دخول الروح سحر سليمان

دخول الروح

لا...لم أكن نائمة أو حتى أشعر بالنعاس, لا أبدًا, فقد كنت في قمة نشاطي الصباحي: وأنا أكمل قراءة الرواية: (رواية شرف لصنع الله إبراهيم) رغم أن بعض صفحاتها جعلتني أشعر بالملل للاستفاضة الطويلة في تفاصيل مملة, وإسهاب في أحداث لا تقدم للقارئ شيئا, إلا أنني أتابعها بسبب الفضول كي أعرف ماذا سيحل ببطلها, ومع ذلك أقرأها الآن وأنا أشرب القهوة بعد أن أنهيت عملي المنزلي وتفرّغت للقهوة ولشرف...وقتها فقدت الوعي, لا لم أفقده لأنني استعدت الوعي وعليّ هنا أن أقول إنني وقتها استعدت وعيي بعد أن فقدت ارتباطي بالعالم المحيط بي, صحوت ليس من إغماءة أو نوم أو فقدان الوعي, لا إنما الأنسب أن أقول إنني صحوت حين دخلت روحي إلى منزلها ثانية أي جسّدي, شعرت بوخزة مؤلمة في إصبع قدمي, وعلى الوخزة التي آلمت ساقي بل قدمي كلها شعرت بأنني أستعيد انتمائي للعالم الذي يحيط بي, أتلمّس الموجودات ككائن للتوّ قد خلق, جاء من العتمة, يتلمس ما يحيط به وهو القادم للتو رويدا رويدا يتنفس وينظر إلى الأشياء بدهشة لبدء علاقة من الترابط بينها حاولت جاهدة أن أسترجع وببطء شديد رحلة فقداني للوعي, ومتى بدأت, وكيف كانت أول الإشارات للغيبوبة, تفقدت فنجان القهوة على صحنه لم يتحرك, وصفحة الرواية التي كنت أمسكها بين أصابعي كأنّها شبه مدعوكة بقوة, رأسي قد مال عن الوسادة التي اتكّئُ عليها, تركت نفسي على وضعيتها واستعدت عملية ما قبل دخول الروح لكن لم أفلح في أي محاولة.

فلم أكن قد مت, ولا أصابني هبوط ضغط ولم أشعر بصداع أو دوخة, أو...أو...

لكنني مؤكد بل مما أثق به وأتيقّن منه أنني كنت قد متّ, لكن كم طالت مدة موتي, وكم استغرقت من الزمن, مؤكد أقل من دورة الساعة الزمنية لأنني أذكر أنني جلست أكمل الرواية في الحادية عشرة والآن الوقت أقل بقليل من الثانية عشرة ظهرا.

طيب, ماذا رأيت, سمعت أين خرجت الروح? أو كيف عادت?! وفي خروجها أين كانت? وماذا رأت? أو سمعت?!

كل هذه الأسئلة دوّنتها إلى جانب تاريخ هذا اليوم والشهر والعام والساعة, في مفكرتي الصغيرة وتركتها على أحد رفوف المكتبة كي أعود إليها بعد فترة من الوقت وأرى أي الأحداث ترافقت مع عودة روحي ودخولها في إصبعي واستقرارها في حلقي أو عيني أو قلبي, لا أدري.

عدت بعدها أتابع حياتي الثانية التي وهبت إليّ وأنا بين الحين والآخر أسترجع تلك الدقائق الحرجة التي مرّت بها روحي.

أحاول أن أمسك بزئبق صورها, أبعد نفسي عما يحيط بها من أحداث وأشخاص كي أدخل في ذلك الجو أكثر, أسترجع تلك اللحظة التي سبقت دخول الروح ثانية هذه العدميّة أو السديميّة, هذا الانفصال الكامل عن العالم وعن الجسد أين ذهبت?! أتعمّق أكثر بتلك الحال, لكن أعود دون أي جواب أو نتيجة.

بدأت أتناسى تلك الحال أو أدّعي نسيانها كي أتابع حياتي وأكمل بعض الأمور, التي من ضمنها متابعة الإنترنت بشكل مستمر ومتواصل, وأول ما أطالعه تلك الصحف العراقية, بالأخص صحف المعارضة تحديدًا, لأن تلك الصحف مُنعت من الدخول إلينا, لذلك أتحيّن الفرصة كي أقرأ أهم الأخبار الذي كان آخرها إعدام (40) شابا حاولوا الفرار.

جاء إعدامهم حسب التعليق في الصحيفة بعد سجن وعذاب تم إطلاق النار عليهم. ضحكت على الخبر, وهل من المتوقع بعد السجن والعذاب أن يُطلق سراحهم ليحيوا أصحاء أقوياء?! ولماذا كتبوا كلمة النار, ولم يذكروا كلمة الرصاص? بدأت أقرأ الخبر الذي شغلني بهدوء, وكان كالآتي: حملة إعدامات جديدة ضد سجناء معتقل الرضوانية والعميد بهاء الدوري ينفذ الحكم ضد (40) سجينا.

بدأت أقلّب صفحات الأسماء فكان من بينهم اسم طلعت حسين, وقفت عند هذا الاسم, وحال من فقدان الرشد أو النطق, حال من عدم الاستيعاب أول ما تضرب في المخ خلايا الذاكرة والحاضر فتصبح عديمة الانتماء لأي أوان, حال من الهامشية تعيشها وأنت هشّ.

أول شيء فعلته بعد أن شعرت أنني استعدت توازني ولو قليلا وأصبح بإمكان عقلي الفصل بين الأمور, أنني رحت أقلّب صفحات المفكرة لأرى تزامن الأحداث, فكان تاريخ صدور تلك الجريدة في 22/6/2002 وتم الإعدام في تمام الحادية عشرة ظهرا, عدت للأرقام, والمقارنة والربط, إذ إنه التاريخ نفسه ذلك المدوّن في مفكرتي وبالتوقيت الزمني نفسه.

إذن, معذورة روحي حين لا ترد عليّ وقت أسألها ماذا رأيت وأين كنت? فقد كانت هناك, ترفرف مع الأرواح التي رفرفت عاليا, مسكينة هذه الروح التي شهدت كل تلك الرصاصات وهي تخترق تلك الصدور والرءوس, حزينة هي روحي, كيف استطاعت أن تستدل على بيتها أو مأواها في طريق عودتها بعد الذي رأته.

أطفأت الجهاز, ونهضت أسترجع ببطء, وبطء شديد تلك الحال التي مرت بي واسترجعت ببطء أشد تلك الوخزة المؤلمة التي شعرت بها في إصبع قدمي اليسرى, إذا خرجت الروح فجأة مع حادثة إعدام طلعت في سجن أبو غريب الواقع في ضواحي بغداد. بعد ساعات أو دقائق أو أيام لم أعد أميّز الحال أو الوقت الذي كنت أعيش فيه بعد قراءة الخبر لأول مرة, حال من غثيان الروح ودورانها في حلقة الضياع فهي من ضاعت أم ضيعت? عدت إلى موقع الصحيفة المعارضة كي أعاود قراءة الخبر بهدوء, فقد كان الخبر عن (44) سجينا سياسيا منهم من لفقت له تهم دينية وسياسية تم إعدامهم رميا بالرصاص, في منطقة بسماية العسكرية الواقعة على طريق بغداد - الصويرية, وسوف تسلّم الجثث إلى ذويهم على شكل دفعات أسبوعية, أطفأت الجهاز ثانية, فما نفعي بهذه التفاصيل الآن, لكن كيف جاء طلعت من إيطاليا إلى حيث هذا المعتقل, وعدت إلى يوم 10/3, وآخر اتصال هاتفي, منه حين أخبرني أنه ترك ليبيا منذ أكثر من شهر وهو الآن في إيطاليا, وقد سنحت له الفرصة ليتصل ويطمئني عنه, لأنه سيمكث في إيطاليا مدة لا يعلمها حتى تسنح له فرصة التسلل إلى هولندا ثم إلى السويد. ورغبته كانت بدولة السويد لأنها الوحيدة التي تسمح بلم الشمل ولم يكن يعلم أن روحه الواحدة تفرقت عن جسده, فكيف لشمله أن يلتم? لكن على ما يبدو أن الفرصة لم تسنح له ففضل العودة إلى ليبيا ليتابع عمله السابق كمحاسب في أحد المحال التجارية التي تقع وسط مدينة بنغازي. أثناء عودته ومروره بتركيا سلمته السلطات التركية إلى السلطات العراقية, فهو تعرّض لمثل هذا الموقف العام الماضي حين سلمته السلطات التركية إلى السلطات العراقية في كردستان الشمال, ومن الشمال أيضا أعاد الكرّة للعودة إلى ليبيا والعمل هناك, حتى يستطيع بعدها تدبير النقود للسفر إلى الخارج.

وبقي هكذا يعمل ويخبئ النقود حتى يجرب السفر ثانية, أو يقامر ويغامر ليُمسك ويفكر بالهرب إذن طلعت كان يعرف بنهايته لأنّه كثيرًا ما كتب لي في رسائله أنه فقد كرامته وعزّة نفسه حين غادر منزل أهله الأول, فقد كان يقيم مع أهله في كركوك لكن السلطات العراقية رحّلت أهله, وهي تطبّق سياسة التعريب, فقد هُجرت أسرته مع أربع عشرة أسرة كردية وعشر أسر تركمانية تم تهجيرها من منطقة التوز كوبري إلى قضاء علي الغربي بمحافظة العمارة, وحين احتج بعض أفراد هذه الأسر المهجّرة قامت الأجهزة الحاكمة باعتقال عدد من أبناء هذه العوائل, وكذلك مصادرة أملاكهم, وبعد أن أصبحوا دون مأوى وهم مهجّرون في دولتهم, وقتها قرّر طلعت السفر أو الهجرة الحقيقية رغم شعوره وحنينه بأن روحه تتنفس من العراق, وبأن عينيه لا نور فيهما أو ضوء إذا غادرتا سماء العراق. وكيف يفكر عاشق أن يخون أو يغدر بمن يعشق, فإن خسر العراق, فخسارته لا يعوضها أي ربح مهما كبر وعلا, لكن لابد للمعشوق أن يعذر أو يبرر, فلا مفر من الهجران يا عراق, حينها لم يجد أي دولة عربية تسمح له بالسفر إليها إلا ليبيا. وهنا كتب لي مرة إن (تلك الأناشيد التي كنا ننشدها ونحن طلبة في المرحلة الابتدائية حين نحيي العلم وسماء الوطن بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد....): (وجدتُ أن كل تلك الكلمات مجرد كلمات فارغة فلا وطن للإنسان العربي سوى جسده الذي يحمله كمنزل مؤقت وحقيبة سفر, فحين نويت السفر لم أجد ولا دولة عربية تفتح لي بابها, وحين سافرت إلى ليبيا, كنا مثل الخنازير نقبع في زاوية السفن, هل تصدقين في مصر توسلت كي أخرج فقط وأشتري دفترًا صغيرًا وقلما كي أدون عليه بعض مشاعري وأحزاني, لكني مُنعت من أن أخرج, وتطأ قدماي أرض الكنانة. وحين وصلت إلى ليبيا 1996, كنت في فورة شبابي وقد أنهيت خدمة العلم والوطن وحصلت على شهادة في الهندسة المدنية, هل تصدقين, بحثت عن مهن لا يتقبلها عقل الإنسان العربي, عامان وأنا أبحث من محل إلى آخر ومن تاجر إلى آخر ومن شارع إلى آخر, أعيش على ما يمدني به العراقيون الكثر في ليبيا إلى أن استقرّ بي المطاف في بنغازي كمحاسب في محل تجاري, لكن وجدت نفسي منبوذًا, لأني العراقي الذي يخشونه في تعاملهم, بعد أن استقرّ بي الوضع وعملت قليلاً جمعت بعض الدولارات وأرسلتها للأهل الذين لا مأوى لهم, كي تساعدهم في تأمين سكن يليق بأسرتي التي تركتها خلف ظهري دون مأوى.

عامان وأنا أعمل حتى قارب عام 1999 على نهايته, داعبتني فكرة السفر مع رمضان البصراوي إلى الخارج فنذهب, هو إلى الأردن وأنا إلى تركيا, هل تصدقين أنني لم أنزل على أرض المطار التركي أعادوني مباشرة لأنّ الكمبيوتر التركي لم يستوعب عقله جواز سفر لإنسان عراقي فعدت أدراجي إلى ليبيا, أما رمضان فقد أمسكوه وأعادوه, حيث السلطات العراقية, وقد اتصل بي يبكي ويقول: تصوّر يا طلعت قبّلت أقدامهم كي لا يعيدوني إلى العراق حتى أشفق علي الضابط وأعادوني للأردن أرجوك ساعدني بمبلغ أستطيع العودة به إلى ليبيا, دائما نهاية مطافنا تكون ليبيا.

عاد رمضان إليّ وبقينا نعمل فترة وحلم السفر إلى أي دولة فيها بعض الأمان والاستقرار والكرامة وتحقيق الذات لما تزل تراودنا, حتى علمنا أن البعض يؤمن فيزا إلى رومانيا فدفعنا ما يترتب علينا كسلفة لثمن الفيزا, وانتظرنا يوما وشهرا ولا نتيجة حتى أخبرنا ذات يوم الشاب الذي سيؤمن لنا الفيزا أن شرطة المطار في بوخارست لا تستقبل أي جواز سفر عراقي, وأن النقود التي دُفعت كسلفة لثمن الفيزا ماتت علينا, وقتها علمنا أنه لا مفر لنا غير البقاء في ليبيا ولكن طيور الطيطوى التي آلفها حزن العراقيين لم توقف أجنحتها عن التصفيق وترديد كلمة (شيلوا....شيلوا) التي تتسلل إلى أرواحنا بين الحين والآخر كلما داهمنا الشوق إلى الأهل والعراق, وإلى الكرامة والحياة الحرة, قبل أيام اتصل بي أحد أصدقاء رمضان من السويد وهو شاب من مدينة بابل اسمه عماد كان يعاني مثلما نعاني في ليبيا, ولكن الحظ وقف إلى جانبه حين قرر التسلل من دولة إلى أخرى حتى استقر الآن في السويد وهو يعمل في مطعم, وأعلمنا عماد أن هناك شخصا يدبر هروبنا غير النظامي إلى السويد مرورًا بالأراضي الأردنية والتركية والبلغارية حتى إيطاليا ثم هولندا وأخيرا السويد, وسأعيد رسائلك التي لدي اعتبريها أمانة لديك, فور وصولي إلى السويد واستقراري سأرسل لك عنواني كي تعيدي إليّ الصور والرسائل).

وفعلا تسلمتُ بعد فترة طردا بريديا مسجلا, عدت وأنا أحتضنه, هذه الرسائل حصيلة خمس سنوات هي علاقة ورقية غرائبية ما بين طلعت وبيني, أما كيف تعرفت إلى طلعت فهذه لها قصة أخرى.

كنت أتصفّح مجلة الجيل علما أنني أقرأها باستمرار, لكن هذه هي المرة الوحيدة التي أفتح على باب التعارف, وفي باب المراسلات تبحث عيني كعادتها دائما عن جنسية صاحب العنوان, فإذا كان عراقيًا قرأت الاسم والعنوان كاملا, وحين قرأت اسم طلعت حسين نظرت إلى جنسيته كان عراقيًا, فأرسلت له رسالة قصيرة جدا فيها عنواني ورغبتي بمراسلته إذا كان لا يمانع, ووصلني الردّ من طلعت بأنه لم يرسل لأي مجلة عنوانه للتعارف, ومع ذلك فهي مؤكد مجرد دعابة من صديق له, وهو يرحب بصداقتي ولا يمانع في استمرار الرسائل. هكذا كانت البداية ولم أتوقع أن الصدفة والدعابة ستجمعاني بهذا الرجل, لأعوام على الورق, لأصرح له وأعترف بكل الجرأة والإفصاح عن مشاعري تجاهه وأني أحبه, نعم أحبه حقيقة ولست أزعم وأشعر به رجلا كاملاً في حياتي وأيامي ولم تشعر روحي في أي وقت ما أنه رجل من ورق. لكن لا أعرف ماذا أسمي هذا الحب المهم أنني أحبه وأحب ارتباطي معه, فهو حب يريحني كثيرًا حيث أشعر أنني ملتزمة مع شخص ولست حرة, أو عاشقة قيد الطلب لأحد, رغم أن علاقتنا فيها الكثير من الغرائبية, في بدئها وتوطدها واستمرارها, حتى في رفض طلعت حبي له, أو مصارحتي بحبه, وهو الذي رفض أن أمثل له الحبيبة فقط, لأنه يكره التصنيف بل يريدني الأم والأخت والابنة, يريدني حواءات كثيرات في حواء هي أنا, طلعت كان يصغرني بأعوام كثيرة لكني كنت أجده الأدرك والأوعى مني كثيرًا لبعض الأمور, أو إدراكه أعمق من إدراكي لقد اختلق يوما أسماه عيدنا (عيد تعارفنا) فهو كان الأدق في استخدام المفردة, وأنا كنت ألمس في كتاباته ورسائله التي بلغت 245 صفحة خلال تلك الأعوام الأربعة, وما يقارب الـ 8 مكالمات هاتفية إحداها بدأت في الثانية عشرة والنصف ليلا, واستمرت حتى الرابعة صباحا, يومها كان يسهر ليدقق حسابات الشركة, وفجأة لمع في ذهنه أن يحاول الاتصال بي.

ولأول مرة ومن أول مرة استجابت الخطوط الهاتفية, كانت تلك هي المكالمة الثانية, أحسست أنه يريد قول: أحبك ولا يريد, ودائما تلك الكلمة تصل إلى أذني دون أن ينطقها بأحرفها الواضحة, كنت أشعر من خلال كلماته التي كان يقولها بين الحين والآخر, طبعا هنا أنا أعترف أنه من الأشخاص الذين يحترمون ويقدرون أنفسهم ومواقفهم, فقد كان بإمكانه أن يقنعني بحبه ويشعرني أنه يموت حبا فيّ, ولكن إلى متى سيبقى مجرد كلام, ولماذا وهو غيرالمستقر في أي أرض ولا يعرف لحياته أي جهة, فمرة كتب لي أن فتاة فلسطينية التقاها في بنغازي وتكررت اللقاءات معها وحين شعر بتعلقها به, شرح لها حياته وصعوبة استمرار العلاقة بينهما فهما المعذبان الباحثان عن أرض يسميانها وطنا ما, أي أرض ثم إنه لا يعلم ماذا يستجد من أمور معه ولا يريد أن يعذبها. طبعا هذه كانت إشارة واضحة يتقصد إرسالها إليّ, وقد وصلتني كاملة, ومرة أخرى كتب لي أن صديقه سفيان من الموصل قارب عمره الأربعين وأن أمه تتمنى زواجه وهو فعلا يحب فتاة مغربية تعرّف إليها مثلنا عن طريق المراسلة, وهل تصدقين أن الفتاة عرضت عليه أن تأتي وعلى نفقتها إلى ليبيا كي يعقدا قرانهما? لكنّه رفض, ليس كرها بها بل رأفة بوضعها قد يكون الآن في ليبيا وغدا ربما في كردستان أو تُعلق قامته على عمود مشنقة في الرميثة هكذا هم مناضلو العرب والعراق تهون أرواحهم عليهم, لكن يعذبهم أن يرخصوا أرواح الآخرين, كنت أستشف من كلمات وأمثلة طلعت عن الآخرين أنها عنه وعني.

لكن لا يريد أن يؤلمني أكثر لأنه يحبني وإذا كان هو قد أحبّني ذات مرّة فأنا أحببته عمرًا, فحين تتأخر رسائله عن موعدها أبدو كعود ياسمين فقد استقامته وجرد من زهور ثيابه وبياضها, وكنت أضيع في برار من الخوف والأسئلة والأماني, أشعر أن وجه مدينتي دامع وحزين مثلي, وحين كان يلم بي الشوق كرياح تعصف وتبعثر ذاكرتي, وأشواقي نحوه أقطف وردة من حديقتي وأكتب تاريخ تلك العاصفة عليها وأخبئها ليفاجئني برسالته التي مضى عليها في طريقها إليّ عدة أيام قد أرّخت باليوم نفسه الذي بعثرتني فيه العاصفة, كانت علاقة غرائبية بكل ما تعنيه الكلمة, حين رحل عنه صديقه عبدالرحمن الكردي, كتب إليّ, رغم أني كنت أيامها زعلانة منه ولا أرد على رسائله والسبب كان تأخره وانشغاله لعدة أيام عن الرّد على رسائلي, كتب لي أنه حزين جدا ومشتاق إليّ جدا وأنه يتمنى لو يموت الشرطي العربي, حارس الحواجز ويتمنى لو يستطيع أن يختصر الزمن والمسافة ويلغي كلمة الحدود بين الدول جميعها ويأتي فقط ليراني.

الآن وأنا أكتب هذه الكلمات علمت لماذا رفض أن يكتب لي, إنه يحبني, رغم أنه كان يقول إنه مشتاق إليّ ومحبوبته أنا وأعزّ ما يملك, ودائما يبدأ رسالته الحمد لله الذي وهبني إياك أنت من دون النساء. أدركت الآن لماذا كان يحيد بكتابته عن التطرق لمواضيع القلب والشّوق واللهفة, كان يوجزها بتوقيع صغير في نهاية الرسالة يضم اسمه واسمي أو بين الحين والآخر يتقصد أن يكتب كلمة يكون لوقعها رنين يداعب الروح ويغلّفها ضد صدأ الجفاء والنسيان ويعلقها على عمود الانتظار, كم كنت نبيلا وطاهرا ومقدسا وشفافا يا طلعت, سالت من عيني دمعة سقطت على كتفي بعد أن انحدرت عن عظمة وجنتي لحزني العميق أنني لم ألتقك, فكم كان الزمن قاسيا وبخيلا علينا, الساعة الآن الخامسة والربع صباحا, وصوت طلقة رصاص قوية جاءتني لم أعرف من أين مصدرها, تابعت كتابة كلماتي لكن الطلقة الثانية كانت الأقوى ليس حلم يقظة ولا خيالا إنه صوت إطلاق الرصاص في شارعنا, تركت الورقة ونهضت أفتح النافذة وإذ بعدة رءوس مثل رأسي قد أطلت من النوافذ والشرفات المطلة على باحة المقصف التي تقابل منزلنا, خرجت إلى الشرفة لأستطلع الخبر مثلهم, لكن مع الطلقة الثالثة وصل لي ولسكان الحي ممنْ أفزعهم صوتْ الرصاص, عواء كلب يحتضر. الطلقة الثالثة كانت هي الأعلى والأقوى بل والأقرب لروحه فقد عوى الكلب عدة مرات, عواءَ حزينٍ مفارق ومغدور ثم مات. بعدها ركب الرجل سيارته وخرج من باب المقصف إلى منزله لينام أو يشرب القهوة الصباحية وكأن يده ما امتدت إلى زناد المسدس وأزهقت روحا. وعدت أنا إلى أوراقي, وصوت تلك الروح التي تئن وهي تخرج متألمة قادني إلى تساؤلات عدة.

كيف خرجت روحك يا طلعت? وبأي رصاصة, الخامسة أم التاسعة أتت وارتمت طائعة, وكيف تحملتها, فأنا حين عادتْ روحي إليّ, وخزت أنيت بوجع وتألمت يا ترى بأي طلقة خرجتْ الروح? بروحك أستحضر الآن تلك المناظر التي كانت تبثها قناة تجريبية للمعارضة عن إعدام الأكراد وكيف كان يربط الرجال إلى أعمدة خشبية وتشد أقمشة على عيونهم وكيف يبدأ رمي الرصاص عليهم ثم يتم دوران الرجال حولهم ورميهم بالرصاص ثانية, وكأنهم يوزعون عليهم حبات السكر طلقة طلقة على الماشي ثم يأتي الآخر ليرمي طلقة على الرأس وهكذا إلى أن تخرّ تلك الأجساد على الأرض, وحين يلمسون يد أحدهم ولا يزال نبضه مستمرا يأتي آخر ويسدد طلقة لا تبعد سوى القليل القليل, عن جثته المرمية على الأرض لتكون تلك هي الطلقة المميتة. أي اللعنات تلبستهم, وأي الخطايا لاحقتهم منذ يوم بلبلتهم, وأي حزن عشش في سواد ملابسكم منذ يوم (كربلاء), وأي أرض تطاردونها الآن.

مضى على غياب طلعت أشهر بعد ذلك التاريخ, لم أعد أرغب بتصفح جريدة معارضة, أو حتى أي قناة تبث أغنية عراقية, شعرت بأن الحزن والألم اللذين تركهما طلعت بغيابه الذي لم يعتذر عنه أو يبرره بغيابه الحاضر دوما معي وفيّ, هذا الوجع الذي أعيشه وأنا أستحضر صوته, عذاباته, أحكامه ومواقفه, يئن القلب ألما ودمعا لكن مهما تألمت وتعذبت بدخول روحي إليّ وعودتها, فليس أصعب, مؤكدا, من ألم طلعت والآخرين في خروج أرواحهم, من أبدانهم, ومن عيونهم وأفواههم, تلك الروح الحزينة.

أعدت فتح الظّرف الكبير الذي ضمّ رسائلي المعادة ورسائله والصور التي تبادلناها والأشرطة.

قرأت أحبّ رسالة منه لنفسي, تجاوزت سبعا وعشرين صفحة وكذلك صورة له قرب بحيرة ناصر في ليبيا حين جاء للبحيرة كي يرمي البخور الذي أرسلته له كي يحرقه علّ أعواده تطرد لعناتي منه, لكنه اجاب بأنه رماه في البحيرة, ولم ولن يحرقه وستبقى لعناتي تطارده, بل تلبسه كروحه وسيبقى الشرطيّ العربي يطارد عصفور القلب الذي لن يتوقف عن التغريد والحب, وأكمل رسالته بأنه يتمنى لو تسلم الحكم في بغداد وأنه سيفعل كذا وكذا و.. و... ويومها رددت عليه مازحة: يبدو أن الله يعرف نواياك لذلك أقصاك بعيدا عن العراق.. كم كانت علاقة شفافة نقية طاهرة صادقة.

كانت أكبر أمنياتنا أن نتصافح ثم تصغر الأمنية كي نجتمع في بلدة ثم منزل, أو في غرفة أو على سرير, لكن دائما كانت كلّ البلدان تنفينا عنها, وكذلك الجدران والغرف والأسرة, فلا يبقى لنا إلا الورق يجمعنا, هذا الورق الذي كان حصيلة خمسة أعوام من الحبّ والحوارات, والانتظار, والقلق, واللوعة, كأنه كان يعلم بنهاية حياته وآخر المطاف, لذلك أعاد لي كلّ أوراقي والصور التي بحوزته لتبقى أمانة لديّ. كم كان نبيلا وأخلاقه أنبل, حيث إنه لم يرض أن ينطق بصدق كلمة أحبك, كي لا ألتزم بها معه مثله مثل بعض العراقيين الذين لم تلوثهم لا الأسلحة الكيماوية ولا الدولارات ولا الغربة وإغواؤها وعذابها. هؤلاء الذين حافظوا على طُهرهم ونقائهم وبقوا صامدين كماء دجلة والفرات ونخلات الجنوب في البصرة.

 

سحر سليمان