أين يكمن سحر الشعر?

أين يكمن سحر الشعر?

على أي لغة يعتمد الشعر... لغة بصرية حسية?... أم لغة عقلية تستخدم الفكر متكأ لانطلاق الخيال?

يرفض حسين المرصفي جميع التعريفات التي وضعها البلاغيون للشعر خصوصا تلك التي تحده بأنه كلام موزون مقفى, ويحتفي بتعريف ابن خلدون الذي يرى أن الصفة الأساسية للشعر تتحدد بأنه (الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف). ويتكرر هذا التعريف في أغلب الكتابات الإحيائية بشكل لافت. ولا يرجع سبب هذا التكرار إلى احترام الإحيائيين للقسم البلاغي من مقدمة ابن خلدون وتقديسهم له فحسب, بل يرجع كذلك إلى تسليمهم بأن الوزن والقافية لا يمثلان وحدهما الخاصية النوعية التي تمايز بين الشعر وغيره. ولذلك فقد انتهوا إلى أن الفارق بين الشعر والنثر أمران: أولهما معنوي يتمثل في كثرة التشابيه والمجاز والكناية, أو التخييل كما كانوا يقولون على سبيل الإيجاز. وثانيهما لفظي يتمثل في الوزن والقافية.

لكن عندما نقارن بين كتابات الإحيائيين الشوام أمثال جبر ضومط وقسطاكي الحمصي ومحمد روحي الخالدي والإحيائيين المصريين أمثال المرصفي والمويلحي نلاحظ إلحاح الشوام على فكرة التخييل بوصفه الخاصية النوعية التي تميز الشعر عن غيره. وأول ذلك ما أكده الحمصي الذي رأى (أن جمال التخييل أعظم أركان الشعر) معبرا عما ذهب إليه جبر ضومط الذي ذهب إلى أن الشعر من الطبقة العليا لا يصل إليه (إلا من رزقوا شيئا مذكورا من قوة التخيل وجودة الفهم) وهذا الإلحاح له ما يبرره, فقد كان النقاد الشوام على صلة أوثق بالموروث الفلسفي لمفهوم التخييل في المصادر العربية والأجنبية على السواء. فكان أولهم - أي جبر ضومط - على صلة وثيقة بالوجه الإنجليزي للكلاسيكية الأوربية, بينما كان الآخران وثيقي الصلة بالحركة نفسها في وجهها الفرنسي. وقد كانت المصادر الفلسفية العربية التي تدعم مفهوم الخيال متاحة لأسباب عدة, منها ما قام به الأب اليسوعي لويس شيخو (1859-1927) في كتابه (علم الأدب) سنة 1887م مع ملحق له - في جزأين - يضم مجموعة خصبة من المباحث القديمة في علم الشعر والخطابة لبلاغيي العرب وفلاسفتهم على السواء. وقد نقل شيخو في ملحقي علم الأدب مبحث (الخيال والخيالي) لحاجي خليفة, ومبحث (في التصور والتمثل) من كتاب (زجر النفس) المنسوب لهرمس, ومبحث (في الحافظة) للماوردي, فضلا عن نقوله المباشرة من ابن سينا (الشفاء - النجاة - الوسائل) وكتابات الفارابي, وتلخيص ابن رشد لكتاب الشعر الذي نشره المستشرق الإيطالي لازينو سنة 1873, وكتابات الغزالي. ونقل شيخو أيضا عن البلاغيين مثل ابن رشيق والآمدي وابن الأثير والجرجاني والعسكري والحلبي والحموي. كما نقل عن ابن خلدون... إلخ.

ولن نعجب - والأمر كذلك - من تعمق النقاد الشوام في مفهوم التخييل أكثر من إخوانهم المصريين, ومن وضوح الخلفية الفلسفية للمصطلح عندهم. ولذلك تمكنوا من ربط التخييل بنظرية المحاكاة الأرسطية التي فهموها فهما يتناسب وما تعلموه من الفارابي وابن سينا وابن رشد, فضلا عما تعلموه من رموز الكلاسيكية المحدثة أو الإحياء الكلاسيكي في أوربا من أمثال سكاليجر وبوالو وغيرهما. ومن اللافت للانتباه - في هذا السياق - أن الشيخ محمد عبده لم يقع على كتابي (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) لعبدالقاهر, ويبدأ تدريسهما في الأزهر إلا بعد عودته من منفاه بالشام, ثم نشره لهما بعد ذلك مع تأسيسه لجمعية إحياء الكتب العربية سنة 1900م. وقد قام الشيخ محمد عبده - قبل هذا التاريخ - بتدريس مقدمة ابن خلدون (التي طبعت ببولاق 1274هـ-1857) في دار العلوم.

ورغم الاستنتاجات التي قد يخرج بها المرء من هذه الحقيقة التاريخية فإن ثمة شيئا مؤكدا وهو أن تدريس عبدالقاهر في الأزهر أسهم في تعميق مفهوم التخييل في مصر وساعد على نشره بين مثقفي الإحياء المهتمين بالشعر. وقد حضر عديدون دروس الإمام البلاغية عن عبدالقاهر بالأزهر, ومنهم أحمد تيمور ومصطفى لطفي المنفلوطي وحافظ إبراهيم, وعبدالرحمن البرقوقي, وعلي الجارم, وعلي عبدالرازق. وقد دفعت هذه الدروس علي عبدالرازق - فيما بعد - إلى تأليف كتابه (أمالي في علم البيان) الذي يعتمد فيه أساسا على عبدالقاهر (طبع 1912). وقد أفاد حافظ إبراهيم من هذه الدروس إفادة واضحة تبدو في كثرة ما يروى له عن التخيل الشعري, بل إنه يستشهد بعبدالقاهر في كتابه (ليالي سطيح).

والذي لاشك فيه أن عبدالقاهر كان له تأثير بالغ العمق والدلالة في الشيخ محمد عبده (1849-1905) الذي كان معلما وموجها لكثير من شعراء الإحياء ومفكريه. ويمكن للمرء أن يكشف عن هذا التأثير عندما يتأمل مفهوم الشيخ محمد عبده للفن عموما, خصوصا حين يؤكد الإمام أن الفن (تحقيق للمعاني وتمثيل للصور الذهنية) كما نجده يطبق فكرة عبدالقاهر عن التخييل على الشعر فيقول: (ليس الشعر إلا ما مثّل الوجداني, وجسّم الروحاني, وجرّد الجسماني فظهر حتى أشرق, وبطن حتى أحرق). وقارن الإمام محمد عبده بين الشعر والرسم كما فعل عبدالقاهر, ويذهب إلى أن الرسم (ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع, والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يُرى). ويرجع السبب في ذلك إلى أنك (إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت, فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك, كما يتلذذ بالنظر فيها حسك, وإذا نزعت إلى تحقيق الاستعارة المصرّحة في قولك: رأيت أسدا - تريد رجلا شجاعا - فانظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الكبير تجد الأسد رجلا أو الرجل أسدا).

أسباب سحر الشعر

ويمكن أن نتتبع تأثير عبدالقاهر في بعض تلامذة محمد عبده الذين تأثروا بفكره العام, واتجاهه البلاغي الخاص, فنجد علي الجارم الذي درس بلاغة كتابي الأسرار والدلائل على يدي الإمام, يقول في مقدمة ديوانه إن سحر الشعر يعود إلى (النظم وإبداع التصوير). ويفسر ذلك بقوله (إن جمال الشعر في نظمه وجرسه ورنينه, وفي انتقاء الألفاظ وتجانسها, وفي ترتيب هذه الألفاظ ترتيبا يبرز المعنى في أروع صورة وأبدعها, وفي اختيار الأسلوب الذي يليق بالمعنى ويليق به... ثم في المعاني وابتكارها أو توليدها من القديم في صورة جديدة رائعة, ثم في الخيال وحسن تصويره والتزام الذوق العربي فيه).

ولكن أوضح مثال على استيعاب الإحيائيين المصريين لفكرة التخييل هو محمد الخضر حسين الذي كان أدق تلامذة الشيخ محمد عبده فهما لعبدالقاهر. إذ أصدر كتابه (الخيال في الشعر العربي) سنة 1922م, معتمدا على عبدالقاهر بوجه خاص, مستفيدا من مصادره الفلسفية وأهمها موسوعة (الشفاء) الفلسفية التي صاغ فيها ابن سينا الفيلسوف مذهبه الفلسفي ومعارفه الموسوعية. وعندما جمع محمد الخضر حسين بين كتابات عبدالقاهر ومصادره الفلسفية استطاع أن يقع على الجذر الأصلي لمفهوم (التخييل) ويفهم ما ألمح إليه المرصفي من قبله في أواخر القرن التاسع عشر من أن الوزن ليس هو مبدأ الشعر. ولذلك يقول الخضر حسين بعبارات صريحة (ذهب بعضهم في حد الشعر إلى أنه كلام موزون مقفى, وهذا مثل من يشرح لك الإنسان بأنه حيوان بادي البشرة منتصب القامة, فكل منهما قصر تعريفه على ما يدرك بالحاسة الظاهرة, ولم يتجاوزه إلى المعنى الذي تتقوم به الحقيقة ويكون مبدأ لكمالها, وهو التخييل في الشعر والنطق في الإنسان. فالروح التي يُعد بها الكلام المنظوم من قبيل الشعر إنما هي التشابيه والاستعارات والأمثال وغيرها من التصرفات التي يدخل لها الشعر من باب التخييل). وكلام الخضر حسين واضح في دلالته على أن الناقد الإحيائي توقف من جديد عند المفهوم القديم للتخييل, وحاول أن ينظر إلى شعر عصره والعصور السابقة عليه في ضوء المفهوم مسترشدا بالمحاولات العربية السابقة في كتب الفلاسفة والبلاغيين على السواء.

وكان من نتيجة ذلك دوران المفهوم في دائرتين. قد يعي بعض الإحيائيين واحدة منهما دون غيرها فيلحّ عليها, بينما قد يعيهما معا البعض الآخر. هاتان الدائرتان هما: دائرة فنية بيانية, ودائرة منطقية كلامية. وقد أكدت الدائرة الأولى الطبيعة الحسية للتصوير الشعري, وأدت إلى افتراض أن لغة الشعر لغة بصرية تعتمد على تقديم صور المحسوسات تقديما حرفيا. بينما أكدت الثانية الطبيعة العقلانية للبناء الشعري بوجه عام, والتصوير الشعري بوجه خاص, الأمر الذي أدى إلى الإلحاح على الجهد الذهني والسعي وراء الابتكار والتوليد والإكثار من الصياغات الاستدلالية في القصيدة. وقد لزم عن الدائرة الثانية النظر إلى التخييل الشعري على أنه نوع من القياس الخادع الذي يراد به التلاعب بذهن السامع لإقناعه بمعنى من المعاني. وفي هذه الحال لا يعتمد التخييل على صدق قضاياه أو كذبها, إذ إنها قد تكون كاذبة أساسا, بل يعتمد على إثارة انفعال القارئ ودفعه إلى الاقتناع بصواب ما يقوله الشاعر. وذلك فهم دفع أمثال حسين المرصفي إلى الإفادة من الموازنة القديمة بين التخييل والتصديق, تلك الموازنة التي تبلورت أثناء تحديد فلاسفة الإسلام للأنواع الخمسة التي تتكون منها مادة القياس في المنطق. وهي الأنواع التي حدّها الفيلسوف الفارابي في كتابه (إحصاء العلوم) بقوله: (أنواع الصنائع التي فعلها... أن تستعمل القياس في المخاطبة في الجملة خمسة: برهانية, وجدلية, وسفسطائية, وخطبية, وشعرية) ومن ثم تصبح (أصناف القياسات في الجملة خمسة: يقينية, وظنية, ومغلطة, ومقنعة, ومخيلة), ولذلك يذهب المرصفي - في كتابه الشهير (الوسيلة الأدبية) - إلى أن الشعر نوع من القياس, (يؤلف في مقدمات تخييلية تؤثر في الأنفس بسطا أو قبضا).

البلاغة... ملكة البيان

وعندما ننظر إلى الكتابات البلاغية القليلة التي تركها الشيخ محمد عبده نجد الأساس المنطقي الذي ينظر المرصفي - من خلاله - إلى الشعر هو الأساس نفسه الذي يصدر عنه الإمام في تعريفه للبلاغة, خصوصا عندما يقول: (ليست البلاغة في الحقيقة إلا ملكة البيان, وقوة النفس على حسن التعبير عما تريد من المعنى لتبلغ من مخاطبها ما تريد من أثر في وجدانه, يميل به إلى الرغبة فيما رغب عنه, أو النفرة مما كان يميل إليه, أو تمكين ميل إلى المرغوب, أو تقرير نفرة من مكروه, أو تحويل في اعتقاد أو تغيير لعادة أو ما يشبه ذلك مما يقصد بالخطاب). وينطلق تلميذه الخضر حسين من المنظور نفسه, ولكن مع الإلحاح على كذب المقدمات التخييلية, فيرى أن الشعر يمتاز بأحد أنواع التخييل, (هو ما لا يتوخى به صاحبه وجه الحقيقة, وإنما يقصد به اختلاب العقول ومخادعة النفوس إلى التشبث بغير حق). ويعني ذلك أن التخييلي مقابل للحقيقي وأنه ما يرده العقل ويقضي بعدم انطباقه على الواقع, إما على البديهة أو بعد نظر).

وعلى هذا الأساس نظر نقاد عصر الإحياء وأدباؤه إلى (الخيال) و(التخييل) على أنهما قريبان في الدلالة من الكذب والوهم والظن, فوصف المنفلوطي - مثلا - أحمد لطفي السيد بأنه (من أقدر الكتاب على الحجة التي لا يشوبها كذب ولا تخييل). ونظر غير المنفلوطي إلى إجادة الشاعر على أنها (لا تكون إلا بتصوير الشاعر صورا من غاية خياله كلها كذب ومين). ولما كانت (أبدع صورة يقيمها الشاعر من غاية خياله هي كذب ومين, أو تمثال من الوهم لا حقيقة له, فقد أجازت قوانين الشعر للشاعر أن يدّعي بما ليس فيه أنه موجود فيه). وخلاصة ذلك أن أصل التخييل الشعري (هو وهم في وهم, أو كذب في كذب, مما هو أشبه بخيال الظل يخاله الصغير - الذي لا يعد من خيار الفتيان - حقيقة ماثلة للعيان, حتى إذا ما شب عن الطوق رفضه, رغبة منه عن كذب رجل من وراء ستار يمثل صورا موهومة, إذا أزاح المرء الحجاب عنه لم يجد هنالك مما يخيل إليه شيئا مذكورا).

وليس هذا الفهم الذي أكده النقاد والبلاغيون في عصر الإحياء بعيدا عن الإلحاح على مفهوم الخيال بوصفه علامة الشعر في كتابات شعراء الإحياء, وذلك على نحو ما أشرت إليه في مقالات سابقة. ولذلك عندما يفتش القارئ في دواوين شعراء الإحياء عن الدلالات الأساسية التي تستخدم فيها كلمتا (الخيال) و(التخييل) فإنه يكتشف أن الكلمتين تدوران عادة في حدود المعاني السابقة, وترادف كل منهما مع الشك أو الظن أو الوهم.

ولقد أعاد هذا الإلحاح على منافرة الخيال للحقيقة الفكرة القديمة التي سبق أن أكدها ابن سينا من قبل وهي (أن المفكرة والمخيلة اسمان لقوة واحدة. هي التي تتصرف في المعلومات بالتفصيل والتركيب, وأنها تغير اسمها بحسب اختلاف الحال, فعندما يكون زمامها بيد العقل يسمونها مفكرة, وعندما تنفلت منه يسمونها مخيلة).

كبح التخيل

وقد دفع هذا الفهم إلى التشكيك وسوء الظن بالتخييل من حيث هو نقيض للحقيقة, الأمر الذي جعل المعرفة الشعرية في مرتبة المعرفة الزائفة أو الكاذبة, ولم يكن من مفر أمام الذين أرادوا تأكيد قيمة الحقيقة الشعرية من ربطها بقوة العقل التي تكبح جماح الخيال, وتمنعه من الجموح, وتربطه بعالم الحقيقة التي لا مفر له من الارتباط به إذا أراد أن تكون له قيمة معرفية. ولزم عن ذلك ربط التخيل الشعري بالعقل إلى أقصى درجة, وذلك لأن العقل هو القوة الوحيدة التي تقدر على كبح جماح التخيل وتمنعه من الانطلاق المسرف في عالم الكذب والوهم. وكان ذلك هو السبب المباشر الذي دفع إلى إلحاح الإحيائيين على التخييل الذي يعمل في رعاية العقل ويسترشد بقواعد الحقيقة. وهذا ما يؤكده محمد الخضر حسين الذي ألزم الشعراء بأن توافق تخيلاتهم أحكام العقل وقواعده, وتطابق أصول الذوق السليم, لأن ذلك هو (الحافظ لنظام المعاني كما أن القواعد العربية تحفظ نظام الألفاظ). واقترن هذا الفهم بمطالبة ألا يقع في الاستحالة والتناقض, وأن يهتم بصحة النسبة بين المعاني المقارنة وإلا وقع في الخطأ, فقد أخطأ شوقي - فيما يقول المويلحي - حين قال:

أقبلت شموس ضحى ما لهن منتقب
الظلام رايتها وهي جيشه اللجب


لأن (تشبيه الظلام بالراية لهذا الجيش اللجب, لا مناسبة له, والعجب لهذه الشموس السافرة التي ليس لها منتقب كيف أنها لم تمزق هذه الراية). وقد وقع شوقي في التناقض كذلك, عندما قال:

خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
أتراها تناست اسمي لما كثرت في غرامها الأسماء


لأن (قوله خدعوها يفهم منه أن المشبب بها غير حسناء)... وهو يتنافى مع قوله في البيت الثاني فيما يذهب إليه المويلحي. وقد اقترنت مثل هذه الأفكار بفكرة أخرى مؤداها أن على الشاعر ألا يخرج عن القواعد العرفية المأثورة في التخييل, فإذا كان القدماء يشبهون الماء إذا علته الخضرة بالسيف يعلوه الصدأ, فإن تشبيه الوادي المخضر أو نحوه بهذا السيف في قول البكري:

أصبح وادي الفرقد أخضر كالسيف الصدي


غير مقبول, ولا تقارب فيما يذهب أحمد محرم, في نقده لشعر السيد توفيق البكري. وقد نشر نقده في السنة الأولى من صدور مجلة (أبولو) سنة 1932. هكذا (يتجه التخييل - كما يدل الاشتقاق اللغوي للكلمة - إلى مخيلة السامع فيثير فيها صور المحسوسات. وتثير هذه الصور المتلقي لأنها وثيقة الصلة بالانفعالات التي تتأثر بها وتؤثر فيها. ولذلك كان الشعر كله شديد التحريك للانفعالات, الأمر الذي يدخلنا إلى الدائرة الفنية البيانية لمصطلح التخييل, حيث تظهر قدرته على تحسين الصورة القديمة للمعنى عن طريق تجسيمها أو تمثيلها لحواس السامع بواسطة الاستعارات والأوصاف. ويشير مصطلح التخييل - في هذه الدائرة - إلى القدرة على تقديم الصور المخايلة للقارئ, ولذلك يرتبط بالتقديم الحس للمعنى. فيقال إن الشاعر يستعين بمخيلته (التي تعمل في رعاية العقل) ليعرض على السامع المعاني القديمة في شكل جديد عن طريق الاستعارات أو الصور التي تمثل المعنى أمام ناظريه. ويستغل الشاعر - في هذه الحال - عادة نفسية توجد لدى كل الناس, إذ إن من (عادة النفس الارتياح للأمر تشاهده في زي غير الذي تعهده به, والتخييل يأتيها من هذا الطريق فيعرض عليها المعاني في لباس جديد ويجليها في مظهر غير مألوف. ويترتب على هذه العملية توضيح المعنى لفهم السامع أو إدراكه من جهة والتأثير في انفعالاته من جهة مقابلة.

الشعر وكشف الحقيقة

ولذلك يقول إبراهيم المويلحي (الشعر هو إظهار ما خفي من الحقائق المعنوية وتوضيحها. للسامع يجليها عليه بوجوه مختلفة, وتجديد ما أخلق تكرار النظر إليه بهاءه من الموجودات كما قال امرؤ القيس:

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

فكساها كساء قشيبا من التأثير وجعل لبهائها في النفس سلطانا جديدا). ويؤكد الخضر حسين هذه الفكرة عندما يقول (التخييل فائدة عامة لا تتخلى عنه, وهي تحريك نفس السامع لتلقي المعنى بارتياح له وإقبال عليه, ولو كان من قبيل الحديث المألوف والمعلوم بالبداهة, وانظر - إن رمت الثقة بهذا - إلى قول الشاعر:

أخذنا بأطراف الحديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح


فالمعنى الذي صيغ البيت لتأديته لا يتعدى قولك: أخذنا نتناوب الحديث والإبل تسير مسرعة في الأباطح. وهذا كما رأيته معنى مبتذل وحديث يختص به عابر سبيل دون آخر. ولولا أن الشاعر أورده في هذه الصورة التي خيلت إليك بطاحا تتدفق بسيل من أعناق الإبل والمطايا لم ينل عندك هذا الموقع من الحظوة والاستحسان.

يقدم لنا هذا النصان اللذان نقلتهما عن مصادرهما في النقد الإحيائي فكرة التحسين والكساء القديمة. وهما يحددان بدقة مفهوم الإحيائيين عن القدرة التخييلية للشاعر, وكيف أن هذه القدرة لا تقوم بخلق معان جديدة ليس لها وجود قبل التعبير عنها, وإنما تقوم بتحسين المعنى السابق وتزيينه وصياغته صياغة جديدة مؤثرة, وذلك عن طريق كسوتها له ببعض الاستعارات والصور التي تمثل المعنى القديم أمام العين بصورة جذابة, فالتخييل - فيما يقول محمد الخضر حسين - (يلذ للنفس من جهة أنه يكسو المعنى لباسا جديدا). ومن الواضح أن هذه الفكرة بعينها هي فكرة عبدالقاهر تعود من جديد للسيطرة بعد أن درسه الشيخ محمد عبده بالأزهر. وعادت معها فكرته عن المعاني الأولى والثانية, فيرى الخضر حسين أن نفس المتلقي أو السامع (تشعر حال تلقّيها للصور الخيالية أن للمعنى الذي تحمله تلك الصورة صورة أخرى هي الصورة التي يعبر عنها بالقول الصريح). والنتيجة هي ما يقوله الخضر حسين من أن العبارات الخيالية تشارك العبارات الصريحة في حملها لمعنى واحد وتزيد عليه (بإراءتك المعنى في صورة بديعة تتعشقها النفس وتهتز لوقعها طربا).

حاسة الاستحسان

وإذا انتقلنا من مفهوم التخييل المرتبط بالتصوير الشعري إلى الاستعارة والتشبيه والكناية, من حيث هي صور تخييلية تنتجها مخيلة الشاعر التي تعمل في رعاية العقل, وجدنا أن وظيفة التصوير الشعري تتحدد في إطار الدائرتين اللتين يدور فيهما التخييل. ولذلك قال حسين المرصفي إن المجاز لا يستخدمه الشاعر (إلا لفائدة كلامية تختص به لا تعطيها الحقيقة). وقال لويس شيخو - في الجزء الأول من كتابه عن (علم الأدب) - إن هذه الفائدة (هي إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانا. فإن قولك مثلا. (شاهدت اليوم ملاكا) أبلغ وأوقع في النفس من قولك (شاهدت رجلا بارا طاهرا) لأن في ذكر الملاك ما يصور لك البراءة في أكمل مراتبها). وذهب حسين المرصفي إلى أن أحسن التشبيه (ما وقع موقعه من غرض تصوير حال المشبه والمستعار له والإبانة عنهما بجزيل العبارة ولطيف السياق). وأهم أغراض التشبيه - فيما ذهب جبر ضومط - هو التحسين (أي أن يهيج في النفس حاسة الاستحسان. وهذا الغرض تفي به العبارة التشبيهية بما لا تفي به العبارة الحقيقية بوجه من الوجوه). ويؤكد جبر ضومط أن التشبيه يمكن أن يقوم بنقيض التحسين, أي التقبيح أو تهييج حاسة الكراهة والنفور من المشبه, ويحدث ذلك حين يعمد الشاعر إلى ذكر مشبّه به مما استقر في النفوس كراهته والنفور منه (فتتحول لذلك هذه الحاسة وتصبّ على المشبه ما هاج بها من روح الكراهة والنفور وفقا لما هو مركوز في الطباع من أن المتماثلين حكمهما واحد. فالكاتب إذا أحسن اختيار المشبه به وقيده بقيود تتناسب مع ما قصد إليه. لعب بانفعالات السامع وذهب بها إلى حيث يشاء فيبعده عن القريب ويقرّبه من البعيد أو يحبّب إليه المكروه ويكره إليه المحبوب, وهكذا).

أما الكناية فإنها تمثل المعنى المجرد في ذهن السامع عن طريق بعض الأشياء المحسوسة, فيتصور ذهن السامع المعنى المجرد على أتم وضوح ومن أيسر سبيل, الأمر الذي يؤدي إلى تولّد الاستحسان والإعجاب. فعندما نقول: (زيد كريم) مثلا, لم يتأثر السامع بهذا المعنى, أما عندما نقول: (زيد كثير الرماد) فإن حاسة الاستحسان تتحرك داخل السامع لأن العبارة تصوّر له المعنى في صورة حسية تقنعه أكثر من غيرها, فإن كثرة الرماد - فيما يقول حسين المرصفي - (دليل على كثرة الإحراق), وكثرة الإحراق دليل على كثرة الطبخ والخبز, وكثرة الطبخ والخبز دليل على كثرة الأكلة, وكثرة الأكلة دليل على كثرة الضيوف وسماحه لهم بما ملكت يداه واختص بحيازته). وهذا كله من قبيل ذكر الدعوى مع شاهدها على طريقة عبدالقاهر الجرجاني في كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز).

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات