في مطلع ألفية شعرية ثالثة

في مطلع ألفية شعرية ثالثة

في الأعوام الأولى من الألفية الثالثة يحق لنا الحديث عن ألفية شعرية عربية جديدة, بما للزمن من استحقاقات, تأتي عبر ما تراكم في مجال النوع الشعري والإضافات التي شهدتها القصيدة العربية.

وأولى اللحظات الشعرية الجديرة بالمراجعة والمساءلة لحظة الحداثة الأولى التي عرفت نقدياً بحداثة الرواد منتصف الأربعينيات, وهو المشروع (التجديدي) الذي مثله مقترح القصيدة (الحرة) كتأسيس أولي ومشروع مغاير, ليليها سؤال مستحق آخر عن الحداثة الثانية التي مثلها مقترح (قصيدة النثر) كتحديث أكثر جذرية واصطدام بلغة القصيدة وبناها الإيقاعية ورؤاها, وصولاً إلى لحظة الحداثة القائمة التي اصطلح عليها (الكتابة الجديدة) القائمة على (النص) انشقاقاً واضحاً على المألوف الشعري في تراث الحداثة الشعرية العربية.

ماذا يبقى من حداثة الرواد?

والسؤال عن حداثة الرواد بعد قرابة ستين عاماً من انطلاقها, يبيح لنا التساؤل عما تبقى منها كمحصلة? وهنا لن نسائل (النصوص) المنجزة كتجليات لنياتهم التجديدية, بل نراجع (الخطاب) الذي صدرت عنه تلك النصوص, والمنطلقات النظرية والمبررات التي صاحبت الوعي بضرورة التحديث في تلك اللحظة من مسيرة القصيدة العربية, وعلى خطها المتميز بالتحول والحنين إلى التجديد.. امتثالاً لظروف داخلية (فنية) وأخرى تتعلق بتغير أفق التلقي ومكونات الشاعر وبعناصر أخرى في الخطاب التجديدي, تحف به وتضغط على وعي صانعيه من الشعراء والمتلقين (نقاداً وقراءً)...

يتجمع - ويمتد - خط الحداثة الشعرية العربية من نقاط, تذكرنا بما يراه الصوفيون في نظريتهم عن النقطة والخط, فالخط عندهم هو مجموعة نقاط, إذا أخذت أياً منها, تجد فيها ما في البدء من مزايا... وفي خط الحداثة الشعرية العربية تكون النقاط هي الاختراقات الصغرى والكبرى, الخروجات والتمردات, الرضات والضربات, العقد والمفاصل, تحولات البنى والموضوعات, الأشكال والأساليب, لغته وصوره, الإيقاعات والموسيقى, وكذلك تحولات تداوله واستهلاكه, قراءته وتقبله, ثم تحليله ونقده.. وهي أمور لها تجليات في عصور قول الشعر العربي المتعاقبة ثم كتابته وقراءته في يومنا هذا: المضطرب والشائك والمشتبك...

في البدء يجب ألا يوهمنا وجود هذا الخط التطوري المفترض, فإننا بذلك نستجيب لسلسلة وراثة مرجعية, لها سمات وراثية (مرئية) أو واجبة الالتزام, بل لعل ذلك سيدعونا لمواقف من القطيعة والنسيان, كضرورة تكتيكية للوصول إلى ذلك الجديد المطلوب دائماً.. ولا أجد في ذلك جموداً أو انقطاعاً, بل هو احترام للمنجز (القديم) الذي كان - وتلك مفارقة يجب ملاحظتها - (جديداً) في حينه.

وما بين يوم (القديم) الأول - أي الجديد - ويوم (الجديد) الأخير الذي سيغدو قديماً, تنجز الحداثة برنامجها النصي الذي غالباً ما يكون تجريبياً أو اختبارياً, وعلينا -كقراء- أن ننظم المقروء النصي للتعرف على هوية الخطاب الحديث ومقترحاته, وهكذا تتكون أطياف شعرية وملامح جديدة تنمو وتتبلور بما نمنحه لها من هواء ضروري, وزوايا نظر جديدة بمستوى ما تتطلبه قراءة هذا المنجز دون أن تزهدنا به (حداثته) أو (مغايرته), انطلاقاً من القناعة بوجود الخط التطوري ونقاطه ومفاصله وانحناءاته, ومن القناعة بضرورة مخالفة مساره والتقاطع مع ثوابته, استجابة للمتغيرات المحيطة, وهنا نصل إلى لحظة المراجعة والتقييم التي تدعونا إليها مناسبة الدخول في الألفية الجديدة والتوغل فيها.

وإذا صح عدم جدوى المراجعة - لمناسبة الألفية الثالثة - في نواح أخرى من حياتنا العربية كالعلم البحت والإعلام والفلسفة والعمارة .. إلخ... مما ليس لنا فيها - نحن العرب - محصول متراكم طيب نوعاً وكماً, ومازلنا نعتمد فيه مرجعية الآخر ومنجزاته.. إذا صح ذلك هناك, فإن الشعر يسمح لنا بهذه المراجعة والمساءلة لأنه يضرب عميقاً في جذوره عندنا عبر أساطير التاريخ القديم وملامحه وحكاياته وأشعاره القصصية, وإلى أدبنا الكلاسيكي المتمركز حول الشعر الذي ارتبط بالإنسان وارتبط الإنسان به, لا كأشكال رسمية ذات هوية فنية واضحة, وإنما كرؤى وتعبيرات تجد في الخرافة والخيال والأمثال والأحلام والتشكلات الغنائية الفطرية, كمرادفات محايثة لصورة الشعر المكرسة عبر شكله الوحيد المتاح والمتعارف عليه, وأعني القصيدة.

وحتى بهذا المعيار فللقصيدة العربية ماض يؤهلها للحظة التحول, والمقايسة, واختبار الاستحقاق الألفي الماثل اليوم.

وإذا انصرفنا - مسرعين - عن المستوى الخطي المتسلسل عبر التاريخ, والمتنوع في الأراجيز والقصائد والمعلقات وغيرها, وتأملنا النوع الشعري وتحولاته الشكلية والأسلوبية (لغة وإيقاعات وموضوعات وبلاغة صورية ولغة وزوايا نظر) لوجدنا الشعر العربي جديراً بلحظة التأمل والمراجعة في سياق الألفية الجديدة, فشعرنا ذو فاعلية حياتية, لا يضيق بالوجدان وتجليات الذات, كما يتمدد ليستوعب الخارج, ويتمثل مفردات الواقع والتاريخ, يضم الحادثة والوقائع اليومية, كما يتلمس ذبذبات الروح وهواجسها: من الرجز حتى المعلقة, ومن الموشح حتى البند, ومن القصيدة الحرة حتى قصيدة النثر, بتلوينات وتنوعات يؤطرها الشعر كروح وإيحاء, ولا يحدها بثوابت, رغم نزاعها الظاهر وتباينها وخلافها الذي هو جزء من آليات الدفاع الغريزي عن الوجود.

اللحظة الشعرية

سنتوقف إذن عند (حداثة) الرواد الذين هم أقرب إلى لحظتنا الشعرية, وعصرنا, فالرواد الذين تمثلوا منجز الشعر العربي الموروث, طرحوا مشكلة الصلة مع الآخر ومؤثراتها الأسلوبية عملياً, بعد أن ظل شكل الصلة الوحيد مع الآخر هو في الكتابة النقدية التي تأثرت بالمنهج الأرسطي وأطروحاته في (الشعرية) وفي البلاغة العربية التي خضعت فنونها الثلاثة لجزء من أثر المنطق الأرسطي المتشدد.

كانت دراسة (الرواد) وثقافتهم منفتحة على النص الآخر في لغته الأصلية, مدفوعين كذلك بعوامل سياسية وإنسانية سمحت برؤية النص عبر لغته الأصلية, وما ترجم إليها من لغات أخرى, وهكذا تعرف الرواد على قصائد وأشعار لشكسبير ودانتي, لأليوت وستويل, باوند وكيتس, ناظم حكمت ولوركا, إيلوار وماتشادو وغيرهم.. فحفزهم ذلك كما تقول نصوصهم وتلفظاتهم النظرية لتحريك الإطار الإيقاعي واللغوي والصوري والدلالي لقصائدهم, مما تمخض عنه محاولتهم كتابة القصيدة متعددة التفعيلات والقوافي, ومرسلة الأشطر المتفاوتة في طولها, وتضمين الرموز والأساطير والشخصيات داخلها.. واصطلحوا على ذلك بالقصيدة الحرة.. بما يحمله المصطلح من بلبلة, وربما تم ذلك كله بوعي ناقص, محكوم بمحدودية (الحرية) وفهمهم الخاص لمداها داخل النص, ولانشدادهم إلى التربية (الشعرية) التقليدية التي نشأوا عليها, ولكن ذلك لم يعطل طاقة التجريب والمحاولة, أو يقلل من شأن حنينهم المتولد عن إحساسهم بوجوب التغيير, والخروج مما أسمته نازك الملائكة الجمود والتحجر أو التقليد لأطر وأنماط لم تعد ملائمة لروح العصر ونبضه المتسارع من حولهم.

والملاحظ أن نقطة افتراقهم عن الموروث سواء التراث (أي الماضي الشعري) أو النتاج المعاصر لهم والمجتر للقديم بتقليدية ورتابة, لم تكن بسبب (عقدة نقص) من هذا الموروث أو قصور عن مجاراة شعريته, فالرواد دون استثناء بدأوا بالكتابة الشعرية السائدة, ولهم فيها - دون استثناء أيضاً - محصول طيب منشور في دواوينه الأولى, ربما كان سيؤهلهم ليكونوا شعراء بارزين في الشعرية الموروثة ومقاييسها أو ما عرف بالقصيدة العمودية, لاسيما أنهم تأثروا بوعي وإحساس بشعراء مميزين في ذلك النوع في عصرهم, وظلت لهم آثار واضحة حتى في شعر الرواد اللاحق.

المفارقة والمغامرة إذن لم تكن عن قصور وضعف, رغم أن ذلك اتهام تردد في الحجاج والمساجلة بينهم وبين رافضيهم من التقليديين, لكن درجة وعيهم بعصرهم ومتغيراته ثم بلغة الشعر وإيقاعه, هي التي هيأتهم لتلك الطفرة المفصلية في تاريخ الشعرية العربية, وأعني الانعطافة الحقيقية الحادة التي لم يسبقهم إليها من المجددين الكثر عبر عصور الشعر العربي المختلفة الذين اكتفوا بالتنويعات والاختلافات داخل الشكل التقليدي ذاته.

وسوف يتآزر وعيهم بعصرهم (سياسياً واجتماعياً) بالقياس إلى اللحظة التاريخية التي عاشوها, أو قدر لهم أن يشهدوا عليها عقب انتهاء الحرب الكونية الثانية, مع تبدل لغة الشعر وإيقاعه بالضرورة, احتكاماً إلى تغير إيقاع الحياة العربية, مما خلق أو هيأ لظهور وعي جديد بدور اللغة والإيقاع تحديداً, مع بقاء الموضوعات كما كانت عليه. وتلك نقطة الاختراق في مشروعهم الشعري...ونقطة التقائهم بمشروع الحداثة الشاملة.

استيعاب التراث

ويكتمل المثلث بثقافة هؤلاء الشعراء التي تستوعب التراث ومفهوم الشعر نظرياً, إلى جانب إطلالتهم الواعية على المنجز الشعري الحديث في الغرب, فالرواد يجيدون قراءة الشعر بلغته الأجنبية وينظرون إلى مشهده الجديد في الغرب دون عقدة نقص أيضاً, انطلاقاً من (إنسانية) و(كونية) منظورهم الذي يرى النتاج الشعري إنسانياً في المقام الأول, يدفعهم إلى ذلك عدد من المشغلات الفكرية والسياسية والثقافية أيضاً.

وسوف يوجههم هذا الاهتمام بالآخر من خلال منجزه الشعري المتجاوز لضوابط الإيقاع التقليدي (الوزن والقافية الموحدة) إلى محاولة تغيير خطط القصيدة العربية التي تكمن في جذورها بوادر حنين إلى تغيير ذلك الإيقاع الذي كسرته محاولات سابقة ذات أثر في ذاكرة الرواد الشعرية كالموشح والبند والرباعيات والمقطعات الشعرية وتجارب المهجريين, وغيرها من المحاولات المبكرة السابقة لمقترحهم..

ويأتي بعد ذلك دور اللغة التي اكتشف السياب ونازك (خاصة) أنها لم تأخذ طاقتها الرمزية والتعبيرية ولم تؤد وظيفتها الشعرية داخل القصيدة, بسبب ما يحف بها من إكراهات وضرورات فنية, تتطلبها القافية الموحدة وهندسة البيت الشعري ذي الشطرين وثبات عدد التفعيلات في البحر الواحد. وتداعياً عن ذلك ستتسع القصيدة لعالم من الرموز والأساطير لم تكن ذات وجود في الشعر السائد, لكنها أصبحت ممكنة استناداً إلى إنسانية المنظور التحديثي, ومجافاة المباشرة, والبحث عن معادل رمزي للشعور والإحساس والأفكار والرؤى, رغم أن وجود تلك الرموز والأساطير كان وجوداً خارجياً يعضد الصورة أو يعمق الفكرة ويظل وجوداً طارئاً ومنعزلاً لا ينصهر في الرؤية الشعرية ذاتها ويغيب في ثنايا بنية النص.

لقد كان مجهود الرواد وفقاً لتلك القراءة التي اتجهت إلى الخطاب الشعري لا النصوص, مجهوداً أولياً له فضيلة التأشير واقتراح إمكان التحديث, والإيغال في مغامرته مما مهد للأجيال الشعرية اللاحقة أرضاً شعرية خصبة ستثمر في لحظات الحداثة التالية التي انبعثت عن لحظة الرواد التحديثية..

وهذا في ظني هو ما سيظل أخيراً من حداثة الرواد ومشروعهم التحديثي المنطوي على كد وكفاح واضحين في إنجازهم النصي, وتلفظاتهم ومنافحاتهم النظرية على السواء.

وهذا يقودنا إلى تفحص لحظة حداثية ثانية أو تالية تمثلها قصيدة النثر..

لحظة الحداثة الثانية

يبدو أن (الحداثة) لا تزال المقياس الاختباري لاندماج أفق ثقافتنا العربية بالعصر, أما تجليات هذه الحداثة ومظاهرها في الكتابة الشعرية, فلم تزل تعاني الرفض أو التردد أو القبول على استحياء, رغم الثلمة الكبرى التي ألحقها (الشعر الحر) بالمتن الشعري التقليدي منذ نصف قرن تقريباً..

إذ إن هذا الجسم الصلب الذي تكيف قليلاً مع الدعوة إلى وزنية جديدة, ونظام بيتي مستحدث, لم يقبل الانفتاح على الحداثة كلياً, وإنما أراد أن تمر كمية محدودة منها عبر الثلمات المتلاحقة في سد التقليدية المنيع..

وهكذا إذ نصل إلى مقترح قصيدة النثر, نكاد نستعيد الخطاب النقدي المألوف الذي عرفناه في منتصف الأربعينيات, وهو يواجه مقترح الرواد حول تجديد القصيدة العربية, فلا يزال الخوف من الحرية في الشعر, والتشكك بمقدرة الشعراء الجدد (والشباب على وجه التحديد) ونياتهم والصلة بالأخر عبر الفنون والآداب, يحكم عناصر هذا الخطاب ويوجه رفضه لمعاينة التجارب الجديدة, رغم الزحزحة التدريجية التي تحدث عبر الدوريات ووسائل النشر, ومؤتمرات الأدب, ومهرجانات الشعر.. لكن وتائر هذه الزحزحة لا تناسب التراكم الكتابي الكمي الذي يعطي أحياناً الذرائع للمواقف المحافظة, إذ ترى في ضعف بعض محاولات كتاب قصيدة النثر, أو فهمهم الخاطئ لاستراتيجياتها ودواعي كتابتها , مبرراً لرفض النوع الشعري كله, متجاهلة أن ذلك يحصل في أغلب التجارب الجديدة, لا سيما أن عمر التجربة ذاتها قصير بالقياس إلى الأنواع الشعرية الأخرى.

من هذه النقطة يبدو الحديث عن (قصيدة النثر) دفاعياً ومسبوقاً بتكرار الذرائع النظرية على المستوى الفني - أي كتابة القصيدة - والجمالي - أي تقبلها وقراءتها -.

وقد عرضنا سابقا لما رأينا أنه خلفية تحرك الجدال والحجاج حول قصيدة النثر, ووجدنا أن ثمة أخطاء وتصورات مغلوطة كانت وراء سوء فهم الجمهور لهذا النوع الحديث من الكتابة الشعرية, وبعض هذه الأخطاء ارتكبه روادها أنفسهم بسبب حماستهم التبشيرية والأوهام التي أسرت نظرتهم إلى قصيدة النثر, وصلتها بالشعرية العربية, والأشكال الغربية, بينما كان جزء من سوء الفهم متأتياً من غياب منظور القراءة المناسبة لهذا النوع.. إذ إن قراءة قصيدة النثر ونقدها وتداولها ظل محكوما بآليات و(إجراءات) قراءة الأنواع الشعرية السابقة عليها.. وهذا أساس الخلل في قبولها وتحديد هويتها وشرعيتها, احتكاماً إلى قوانينها ونظم كتابتها وإيقاعيتها الخاصة, وباختصار فإن قارئ قصيدة النثر, هو الطرف المطلوب وجوده بالقوة التي ظهرت فيها القصيدة, وبالحساسية ذاتها.

تصورات خاطئة

لقد لاحظ النقاد ما تعاني قصيدة النثر من إشكالات ذاتية وموضوعية ; بدءاً بمصطلحها الداعي إلى البلبلة ; وغير المعبر عن جوهرها, وتصورات بعض كتابها المنطلقة من نثريتها أو سهولة كتابتها, أو مجافاتها للشعرية العربية بسبب نشأتها الغربية, وهي تصورات قاصرة طبعاً, أضرت كثيراً بقصيدة النثر, وتسببت في مناكدة التراث الشعري واللغة, في سنوات انطلاقتها العربية الأولى ; ثم إغراق منابر النشر بنماذج ركيكة تدرج نفسها تحت نوع (قصيدة النثر), ومحاولة استعارة عناصر الخطاب الشعري الغربي وتقليد نماذجه ; وأخيراً الاستنساخ الصوتي وتشابه نصوصها الذي يوحي بأن قصيدة النثر نموذج واحد, يكرر كتابته شعراء متعددون, نظراً لتشابه زوايا الخطاب والموضوعات والعبارات أحياناً, إلا أن ذلك كله لم يكن ذريعة كافية لهدر دم قصيدة النثر, والتغافل عن دراستها سواء في المدرسة العربية, أو فعاليات النقد الأدبي, ولا يبرر الاكتفاء بما يشبه التصويت ب (نعم) أو (لا), و (مع) أو (ضد) دون الخوض في قوانينها الداخلية وإيقاعاتها ومزاياها الفنية, ولكن ذلك لا يعني طمس جهود نقاد عرب اقتربوا منها في السنوات الأخيرة بالدرس والتحليل ومحاولة تنميط نماذجها, ومقاربتها نصياً, ومناقشة مشكلاتها سواء الفنية منها أو التوصيلية, وهو جهد أفلح في جذب القارئ إلى منطقتها, والتأمل في ذرائعها وفحص نماذجها, ووصول ذلك إلى شرعية مناسبة تقبل وجود قصيدة النثر في المحافل والمنابر والنشر..

يستلزم فحص نصوص (قصيدة النثر) مفارقة الخطاب السائد ; سواء على مستوى كتابتها أو تلقيها نقدياً ; فقراءة نماذجها تتطلب معاينة خاصة, نابعة من استعانتها الأساسية بالسرد وتأثيث القصيدة بعناصره: على مستوى ضمائر السرد التي تساهم في العثور على مفاتيح قراءة تحدد انضباط السرد وجريانه, وهو أمر يجب ملاحظته على مستوى الكتابة (من الشاعر نفسه) والقراءة أيضاً, وعلى مستوى الدلالة التي هي توسيع وتمدد للمعنى, وتعويض عن غياب عناصر الإيقاع التقليدية, وعلى مستوى البناء حيث تقترن الفوضى الظاهرية لقصيدة النثر بنظام دقيق ينبث في أجزائها, ويتنامى عبر متنها, وعلى مستوى الإيقاع حيث يغيب الوزن تماماً, وتنبذ التقفيه, فتنوب عن ذلك أنواع من التوازيات والتقاطعات والتكرارات وغيرها من جوانب الإيقاع الداخلي, وعلى المستوى الخطي حيث يكون للهيئة الخطية التي تنكتب بها القصيدة أثر في قراءتها ; بدءاً من العتبات النصية كالعنوان وما يوحي به أو يثيره في القارئ, ويوجه قراءته من خلاله, وكذا التناصات بأشكالها المختلفة تضميناً ومفارقة وإشارة وتوسيعاً وتعديلاً, والانتباه إلى فراغاتها وأساليب القطع والوصل والبناء الجملي. وأرى أن الانتباه إلى هذه المكونات بالدراسة والتحليل النصي سيرينا تنوعاً أسلوبياً واضحاً, تغدو معه قصائد أدونيس النثرية ذات أسلوبية خاصة, تختلف تماماً عن نصوص أنسي الحاج مثلاً, ونصوص سركون بولص عن نصوص أمجد ناصر, وعباس بيضون عن نصوص سيف الرحبي وشعر كمال سبتي عن قصائد طالب عبدالعزيز وهكذا.

إشكالية قصيدة النثر

إن قصيدة النثر هي قصيدة رؤية في المقام الأول, لكنها بتفجير طاقات النثر والاستعانات السردية, تباين النموذج الجبراني الشائع في (الشعر العربي المنثور الذي كتبه جبران والريحاني) أو (الشعر الحر) حسب اجتهاد جبران وأطروحته المعروفة داخل تجمع (شعر), ولكن الإحساس لا يزال قائماً حول الشكل الإنشائي أو الخطابي لقصيدة النثر, مما يعزز نصوصاً ذات كيانات لغوية موشاة بالصور الزاهية والتشبيهات المبتذلة (أي المستهلكة صورياً) والمتميزة بميوعتها العاطفية, وانشدادها إلى بريق النثر, في ظن أن قصيدة النثر نوع هجين, يأخذ وجوده من خلايا حياتية متباينة, لإنتاج نوع زائف, لا هو شعر ولا نثر. ولعل هذا الإحساس حدا أدونيس على التراجع عن مصطلح (قصيدة النثر) لصالح مصطلح أكثر بلبلة هو (كتابة الشعر بالنثر) لتأكيد الحاضنة (الشعرية) لقصيدة النثر.

صحيح أن جبران في كتاباته النثرية الإشراقية يعد أحد مراجع قصيدة النثر, كما أن الكتابات الصوفية والإشراقية في التراث العربي هي مرجع آخر مهم لها, إلا أن الخلط بين النثر الفني والقصيدة الحديثة يضر بهذه الأخيرة أيما ضرر, ويؤكد نثريتها في ذاكرة القارئ العربي المتكونة بخبرة قراءة راقية لنماذج شعرية عالية, تقف قسيماً جباراً لفرع الأدب الأصغر أي النثر, وأي رؤيا ميتافيزيقية معبر عنها بنثر فني خالص ستظل أبعد عن مرمى قصيدة النثر, المنطلقة أساساً عن حاضنة الشعر, وإيقاعاته, وتلاوينه..

كان على كاتب قصيدة النثر وقارئها معاً التعامل معها كتابة وتلقياً, بكونها حالة جديدة أو (الأجد) - بتعبير الدكتور المقالح - وذلك يجعلها على مبعدة من النثر الشعري, والشعر المنثور و(قصيدة التفعيلة بداهة) فهي لا تخضع لقواعد جاهزة كالأنواع الأخرى, وإنما لقوانين مستخلصة شيئاً فشيئاً من النصوص, وذلك جزء مهم من شعريتها ; فهي انعكاس لتمرد وخروج على المألوف: فنياً وإيديولوجياً ومعرفياً, وهذا من أوليات التعاضد بين الشكل والمضمون.. فالحداثة التي من سماتها الشمولية في الفكر وتمثيله معاً, في النظر إلى الواقع وتوصيل هذا الموقف, إنما حتمت أن يكون اختيار الأشكال مطابقاً للبنى الفكرية والمضمونية التي تصب فيها. وهكذا كانت القصيدة الأجد انقطاعاً تاماً عن الشعر القائم على الإيقاع العروضي قديمه وجديده, ولهذا انطبعت قصيدة النثر بحس المشاكسة والتمرد, سواء كتبت ضمن مفهوم (الرؤيا) الميتافيزيقية, أو اقتربت من الواقع ولغته وموضوعاته (كما في النماذج التالية لرواد قصيدة النثر) وتجسد ذلك في أبنيتها وأشكالها ولغتها وصورها.

قراءة عسيرة

مهمة قراءة قصيدة النثر إذن عسيرة دون شك, لكنها ليست مستحيلة. إن عسرها متأت من: تناقض فوضاها ونظامها, النثر والشعر, رفض القاعدة وترسيخ القانون, استبدال المعاني الجزئية بالدلالات, والتبعثر البيتي بكلية النص, والغنائية المسطحة بالسرد والوصف, والبلاغات المستهلكة بالسياق النصي, والموسيقى الوزنية الرتيبة بالإيقاع الداخلي, والنموذج العام للشعر بخصوصية كل نص.. وعلى هذا الأساس تفارق قصيدة النثر الأشكال السابقة عليها, فتغدو قصيدة المرحلة الراهنة في ألفيتنا الجديدة لكنها ليست الشكل الوحيد الممكن للتعبير عن الراهن, فزاوية النظر الخاصة تفرض التعبير المناسب, ويكون ثمة مكان دائماً للتعبير بالأشكال المتاحة كلها, تلبية وامتثالاً لدواعٍ ذاتية ; أو ظرفية ; أو نصية. لكن ذلك لم يمنع عدداً من النقاد العرب من الحديث عن مستقبل الشعر العربي وآفاق تطوره من خلال قصيدة النثر ذاتها, دون أن يعني ذلك إلغاء أو نسخ الأشكال المجاورة, مادامت زوايا النظر التعبيرية بحاجة إليها.. أي أن ثمة شعراء يتوحد إيقاعهم وخطابهم مع الوزن بأشكاله منتظماً أو حراً.. والقول بمستقبلية قصيدة النثر لا يعني ارتهان زمن المستقبل الشعري العربي بها, بل مراقبة سيرورته من خلال انطلاقتها وأفق سيرها, لكونها مقترحاً جديداً يتنوع على حداثة القصيدة العربية الحرة, ويوغل في الطرق التي فتحتها.. ويتوافق مع متغيرات عصر شعري جديد تتشكل ملامحه وتتضح سماته.

 

حاتم الصكر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشاعر الانجليزي ت. س.اليوت





الشاعرة نازك الملائكة





الشاعر أدونيس





الشاعر أمجد ناصر