة القمعية للدولة على ترسيخها في أذهان الجميع. ولذلك تزيّنت شوارع بغداد وغيرها من المدن العراقية بصور الرئيس, صوره المعلقة في الطرقات مع تماثيله في الميادين قرينة آلاف الصور مختلفة الأحجام في كل مكان, الصور التي تبرزه بملابس متنوعة, شعبية وعسكرية ومدنية, وترتفع الصور عالية كي يشعر المواطن العراقي في كل مكان بعيني الرئيس تخترقانه, وتستقران في أعماقه, أو تستقران على معصميه مع الساعات التي تحمل الصور نفسها وتحيط كالقيود معاصم الرجال والنساء وارتفاع حجم التماثيل هو الوجه الآخر من ضخامة الصور في معنى المهابة وإيقاع الخوف في النفوس, خصوصا حين تقترب أعين المحكومين من الملامح في الصور أو على شاشات التلفزيون, فتشيع الملامح الرهبة في النفوس المعلّقة كلها بخيوط الخوف إلى هذه الصور.

وإذا كانت العينان نافذتين, مليئتين بالعزم والثقة, فبقية الملامح تكمل الانطباعات نفسها, خصوصا حين تنطق الملامح العنف الذي يتظاهر بالرحمة, والبسمة التي تخفي أنياب الشر, واليقين الجازم الذي ينطوي عليه المستبد فيتوهم أن ما يفعله هو عين الصواب, ومعنى الرسالة المقدسة التي يجسّدها حضوره, فيغدو إياها وتغدو إياه, فيما لا رجعة فيه أو مخالفة, بل فيما يجعل من المستبد المرجع الأعلى والصوت الأوحد والأصل المطلق لكل شيء, فلا همّ للجميع حوله إلا تكرار أحكامه, والإذعان المطلق لنواهيه, ونقل الشر منه إلى مَن هم أدنى منهم, وانتقاله منهم إلى غيرهم بما يجعل طبائع الاستبداد شائعة في المجتمع كله, وبما يؤدي إلى جبن الأفراد, واتساع مدى ظاهرة المقتولين القتلة, حيث ينقل المظلوم الظلم الواقع عليه إلى غيره, وتبرز في هذا السياق قصة صديق رفعة الذي قابله في السجن, والذي دخله لأنه أرسل خطابا إلى صديق أردني له كان يعمل سفيرا في العراق, يطلب منه أن يجد له عملا, لأن الحياة في العراق, أصبحت لا تطاق, فيقرأ حامل الخطاب, ما فيه, وبدل أن يسلّمه إلى الصديق الأردني, يسلمه إلى سلطات الأمن البعثي تزلّفا ونفاقا, فيذهب المسكين إلى السجن, ولا يخرج منه إلا محطّما, ونتيجة مكرمة عفو من العافي الأعظم الذي قبل توسّلات الزوجة الأجنبية, وقل مثل ذلك في الحكاية التي ترويها بلقيس شرارة عن الصديق محمود الذي زارها بعد أن صدر الحكم على رفعة بثلاثة أيام, فيترك ابنه بالسيارة بالرغم من حر الظهيرة, ويصر على ذلك, وتدرك بلقيس سبب إصراره, فهو لا يأتمن ابنه الصغير على سماع الحديث الذي يدور بينه وبين زوجة محكوم عليه بالمؤبد, خصوصا أن الابن في عمر لا يستطيع أن يقدر مدى خطورة الموضوع.,

وقس على ذلك تبدل الوجوه المحبة إلى وجوه معادية في الجزء الذي ترويه بلقيس والخسّة الإنسانية التي تظهر قرينة شيوع صور القمع والخوف من الوقوع في المحظور. فيتباعد أصدقاء الأمس طلبا للأمان, ويسرفون في التجاهل طلبا للحماية, ولا يبقى سوى عدد قليل جدا من المخلصين الذين هم أندر من الكبريت الأحمر في كل زمان ومكان, ولا ينفصل عن ذلك شعور الزوجة بالنبذ من العيون التي تقابلها في التجمعات, ومحاولات التجاهل الخسيسة التي تؤذي النفس, والأذى المجاني الذي يمكن أن يوقعه الآخرون تقرّبا إلى السلطة التي نجحت بعمليات القمع في أن تخلق داخل الجميع رقيبا بشعا ينقض إنسانية الإنسان وينحدر بها إلى حمأة الحيوان, ودالة هي المشاهد التي تصوغها بلقيس شرارة في حيوية وصدق, واصفة تحولاتها الشعورية, وتحولات الأصدقاء حولها, ودالة بالقدر نفسه الشفرات التي يتبادلها الخائفون في أحاديثهم اليومية, مخترعين من الكنايات ما يعينهم على أن يتلفظوا بعبارات ويعنون غيرها, خصوصا بعد أن رفعهم القمع إلى اختراع شفرة, مفاتيحها السرية يعرفونها بالدربة وتكرار الممارسة ودوام العسف.

هواء ثقيل

وطبيعي أن تتضمن الفصول التي كتبها رفعة صفحات طويلة من وصف السجن, وبخاصة الزنازين التي تنقّل بينها, وأغلب الوصف للزنزانة التي استقر فيها بعد صدور الحكم عليه, والوصف يبدأ من ضيق الزنزانة ويمتد ليشمل تفاصيل الجدران والأرضيات, وذلك في نوع من السرد الذي يسقط المكان على الزمان, ويعكس بناء السجن على علاقات البشر وملامح البشر على جدران المكان, وذلك من عيني معماري هزّته المأساة فدفعته إلى كتابة تعكس ثقافته وقراءته, هكذا, يحدّثنا المعماري عن سعة الزنزانة رقم (26) التي لا تعدو أكثر من متر وسبعين سنتميترا عرضا, ومترين طولا, ويشعر فيها السجين بثقل الهواء بسبب حشر المعتقلين في ذلك الحيز الضيق حيث لا مجال لحركة الهواء النقي فيها, فيدور الهواء كما لو كان داخل فنجان, أو داخل زنزانة تمتزج رطوبة أنفاس المساجين الخمسة فيها بهوائها الفاسد, ويحدّثنا المعماري نفسه عن تكوينات القمل الذي يتغلغل في الملابس, وعن الروائح التي تتخلل الزنزانة, وعن إيماءات الهمس التي تتخلل بئر الصمت العميقة القرار, الصمت القابع في الذات, يحاصر السجين ويحميه بانتظار موته الموتة الكبرى, ولا تغفل عينا المعماري عن العلاقة المباشرة بين ضيق الزنزانة وغسق الظلمة. خصوصا حين تنزلق الجدران بجوانبها الأربعة كل مساء, فتقلّص الحيّز, وتضيّقه على المساجين بقدر ما تفقدهم اليسير من ضيائها, فتقترب الظلمة من أعماق النفوس التي تشتد عتمة مع عتمة جدران السقف, فيصبح الجميع في بئر عميقة من العتمة. ومع ازدياد عمق العتمة ينتهي النهار, ويعمّ الصمت, ويتوقف الهمس, ويبدأ صمت آخر انتظارا لوجبة العشاء, ثم صمت الخوف من أوقات دورات التحقيق المفاجئ.

وينتقل الوصف إلى الزنزانة رقم (5) حيث نجد قدرات الوصف نفسها, لكن مع تنويعات أخرى تكمل الدلالات التي ينطوي عليها الإرهاب والاعتقال, فالأول من المقومات الأساسية لسلطوية السلطة, ويعتمد على الصدفة, الصدفة في تعرض فرد ما لممارسة إرهابها وليس غيره, وذلك دون مبرر معقول أو منطقي, فتؤلف الصدفة مصدر الإرهاب الذي يحافظ عليها بوصفها مكونا أساسيا في نظامه. أما الاعتقال فيقترن بالواقع النفسي الذي ينتجه عالم الزنزانة, خصوصا في سكونه الذي لا يقطعه سوى خطوات الحرس, ورنين دلو وجبات الطعام الحديدي, وأصوات حركة سيارات المخابرات, وصوت حركة القطار وصفيره البعيد, وأحيانا زقزقة عصفور أو عصفورين, ولا تتغير المواقع في الزنزانة, فالحدث الجديد فيها ليس الوحدة بين أربعة جدران, فالوحدة قائمة مع امتداد الزمان, في عالم لم يتوقف فيه الزمان والمكان فحسب, وإنما أصبح المكان مجمّدا بين أربعة جدران داكنة, رهيبة, حيث توجد هنا وهناك على جدرانها آثار كتابات مع خطوط مستقيمة ومنتظمة, خطوط لا يدري أحد هل تشير إلى عدد الأيام أم الأسابيع أم الأشهر أم السنوات لأحد المعتقلين, وتختلف الفصول عن الفصول الطبيعية التي تقع خارج الزنزانة التي تختزل الفصول إلى اثنين فحسب, الشتاء والصيف, الشتاء يأتي بالبرد القارس الذي لا تفيد فيه المقاومة, والصيف يأتي بالحر الذي يخنق الروح فوق ما هي مختنقة بضيق الزنزانة وظلمتها وسكون الزمان المقرون بالصمت فيها.

أما زنزانة الخارج التي عاشت فيها الزوجة محكوما عليها بما يوازي الحكم على زوجها, حيث ظلمة الخارج, فهي زنزانة تصورها مشاعر أديبة متمردة, قادرة على أن تلتقط برهافة جذر المأساة, خصوصا حين يلعب الرئيس الدور الأهم في مصائر الناس, فتغيب العدالة وتسحق القوانين التي تحافظ على كرامة الفرد وحقوقه, عندئذ لا يعامل الفرد كإنسان مهما علت رتبته وشأنه, بل يتحول إلى لعبة تحرّكها أهواء السلطة حسب رغباتها, وعليه الطاعة التامة. ولا يفوت بلقيس شرارة أن تجعلنا نرى عالمها الذي أخذ في الضيق المفاجئ نتيجة القبض على زوجها ومصادرة كل أمواله, وكيف ابتدأت رحلة السعي لطرق أبواب أناس من طينات مختلفة, طيبين, خائفين, جافلين, متعجرفين, يتكلمون من أرنبة أنوفهم, لكن ذلك لم يثن الزوجة والأم عن المحاولة, خاصة عندما لم يبق سوى خيط رفيع يفصل بين الأمل واليأس, فلا يبقى أمام المبتلى سوى التشبّث بشتى الطرق لإيجاد الوسيلة التي تنقذه من اليأس. ويزداد عالمه ضيقا بسبب تزايد النزوع العدواني في العالم الذي يحيط به, العالم الذي لا يسمح لها بحضور الأفراح ما ظلت محكومة بما يوازي حكم زوجها, فلا يبقى لها سوى حضور المأتم وسماع البكاء والنحيب, وبقية وسائل تعذيب المجتمع التقليدي القاسي على المرأة, ولا يفوت بلقيس شرارة التمرّد على هذا المجتمع التقليدي الذي تراه محكوما بثقافة ذكورية تسلطية, وعقلية مهيمنة هي عقلية المجتمع الزراعي الأبدي الذي يعود إلى آلاف السنين, هذه الثقافة الذكورية التسلطية هي الوجه الآخر من ثقافة الاستبداد التي أشاعها النظام السياسي القمعي لصدام حسين الذي نجح بسبب الرواسب التقليدية الجامدة التي استند إليها في التمييز بين فئات المجتمع.

ومن المؤكد أن وطأة شعور بلقيس شرارة بالظلمة التي شاركت فيها زوجها قد أرهفت إحساسها بالظلم الاجتماعي حولها, خصوصا حين يقترن هذا الظلم بأقصى وأصعب أشكال التمييز ضد المرأة, فكان يحزّ في نفسها - ولايزال بالقطع - أن تجد أناسا مثقفين ومتعلمين يؤمنون بقيم التحرر, ولكنهم يتصرفون بأسلوب المجتمع الأبوي, ولا يختلفون في تفكيرهم وتطبيقهم التقاليد عن الإنسان الجاهل الساذج, الأمر الذي يجعلنا ندرك أهمية العمل على تحديث العقلية في المجتمع العربي, وإلغاء القيم السلفية الجامدة التي هي أقوى بكثير من الآراء التحررية التي لاتزال بمنزلة قشرة خارجية في المجتمع.

واللافت للانتباه أن بلقيس شرارة تنتهي إلى النتيجة نفسها التي ينتهي إليها زوجها. حين يخرج من الخاص إلى العام, فيدرك مع امرأته أن مأساته هي جزء من مأساة أكبر, هي مأساة التخلف الذي يؤدي إلى نجاح الاستبداد السياسي وتعدد صوره, جنبا إلى جنب كل ما يقترن به من شيوع العقلية التقليدية الجامدة التي هي الوجه المجتمعي للنظام السياسي المتسلط, والموازي المتجاوب مع الفكر الديني المتزمت والعقلية العشائرية الطائفية, فكلها علامات التخلف الذي أنتج أمثال صدام حسين وأتاح لعالمه القمعي أن يفرض ظلمته على كل شيء بما في ذلك عالم بلقيس شرارة ورفعة الجادرجي, الذي هو عالمنا بمعنى أو غيره, مادمنا نعيش في الشروط السياسية الاجتماعية الثقافية نفسها, وهي شروط تعيد إنتاج نفسها, فلا تصنع جدارا واحدا بين ظلمتين, بل ملايين الجدران الممتدة من المحيط إلى الخليج.

 

جابر عصفور