فتح أمريكا.. من يتجاهل التاريخ .. يجازف بتكراره محمد الرميحي

حديث الشهر

متى بدأ التاريخ الحديث للعالم؟
سؤال مفتوح ومتعدد الإجابات، ولكن إجابة واحدة يبدو أن العلماء شبه مجمعين عليها وهي تاريخ "اكتشاف أمريكا" ، و"اكتشاف" مصطلح له جانب واحد فقط وهو ذلك الجانب من منظور من لا يعلم، أما أمريكا نفسها كقارة وأرض فقد كانت هناك منذ زمن طويل، وتم اكتشافها من الغربيين بعد تراكم العديد من المعلومات من بينها معلومات جاءت من الحضارة العربية.

"تزفيتان تودوروف" كاتب ولد في بلغاريا وأقام في فرنسا وكتب كتابه "فتح أمريكا.. مسألة الآخر" بالفرنسية وترجم إلى عدة لغات من بينها العربية وقام بترجمته الأستاذ بشير السباعي.

شدني هذا الكتاب من عدة أوجه فهو معني بنظرة الإنسان إلى الآخر، نظرة الغربي إلى الهنود الحمر، وهو مصطلح بحد ذاته فيه الكثير من التعصب والتشبث بالرأي أكثر من كونه حقيقة علمية، وشدني الكتاب لما فيه من إشارات واضحة لمساهمة الحضارة العربية/ الإسلامية في التمهيد لاكتشاف أمريكا.

بعد خمسة قرون مضت على الرحلة الاستكشافية التي قام بها كرستوفر كولومبوس، وهي القرون الخمسة نفسها التي مضت على خروج المسلمين العرب من الأندلس، وهي القرون نفسها التي تمحور حولها التاريخ الحديث للعالم.

اكتشاف أمريكا أو القارتين الجديدتين أكمل تصورنا للعالم، فلم يعد بعد ذلك التاريخ مكان مجهول فيما مضى لم يعرفه الإنسان أو يكتب عنه، ثم سارت مرحلة الكشوفات في القارات القديمة والقارات الجديدة جنبا إلى جنب، وبعد ذلك بدأت الاكتشافات في العلم والتقنية وتكاملت حضارة نسميها اليوم حضارة العلم، إلا أن الإنسان والمكان ظلا يحملان تمحورا في ثقافات بالكاد تنفتح على الأخرى، بل تنظر إلى الثقافة الأخرى والمكان الآخر نظرة عدائية، كل ثقافة في إطار التبشير بالرفيع والسامي والتمدين ظلت تستخدم الغزو والإبادة والقمع، ازدواجية المعايير هي الميزان السائد في الحضارة الجديدة.

ويبدو أن هذه الازدواجية وما أنتجته من قبح تعودت عليه الجماهير ولمعته وسائل الإعلام هو ما تنطوي عليه اليوم شدة التنافس الدولي.

هل هي مصادفة بحتة أن يتم التحفيز لاكتشاف كل العالم في الوقت الذي تجرد فيه الحضارة العربية/ الإسلامية في الأندلس من آخر مواقعها ويطارد أو يطرد أولئك البشر الذين كان لنتاج بعضهم العلمي (كما يؤكد هذا الكتاب) مساهمة جليلة في ذلك الاكتشاف؟!.

وعندما يتعرض الكاتب إلى لغز أن يهزم نفر قليل من المكتشفين ملايين من البشر الآخرين، فإنه يعرض لقضية جديرة بالاهتمام والتأمل، وهي أن هزيمة السكان الأصليين لا تعود إلى تخلفهم، كما نستخدم المفهوم في التعبيرات السيارة اليوم، فلم يكن المكتشفون أكثر تقدما منهم في العناصر المادية، ولكن هزيمتهم في عدم قدرتهم على الربط بين مكونات قوتهم، فلم يكن لهم القدرة على الربط والتعبئة بين مكونات قوتهم والقدرة على التعبئة، فلم تكن المفاضلة إذن في التقدم والتخلف بقدر ما كانت المفاضلة في التنظيم والاستنفار والاستعداد وبين التشرذم والفرقة.

من سرق القمر

يعتقد الكاتب أن فتح أمريكا هو الذي دشن وأسس في واقع الأمر هويتنا الحاضرة، ولا يوجد تاريخ أنسب لتمييز بداية العصر الحديث من عام 1492، منذ ذلك التاريخ انكمش العالم وأصبح المجهول معروفا وبدأ يزداد في الانكماش حتى أصبح اليوم قرية صغيرة، وإذا كان تاريخ العالم يتألف من فتوحات وهزائم، فإن اكتشاف الإنسان للكلية التي يتشكل منها العالم كان تمهيداً لصرف نظره إلى آمال وطموحات أخرى.

ولكن ترى ما هي دوافع كرستوفر كولومبوس الحقيقية لهذه المغامرة؟ يجيب الكاتب أن الدوافع الحقيقية هي الحصول على الذهب وليس من أجل الحصول على الذهب بحد ذاته، بل ليمكن ملك إسبانيا وقتها من تجهيز حملة عظيمة لتحرير بيت المقدس.

وهل من الضروري أن نربط نحن الآن بين طرد العرب/ المسلمين من الأندلس وبين هدف تحرير بيت المقدس إلا أنه متابعة حثيثة لفكرة دائمة؟.

ويشير الكاتب إلى آمال وجود الذهب في الأرض الجديدة وبأنها آمال تظهر في يوميات كرستوفر كولومبوس وكبار مرافقيه، فلا توجد صفحة من تلك اليوميات إلا وفيها آمال الحصول على الذهب وأيضا آمال تجهيز تلك الحملة الكبرى للسير تجاه الشرق إلى بيت المقدس، يلاحظ الكاتب أن هاجس انتصار المسيحية العالمي هاجس تملك ذاك المكتشف، فكل الجهود المبذولة هي وسيلة لغاية كبرى.

ولقد استفاد كولمبس في رحلاته الاستكشافية من بعض معلومات الفلك التي استقاها من العلماء المسلمين، فقد كان هناك اعتقاد سائد في عصره أن الأرض كروية، وإن لم يكن من دليل يؤكد ذلك. وقد استند كولمبس إلى رأي الفرغاني الفلكي العربي الذي ألف كتاب "المدخل إلى علم الأفلاك" والذي كان قد ترجم إلى اللاتينية قبل ظهور كولمبس وتفكيره في رحلته بحوالي 300 عام. وكان يشير في كتابه بشكل صحيح إلى حد ما إلى طول محيط دائرة الأرض. وعندما ترجم كولمبس طول الأميال العربية التي وضعها الفرغاني إلى الأميال الإيطالية، وجد أن في استطاعته القيام بهذه الرحلة المغامرة.

ويبدو أن استفادة كولمبس من علم الفلك العمربي لم تتوقف عند هذا الحد، فقد حوصر مرة من قبل الهنود الحمر لمدة سبعة شهور، وكان الحصار يشتد عليه حتى استخدم حيلة يعرفها هو وغيره من البحارة وغير معروفة لدى أعدائه، فقد زعم لهم - عندما عرف بقرب وقوع خسوف القمر- أنه سوف يسرق القمر إذا لم يفكوا الحصار، وفي الموعد المحدد بدأ القمر يتلاشى فخاف الهنود الحمر من تلك الظاهرة وسمحوا له ومن معه بالخروج إلى البحر والمغادرة.

معلومات كولمبس في أمور أخرى لم تكن كاملة، بل مستقاة من بعض الخرافات السائدة، فقد زعم أن هناك بشراً في الأرض الجديدة لهم ذيول وآخرين هم رءوس كلاب، كما أن الأشياء الثمينة تأتي من المناطق الحارة والتي يسكنها السود والببغاوات.

الدين مقابل الذهب

لقد اكتشف كولمبس الأرض الجديدة، ولكنه لم يكتشف البشر الذين كانوا يقيمون عليها، رأى المكان الذي سماه أمريكا ولم ير "الأمريكيين" سكان تلك الأرض. وفي يوميات رحلته لا يتحدث عنهم إلا باعتبارهم جزءاً من المنظر الطبيعي في هذه الأرض الجديدة، يحتلون مكانا متساويا بين الطيور والأشجار وبقية الحيوانات.

إن أول ما يصدم كولمبس في منظر هؤلاء الناس أنهم عرايا، وغياب الملابس يعني في نظره غياب الحضارة. ويدهش عندما يراهم أقرب إلى البشر منهم إلى الحيوانات، فهم بدون عادات وطقوس ودين، كأن العري الجسدي قد قاده إلى فكرة العري الديني، وبالتالي فهو لا يهتم لا بفهم لغاتهم أو إشاراتهم، ولا يعير أي التفات لمصنوعاتهم أو أبنيتهم. إنه يهتم فقط بالأرض التي يقيمون عليها والذهب الذي يملكونه.

ويمكن أن يطلق على اكتشافه أنه فعل متواصل لإطلاق الأسماء، منذ أن هبط على اليابسة وهو يتجاهل الأسماء القديمة ويعطي كل المواقع أسماء أخرى مسيحية وإسبانية وأوربية. لقد آلى على نفسه أن يضم كل جزيرة يجدها إلى التاج الإسباني. وهكذا كان يعلن في كل بقعة، دون مبالاة "بالهنود" الذين يقفون مذهولين يراقبونه هو وأتباعه، بل كان يرى أن هؤلاء البشر لا مكان لهم ويجب ألا يكون.

وخلال الحملة الثانية يبدأ القساوسة المرافقون لكولمبس في تحويل "الهنود" المتوحشين إلى المسيحية، جمعوهم في كنيسة صغيرة وانهالوا عليهم بالمواعظ ثم أعطوهم الصور المسيحية المقدسة. ولكن ما أن ترك هؤلاء الكنيسة حتى رموا الصور على الأرض وغطوها بكومة من التراب وبالوا عليها. وعندما رأى "بارثولومي" شقيق كولمبس ذلك قرر معاقبتهم بأسلوب اعتبره حضاريا من وجهة نظره، فبوصفه مساعد الوالي وحاكم الجزر قام بمحاكمة هؤلاء الرجال الحقراء وبعد أن ثبتت عليهم الجريمة أمر بإحراقهم علنا.

وهكذا بدأت عملية المبادلة التي رأى كولمبس وقتها أنها عادلة جدا، الإسبان يقدمون الدين ويأخذون الذهب. وإذا لم يكن "الهنود" راغبين في التنازل عن ثرواتهم فيجب إخضاعهم وإرغامهم على ذلك حتى لا يوجد أي انقطاع بين ما هو إلهي وما هو بشري. وعندما لا يجد كولمبس كميات كافية من الذهب في بداية أيام الاكتشاف يعرض على ملك إسبانيا أن يرسل له عبيدا من الهنود المتوحشين الأقوياء ولكن ملك إسبانيا يرفض فهو يريد رعايا يدفعون ضرائب أفضل من عبيد يملكهم طرف ثان.

ولكن هذا الرفض لم يمنع قيام تجارة العبيد، فقد حملت إحدى السفن شحنة من "الهنود" بينها نساء وأطفال يبلغ عددها خمسمائة وخمسين، وما أن وصلت السفينة إلى الشاطئ الإسباني حتى كان قد مات عليها مائتان من العبيد وهبط الباقون مرضى وعلى وشك الموت.

المرأة.. اغتصاب مزدوج

كان كولمبس يوزع شيئين على بحارته، الجزر والنساء. وكان هذا هو انتهاكهم الثاني أمام عذرية هذا العالم الجديد، كان هناك تعطش عند الإسبان إلى الممتلكات الدنيوية، لقد كانوا ينتمون إلى عصر وسيط يهيمن عليه الدين، وعصر حديث يضع الخبرات المادية على رأس سلم قيمه، لذا فقد أعطوا اهتماما كبيراً للذهب، وبعد ذلك فوراً النساء.

كان الأوربي يجد الهنديات جميلات، إلا أنه لم يخطر بباله أن يطلب موافقتهن على إشباع رغبته. وكان انتصاره عليهن رغم الرفض هو صورة أخرى من انتصاره على الأرض، وبذلك أصبحت المرأة موضوعا لاغتصاب مزدوج.

لقد تقاسم القادة الجدد نساء الأرض الجديدة، اقترن الجنس عندهم دائما بالعنف، ومارسوا معهم كل عقد الاغتصاب والسادية كأنما ينفثون في أجسادهن الواهنة كل إحباطات العالم القديم.

لقد سيق آلاف "الهنود" للعمل في المناجم ساعات طويلة، وقد اعتاد ملاحظو عمال المناجم من الإسبان على مضاجعة الهنديات اللاتي يتبعنه إن رقن له سواء كن متزوجات أم عذارى، بينما كان ملاحظ العمال يمكث في "الخص" مع الهندية كان يرسل الزوج لاستخراج الذهب من المناجم وعندما يعود المسكين لم يكن في مقدور الملاحظ ضربه أو جلده لأنه لم يحضر له الكثير من الذهب، بل كان أيضا يقيده من رجليه ويديه ويلقيه تحت السرير كالكلب قبل أن يرقد فوقه تماما مع زوجته.

الأغراب جاءوا من السماء

لكن يبقى السؤال حائرًا، لماذا انهزم "الهنود" هذه الهزيمة المروعة؟ لقد كانوا أكثر عددًا بآلاف الأضعاف عن الغزاة، ولم تكن بنادق الإسبان ومدافعهم بالتطور الكبير الذي يفوق سهام الهنود ورماحهم. وحتى الحيوانات الغربية (الخيول) التي كانوا يركبونها لم تكن كافية لتحقيق هذا النصر الساحق الذي ظفر به الإسبان في هذه القارة الهائلة شمالا وجنوبا.

إن غزو المكسيك يقدم بعضا من الإجابة عن هذا السؤال، ذلك الصراع بين كورتيس القائد الإسباني على رأس بضع مئات من رجاله في مواجهة موكتيزوما ملك الأزتيك الذي كان يقود مئات الآلاف من المحاربين.

لقد كان هناك شيء في صلب ميثولوجيا الأزتيك ينبههم بقدوم هذه القوة الغامضة من وراء البحار، هذا الآخر الذي يحمل لونا مختلفا وأسلحة فتاكة وحيوانات غريبة، كان موكتيزوما يعتقد أن الالهة التي غضبت منه ومن قومه وعبرت المحيط قد عادت تطالب بثأرها، وأن نهاية المعركة محتوفة لصالحهم.

كانوا يعتقدون أن البحر هو نهاية العالم، لذا فقد صاح أحد كهنة الهنود في عجز "إنهم آلهة. من أين يمكن أن يجيئوا إن لم يكن من السماء. لماذا يجيء الأغراب دون سبب. لقد أرسلهم إله وهذا هو السبب أنهم يجيئون.."

كيف يمكن لبشر عزل مثلهم أن يحاربوا الآلهة الذين يقتلون الناس بفرقعة عالية دون سهم أو رمح. كان موكتيزوما يدرك أن معركته خاسرة منذ البداية. ومع كل خطوة يخطوها كورتيس نحو مدينة مكسيكو كان يدرك أن مصيره يتحدد، ورغم الانتصار الذي حققه في أول الأمر إلا أن طبيعته الكئيبة وإحساسه بنذر النهاية جعلته يسلم نفسه لأعدائه وأن يدعو كل المحاربين لإلقاء أسلحتهم لأنه لا جدوى من مقاومة الأقدار.

لقد رصد الباحثون والمتخصصون في حضارة أمريكا قبل كولمبس أكثر من 15 أسطورة كانت تتنبأ بقدوم الرجل الأبيض، بل وتحيطهم بكل مظاهر التبجيل الواجبة. وعندما وضع الهنود ذهبهم وتماثيل آلهتهم تحت أقدام الغزاة كانوا يطيعون عالما من الميثولوجيا الراسخ في أعماقهم منذ آلاف السنين من أن هؤلاء كانوا من نسل الآلهة، ولكن الآلهة كانوا أكثر جشعا مما توقعوا وكانوا يريدون تماثيل الآلهة الذهبية حتى يصهروها ويصنعوا من ذهبها نعالا لجيادهم.

البلايا العشر

ولا أحد يفهم سر هذه المذابح الرهيبة التي كان الإسبان يقومون بها، فقد كانوا في مواجهة حضارة تقدم القرابين، وإذا كان القتل الديني تضحية فإن تلك المذابح الجماعية التي قام بها الإسبان تدخل في صميم الإلحاد. لقد وصف العديد من الشهود واحدة من أشهر هذه المذابح التي وقعت في قرية كاونار في جزيرة كوبا، فقد هاجم الإسبان هذه القرية بعد أن شحذوا سيوفهم على أحجار النهر ليتأكدوا إن كانت السيوف قد شحذت جيداً أم لا. كان مشهدًا مرعبا فقد انهالوا مثل الجزارين يبترون أعضاء الضحايا ويقطعون أثداء النساء ومؤخرات الأطفال كأنهم قدر بالغ الوحشية.

ما سر هذه المذابح؟ إن الجشع والرغبة في الثراء ليست مبرراً لذلك، وعمليات التعذيب واغتصاب الزوجات لن تجعل العبيد يعملون جيدا، ولكن الأمر بدا كأن الإسبان يجدون لذة باطنية في الوحشية وفي قمع الآخر والتسلط عليه. لقد كانوا بعيدين عن العالم القديم، بعيدين عن السلطة المركزية والملك والكنيسة والرابطة الاجتماعية، لذلك فقد أصبح كل شيء مباحا على حد تعبير إحدى شخصيات ديستوفسكي في رواية "الإخوة كارامازوف".

كانوا لعنة حلت بهذه الأرض، لعنة أرخ لها القس "موتولينا" وهو أحد أعضاء أول فريق من الآباء الفرنسيسكان يهبط إلى المكسيك بعد استيلاء كورتيس عليها، لقد بدأ تاريخه عن هذه البلاد بذكر "البلايا العشر" التي أرسلها الرب عقابا لهذه الأرض، تماما مثل البلايا العشر التي ذكرتها التوراة وابتلي بها شعب مصر في الزمن الغابر.

كانت البلية الأولى هي الجدري الذي حمله الجنود الإسبان إلى قوم لم يجربوه من قبل، ولم يعرفوا علاجا له فذاقوا الموت الجماعي كحشرات البق، وكانت الثانية ذلك العدد الهائل الذي مات من جراء الفتح الإسباني خاصة حول مدينة مكسيكو. وتمثلت البلية الثالثة في المجاعة الكبيرة التي أعقبت انتصار كورتيس واستيلاءه على المدينة، فقد منع الإسبان الفلاحين من الزراعة وأتلفوا حقولهم حتى بدأوا هم أيضا يعانون من نقص الطعام. أما الرابعة فقد كانت هؤلاء الزنوج والعبيد الذين استخدمهم الإسبان كواسطة بينهم وبين الهنود فكانوا أشد قسوة واستغلالا لا يقنعون بشيء، وكانوا عفنين كاللحم البشري المتحلل. وتمثلت البلية الخامسة في الضرائب والإتاوات الضخمة التي كان "الهنود" يدفعونها. وعندما لم يعد لدى الهنود ذهب كانوا يبيعون أطفالهم، وعندما لم يعد لديهم أطفال لم يكونوا يملكون شيئا سوى حياتهم، وهكذا ماتوا تحت التعذيب وداخل أقبية السجون.

وكانت البلية السادسة في مناجم الذهب. وسوف يكون من المستحيل إحصاء عدد الهنود الذين ماتوا حتى الآن في هذه المناجم. وكانت البلية السابعة هي بناء مدينة مكسيكو العظيمة، فقد مات آلاف مسحوقين تحت الكمرات ومن فوق الأماكن المرتفعة. ولم يتوقف الأمر عند عمل الهنود مجانا بل كانوا يدفعون أيضا تكاليف البناء ولا يحصلون على غذاء، وبما أنهم لم يكن في وسعهم هدم الأبنية والمعابد القديمة وفلاحة الأرض في وقت واحد فقد كانوا يذهبون إلى العمل جوعى ويموتون جوعى.

وكانت البلية الثامنة هي العبيد الذين اقتيدوا للعمل في المناجم، كانوا يتكونون من كل من أظهر أمارات العصيان على الإسبان وكل من أمكن اصطيادهم، وكان كل سيد يمتلكهم يضع على وجوههم علاماته حتى امتلأت وجوههم بالسطور بعدد السادة الذين تداولوهم.

وتمثلت البلية التاسعة في خدمة المناجم، فقد كان "الهنود" المثقلون بالأحمال يقطعون ستين فرسخا وأكثر سيراً على الأقدام لنقل المؤن إليها، وأحيانا كانوا يحتجزون في المناجم لعدة أيام دون طعام أو ماء.

وجاءت البلية الأخيرة في الانقسامات والتكتلات التي كانت موجودة بين الإسبان في المكسيك وكانت الصراعات الدامية تشتعل بينهم فيقع عبء القصاص كله على الهنود.

الأسطورة السوداء

وإذا كانت البلايا العشر كما ذكرت في التوراة أحداثا فوق طبيعية أرسلها الرب عقابا لمصر، فإن البلايا العشر في أمريكا هي أحداث واقعية المسئول عنها هم البشر. ولا تشير أصابع الاتهام إلا لجهة واحدة هي الإسبان، حتى فيما يتعلق بالأوبئة التي حملوها إلى هذا العالم الجديد وكانت صدمة وبائية فتكت بملايين من الهنود.

قد يقال إنهم حملوا هذه الأوبئة إلى الهنود غير عامدين، لكنهم بصنوف الشقاء التي سببوها لسكان هذه البلاد مهدوا الطريق لتعمل هذه الميكروبات بأقصى قدراتها على الفتك، إضافة إلى أن أجساد هؤلاء الهنود لم تكن مؤهلة للتعامل مع هذه الميكروبات التي لم تتعرف على مثلها من قبل، أما طرق الوقاية والتي كان يعرف عنها الإسبان الكثير فإنها لم تجد سبيلا في مواجهة مجزرة الأوبئة التي تركها الإسبان تجتاح أهل الأرض التي فتحوها.

لقد ضربت الصدمة الميكروبية ضربتها حتى بلغ معدل التلاشي السكاني نسبة عشرة إلى واحد. وثمة حديث عن تقدير لعدد سكان الأمريكتين قبل الفتح يبلغ 80 مليونا، وبعد الفتح تضاءل هذا العدد إلى عشرة ملايين. إذن لقد انخفض عدد السكان سبعين مليونا، وألقيت مسئولية إبادة هذه الملايين على إسبانيا، إما بالقتل المباشر في الحروب، أو بسبب سوء المعاملة أو بالأوبئة التي يعزى لها فضل الإبادة الأكبر.

لقد رد بعض الكتاب على إيراد مثل هذه الأرقام من الضحايا بأنها مجرد "أسطورة سوداء"، لكن تودوروف يعقب على ذلك ساخرًا بمرارة وهو يقول إنه حتى مع غياب الأسطورة يظل السواد قائما. وهو سواد قاتم ومثير للاستغراب خاصة إذا ما نظرنا إلى الصور الأصلية التي أماط عنها هذا الكتاب اللثام لنكتشف أن الانطباعات التي ظلت سائدة لدينا عن سكان الأرض الجديدة الأصليين لم تكن غير الصور التي أراد لنا الغربي الفاتح أن نترسمها في أذهاننا.

مدن رائعة.. وبشر للإبادة

لم يكن هنود المكسيك متخلفين إلى هذه الدرجة المشاعة عنهم قبل الفتح، ففي مقتطفات عديدة كتبها الفاتحون أنفسهم يتجلى أنهم - أي "الهنود" - لم يكونوا أدنى من الفاتحين. ومثال ذلك ما كتبه كورتيس إلى الملك: "لقد ذكرت لجلالتكم في إحدى رسائلي أن أهالي هذا البلد أكثر ذكاء بكثير من أهالي الجزر، وأن فهمهم وحسن إدراكهم يبدوان لنا كافيين لأن يكون بوسعهم التصرف كمواطنين عاديين".

وفي موضع آخر يقول كورتيس: "في تصرفاتهم ومعاملاتهم يتميز الناس بنفس أساليب العيش السائدة في إسبانيا تقريبًا، ويتميزون بما يتميز به الإسبان من نظام وانسجام" ويستطرد كورتيس مبينا بعضا من عادات الأزتيك التي تشي برهافة تتخطى رهافة الإسبان عندما يصف الأطباق المسخنة في قصر نبيل أزتيكي: "بما أن الطقس بارد فإنهم يضعون كل طبق وكل إناء على موقد مزود بالجمر حتى لا يبرد شيء من جديد".

ومن البشر إلى إبداع البشر ينتقل الشاهد فيقول: "في العالم كله، لا يمكن نسج ملابس مماثلة ولا تلوينها بألوان طبيعية بهذه الدرجة من التعدد والاختلاف ولا زخرفتها بهذه الدرجة من الروعة" وليست الملابس وحدها، بل الأبنية أيضا: "إن المعابد مشيدة من حيث الخشب والبناء تشييدًا بالغ الروعة بحيث إنه لا يمكن أن يوجد ما هو أفضل منها في أي مكان. لقد كانت هذه المدينة "مكسيكو" أجمل شيء في العالم حتى قلنا فيما بيننا إن هذا يشبه البيوت المسحورة في رواية L'Amadis وذلك بسبب الأبراج العالية والمعابد وجميع أنواع البنايات المشيدة بالجبس والرمل، حتى في ماء البحيرة. وقد تساءل أشخاص من بيننا عما إذا كان كل ما نراه ليس أكثر من حلم".

بعد إيراد مثل هذه الصور الفاتنة عن البشر وطعامهم وبيوتهم ومدنهم الرائعة، لماذا كان التدمير؟ سؤال يردده أحد الفاتحين "يرنال دياث" بحزن مرير وهو يستعيد ذكرى مدينة مكسيكو: "حين رأيت هذا المشهد لم يكن بوسعي أن أصدق أنه يمكن اكتشاف بلد آخر في العالم شبيه بالبلد الذي دخلناه، أما اليوم فإن هذه المدينة كلها قد دمرت ولم يبق منها شيء على حاله".

افتتان يعقبه تدمير، فهل هناك حالة أوضح لنوع من الجنون التاريخي هذا شأنها؟ وهل هناك لغز أشد تعقيدا من ذلك؟ أسئلة عديدة تفضي إلى سؤال واحد كبير: أين يكمن الخلل؟

الإجابة نجدها في نموذج كورتيس نفسه الذي أبدى كل هذا الافتتان بمنتجات الأزتيك من أطباق وعمارة وملابس وغير ذلك، فهو وإن اعترف بتلك الإبداعات، لم يعترف بمبدعيها من البشر، ولم يتعامل معهم كذوات فردية إنسانية ينبغي توقيرها في ضوء الجمال الذي أبدعته، فعندما عاد كورتيس إلى إسبانيا بعد سنوات من الفتح أعد عينة من كل ما رآه مثيراً في البلد المفتوح: "جمع عددا كبيراً من الطيور المختلفة ونمرين وعينات عديدة من العنبر السائل والبلسم المجمد وأربعة هنود".

التصرف نفسه أبداه كولمبس الذي قام باصطياد بعض من الهنود من أجل استكمال مجموعته التذكارية، فإلى جانب النباتات والحيوانات كانت هناك ستة رءوس من الرجال وستة رءوس من النساء.

إذن، تم اختزال الآخر إلى مستوى الشيء. وهنا مكمن الخلل ومبعث كل الآثام التي ارتكبت في حق أصحاب الارض الجديدة القدامى، وسر الاستباحة والقهر اللذين بلغا حد اللامعقول.

القرابين البشرية لماذا؟

عند دنو أجله يكتب لاس كاساس في وصيته: " إنني أعتقد أنه بسبب هذه الفعال المارقة والمجرمة والشائنة التي اقترفت بشكل بالغ الحيف والاستبداد والبربرية، فإن الله سوف يصب على إسبانيا غضبه وحنقه، لأنها قد نالت نصيبها من الثروة الممتزجة بالدم والتي جرى اغتصابها عبر كل هذه الخرائب وكل هذه الإبادات.

كان لاس كاساس مختلفا عن كولمبس ومختلفا أيضا عن كورتيس، لقد رأى الأشياء التي لم يرياها، رأى البشر، الهنود المساكين في اللحظة الأخيرة قبل أن يبادوا وحاول عبثا أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، كان مختلفا لأنه أحب هؤلاء الناس وآمن بمزايا هذه الحضارة. لقد هاجر إلى المكسيك وامتلك الأرض والعبيد، وانتهى به الأمر إلى نوع من الزهد الفلسفي إزاء كل ما فعله قومه فحرر عبيده وهجر أرضه وعاد ليدافع عن هذه الحضارة التي شاهد آثارها في الأرض الجديدة.

كان المبرر الأوربي لعمليات الإبادة أنهم يحاربون وحوشا آدمية، يقدمون لآلهتهم قرابين من البشر ويأكلون لحم بعضهم البعض، وأخذ كاساس يناقش هذين الأمرين باتباع أسلوب من التفكير يقربهما من العقل الأوربي. إن فكرة تقديم القرابين البشرية ليست غائبة تماما عن الدين المسيحي، فالرب قد أمر إبراهيم أن يقدم ابنه إسحاق قربانا- حسب تعبير المؤلف-، وتتكرر فكرة القرابين كثيرًا في التوراة.

وبالأسلوب نفسه حاول كاساس أن يجعل قارئه متصالحا مع فكرة أكل لحوم البشر، وتحدث عن حالات كثيرة قام فيها الإسبان - تحت ضغط الضرورة - بأكل أكباد مواطنيهم في إحدى المرات وبأكل فخذ آخر في مرة أخرى.

وحتى ولو كان هذان الفعلان مدانين، فالأمر يستحق العلاج، ولا يستحق كل هذه الإبادة، ويحاول كاساس أن يقدم تعريفا جديدا للشعور الديني عند هذه القبائل، فكل إنسان فيها لديه معرفة حدسية بالرب، وهو يعبدهذا الرب بحسب طاقته باذلاً في ذلك كل ما في وسعه، ويتألف أعظم برهان يمكن للمرء أن يقدمه دليلا على حبه للرب هو أغلى ما لديه، الحياة البشرية ذاتها. وهكذا فإن تقديم القرابين موجود بقوة القانون الطبيعي. وفي هذا الأمر يمكن أن يكون الأزتيك أرقى من المسيحيين من حيث التدين وهم كذلك بالفعل، فإن الأمم التي قدمت قرابين بشرية قد دلت بذلك- رغم كونها وثنية ضالة - على فكرتها السامية للألوهية وإجلالها البالغ لها.

وربما كان رد فعل كاساس مبالغا فيه، ولكن من حسن حظه أن محاكم التفتيش قد تجاهلت هذه الكلمات ولم تتهمه بالهرطقة وتحرقه علنا كما فعلت مع العديدين، كما أن ملك إسبانيا قد تجاهل آراءه السياسية التي كان يدعو فيها التاج الإسباني للتخلي عن ممتلكاته وأن يعيد الأرض الجديدة لأهلها القدامى، وأن يسحب جيوشه ويرسل الإنجيل فقط بدلا منها.

لقد تم تجاهل كل هذه الآراء وتواصلت عمليات الإبادة التي لم تكن تستند إلى أي منطق أو عقيدة.

هذه القصة وألف قصة مشابهة

يقول "تودروف" في معرض حديثه عن أسباب تأليفه هذا الكتاب: "إنني أكتب هذا الكتاب سعيًا إلى التأكيد إلى حد ما ألا ننسى هذه القصة، وألف قصة أخرى مشابهة".

أما القصة فهي قصة الخطيئة في إهمال اكتشاف الآخر، والتي بلغت أوج تراجيديتها في أمثولة تاريخ اكتشاف وفتح أمريكا، وهي قصة تنبئنا بما يمكن أن يحدث إن لم ننجح في اكتشاف الآخر. كما أنها تنبئنا باكتشاف الحيوان في الإنسان، "ذلك العنصر الغامض في الروح الذي يبدو أنه لا يعترف بأي سلطة بشرية، لكنه على الرغم من براءة الفرد الذي يسكنه، يحلم أحلاما مرعبة ويدمدم بالأفكار الأكثر استحالة على البوح بها".

أما القصص الألف المشابهة، فهي هناك، لم تكف عن الحدوث منذ ذلك الزمن الدامي لعصر الكشوف الجغرافية، لكنها تتناسخ في أشكال لا حصر لها تجمعها روح واحدة سوداء، روح إلغاء الآخر لأجل شراهة الذات. هي هناك، في الأفراد والجماعات وفي الأمم، وحيث يكون الاستبداد والديكتاتورية والفاشية والظلامية والرؤية أحادية الجانب التي لا تحتمل وجود مركز آخر سواها تدور حوله الأفلاك.

"إن من يجهل التاريخ يجازف بتكراره".

مقولة أوردها الكاتب وهو يختتم سفره - الصدمة. ولا مزيد عليها في الختام.

 

محمد الرميحي