ماذا يقول شعراء العراق?

ماذا يقول شعراء العراق?

شعراء العراق.. الذين عاشوا جحيم الداخل تحت حكم صدام.. كيف رأوا نذر الكارثة التي لم يكونوا يملكون لها دفعا?

تلقيت العدد الأخير من مجلة (ثقافات) البحرينية, ويتضمن ملفاً شعرياً منفصلاً بعنوان دالّ هو (لا ملاذ إلا الشعر ولا فضاء إلا الأنهار الخربة) وبه جملة وافرة من قصائد اثنى عشر شاعراً وشاعرة عراقية من الشباب, كتبت - بطبيعة الحال - قبل الحرب الأخيرة, تتصدرها دراسة شجية لناقد وشاعر عراقي في المنفى هو الصديق الدكتور علي جعفر العلاق.

وكانت بالنسبة لي تجربة مثيرة, أن أقرأ نصوصاً لا يفصلني عن زمن كتابتها سوى بضعة أسابيع, ومع ذلك فهي فترة مشحونة بالفواجع والتحولات الدرامية والوجدانية الخطيرة, مما يتدخل بشكل جذري في طبيعة القراءة ويكيّف منظورها ويكسب إشاراتها دلالات جديدة, مهما اجتهدنا في تمثّل الموقف الأصلي للشعراء. وبدا لي حينئذ أنني حيال حالة صريحة لما يطلق عليه في النقد الحديث مفارقة التفاوت بين أفق الكتابة وأفق القراءة, فهؤلاء الشعراء عندما سطّروا نصوصهم لم يكونوا قد رأوا جحافل الجيوش الأمريكية والبريطانية ولا سمعوا رعود قصفهم وقنابلهم, ولا شهدوا غرائب الجهاز الإعلامي الذي كان يدافع بعنترية عن نظامهم, ولم يكونوا قد ارتجفوا لحظات الرعب الدموي المحيط بهم, ولا طفرت عيونهم بالدمع وهم يرون التماثيل تتهاوى ـ لكن ليس بأيديهم كما تمنوا - والقصور تنهب في شوارعهم, لم يكونوا قد عانوا كل ما حبلت به الأيام من كوارث وأسئلة, ومع ذلك فهم شهود على هذه الأحداث وهي لا تزال في رحب الغيب, رأوها قبل أن تحدث, وصدقوا في وصفها دون أن تقع, واستطاعوا ببصيرتهم أن يعاينوا القيامة والطوفان الذي سيجتاحهم. لكن القارئ يظل قادرا على فك شفرات هذه النصوص وإحالتها إلى الوقائع التي صدقت متخيّلها, وعندئذ يتبين لنا أن الشعر الحقيقي يثرى بمرور الزمن عليه دون أن يتقادم أو تبطل صلاحيته, وأن القراءة الواحدة لا يمكن أن تتكرر مرتين للنص ذاته, مادام القارئ واعياً بالواقع والفن ومتغيراتهما المتلاحقة.

اختلاف المعنى

هناك قصائد لا نملك عند مطالعتها بعد الحرب إلا أن نتصور التغيرات التي حدثت لمعناها الذي كان يمكن أن نستشفّه قبل ذلك, لأن الأحداث حوّلت المجازات الرامزة إلى حقائق ماثلة للعيان, فها هو مثلاً الشاعر العراقي الخمسيني (جواد الحطاب) يقول في إحدى قصائده بعنوان (كومونه):

(معي أيها الفقراء/ لنهاجم الفردوس
سنطالب - أولا - / بجرد جميع أسماء الأولياء
(لأنا.. نستحق أكثر من تسجيل أسمائنا
في الموسوعة الهزلية..)
كقراصنة البحر/ بعصّابات رأس حمراء
وملابس ذهبية/ سنهاجم الفردوس
(الردهات في الأعالي/ مكتظّة
بالابتهالات النازفة
فلمن سينتبه الملائكة?)
هجوم أيها الفقراء
لنحاصر الأبواب من كل الجهات
ولنرتق الأسوار
بسلالم حماقاتنا الطيبة).

ومع أن شفافية الرمز بالجنة وأسوارها إلى قصور السلطة المتألهة تبدو لنا الآن بديهية وحكيمة فإن مقابلات عناصر الصورة الكلية من جموع الفقراء وأسماء الأولياء والابتهالات النازفة وأشكال القراصنة, كل ذلك يكتسب بعد وقائع حالات الانتقام بالنهب والسلب إثر سقوط السلطة معادلات مجسدة تنتقل بدلالات القصيدة من ثورة ميتافيزيقية تقلب مفاهيم الخير والشر إلى إشارات بليغة لما حدث بالفعل في عراق اليوم من منظور شاعر من سلالة المتنبي الباقية.

بيت العنكبوت

أما عبدالرزاق الربيعي, وهو شاعر في مستهلّ الأربعين من عمره, فهو يتمثل الحياة من حوله خيوط عنكبوت يزهو بما يبنى ويشيّد, ولن نحتاج إلى وقت طويل حتى نرى أوهى البيوت التي أقامها وهي تنهار في ساعات قلائل:

(مرت على قلق المساء/ مرور نيزكة
ولم تترك سوى/ لون الحداد
علامة استفهام
مرّ قطارها الغبشيّ
تمتم عنكبوت
كان يجمع ثم يطرح ثم يسأل
كم هدمت? وكم بنيت?
وكم حلمتَ بسقف بيت?
فقمتُ
قوّضتُ سمائي
ثم قهقهتُ - بكيتْ)

وليس هناك أوجز من هذا الاختزال المكثف للإحساس الفاجع بعالم شديد الهشاشة, توجعه حرقة الأسئلة المارقة كالنيازك, وتسحق روحه بتأمل الطاغوت/ العنكبوت وهو ينقض غزله ويبدد حلمه ويدفعه إلى مشارف الجنون. والملاحظ على شعر عبدالرزاق الربيعي إلى جانب هذه الوجازة المعبرة متانة النسيج اللغوي, وقدرة التمثيل التصويري على تكوين مجازات تشف عن حالات النفس وأشكال الوجود باقتدار فائق, كما أنه بارع في التحرك الرشيق عبر مواقف مختلفة في الخطاب الشعري لمواجهة ما يفعله الآخرون أمامه, وذلك تعبيرا عن فقدان اليقين الأيديولوجي الصارم في طغيانه على بلده.

كما نلاحظ صفاء مائه الشعري في امتلاكه لزمام البيت العمودي وهو يحيله إلى نثار ورد مضمخ بعطر الأسلاف في مثل قوله:

(ماذا تقول لشمس/ ودّعتك على/ مشارف النهر/ عند الماء والشجر
ماذا تقوب لشباك/ بكى ندماً/ لما وقفت بباب الصبح/ للسفر).

أمنيات الحروب وعودة القبور

للشاعرة العراقية الشابة (ريم قيس كبّة) رؤية خاصة للحب في زمن الحروب المأساوي, ربما تكون في خطوطها المباشرة أكثر صراحة في تجسيد وعي الجيل الجديد بالمآزق الطاحنة التي وضعهم فيها النظام السياسي وأكثر قدرة على تمثيلها شعراً فهي مثلاً تقول لحبيبها:

(بغتة/ ذات قيلولة للمدافع
ما بين حربين/ كنا التقينا
حلمنا معا
أن تصير المدافن ساحات رقص
وقلت: سيصبح ما قد تهدّم من أمنيات
ناطحات سراب
وقلت إن المدافع ماتتْ
وإن الحروب تنام طويلاً
وبأسرع من طلقة/ مرّ جيش
وكنا نراوح بين التغرب والزقزقات
يقينا نفكّر أن القذائف/ قد تستحيل نخيلا..
وانتظرنا قليلا
حينما عصفت حربنا الثالثة
لم يعد ثمّ متّسع للتمنّي
فكنتَ احترفت السكوت
وكنت احترفت أنا الكارثة).

اعتماد الشاعرة على تقنية المفارقات المريرة في توليد الصور الشعرية يمثل تراوح أبناء هذا الجيل الصدّامي المطحون بثلاث حروب منهكة وحصار طويل في عقدين ونصف العقد, تراوحهم بين الأمل البازغ في هجعة المدافع كأنها في قيلولة وبين الدمار الشامل الذي يعقبها. وعندما يبنون ناطحات للسحاب تنغرس قمتها في قلب السراب الذي يلف حياتهم, فلا يتبقى لهم سوى أن يتوهموا القذائف صفوف نخيل, ولا يبقى أمام الرجل غير أن يحترف الصمت ولا المرأة غير أن تحترق بالكوارث.

وليس في هذا الشعر مداراة ولا مجاز, فالحرب قد سحقت الحب ولم يعد هناك متسع للأمنيات.

لكن الشعراء وهم يمثلون روح الأمم التي لا تموت فإنهم لا يقفون عند حدود الحاضر, بل يدركون شروط المستقبل ويشكلّون ملامحه بكل إصرار.

وإذا كانت هذه الثلة من شعراء العراق الشباب المكتوين بلظى الجحيم قد تنبأوا بالكارثة التي رسموا معالمها وتجاوزوا فواجعها قبل أن تقع, واعتبروها قيامة لا بد أن تفضي إلى الجنة التي تحل بعد زوال الطغيان أو طوفانا لا بد له أن ينتهي إلى إعمار الأرض بأيدي أبنائها بعد إخصاب وادي الرافدين بسواعد أبنائه, فها هو الشاعر علي شبيب الذي يكتب المسرح أيضا يقول:

(تشتعل الحرائق الخضراء في الغصون
روحي كرمة محمّلة
سأرتدي المياه, كل وردة تعمّدت بالريح
أو توضأت باللهب الثائر
كنت ناطقا بعطرها السرّي
كل عشبة وسنبلة
تمردّت على طقوس المطر البرّي والظلام
خبأتها حين اعتليت الموج والتجأت من طوفانه
للقنن المكلّلة
مصطحبا حمامة, تحمل في منقارها قرنفلة).

وهنا نلاحظ أن الجدب المادي القاحل الذي كان يثقل كاهل العراقيين خلال سنوات الحصار المرّ لم يحل بين الشاعر وإحساسه بثراء روحه وامتلائها بعروق الكرم وطيوبه المحملة, كما أن إحساسه الطاغي بفداحة الحرب المقبلة كأنها الطوفان الذي لن يترك على الأرض أثرا للحياة دفعه إلى التحدي بأنه سيرتدي المياه وينقذ العطر والخصوبة في كل زهور بلده وهو يُخبئها في القمم الشاهقة.

ولأن خطاب الشعر الصادق يعرف كيف يزرع رموز المستقبل بطلاقة فهو يصطحب معه حمامة السلام التي لا بد أن يعترف له العالم بحقه فيها وهي تحمل في منقارها قرنفلة بيضاء, هي زهرة عراق الغد المشرق في وجدان الشاعر الإنسان وهو يسعى كي يتحرر.

 

صلاح فضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عبد الرزاق الربيعي





د. علي جعفر العلاق