الحاج حمزاتوف شاعر داغستان جهاد فاضل

الحاج حمزاتوف شاعر داغستان

كان هذا الشاعر شيوعيًا في الظاهر وقوميًا وإسلاميًا في الواقع, والدليل على ذلك هو أشعاره التي تغنت بداغستان وتراثها الإسلامي.

كان رسول حمزاتوف الشاعر الداغستاني الكبير الذي توفي أخيرًا, عضوا في مجلس السوفييت الأعلى, أعلى هيئة سياسية في الاتحاد السوفييتي السابق. ولكن هذه العضوية لم تكن في الأعم الأغلب دليلاً على عقائدية متزمتة, بل على رفعة في المقام أو في النفوذ. كما لم تكن تعني بالنسبة لهذا الشاعر القادم من بلد جبلي فقير سوى الاعتراف به كممثل لبلده وربما لمنطقة القفقاس الإسلامية, ذلك أنه كان شخصية ثقافية ووطنية ذات جذور واحترام في بلده, وليس مجرد موظف اختاره القوميسير السياسي الروسي في عاصمة داغستان.

والواقع أن من عرف رسول حمزاتوف عن قرب, أو قرأ كتابه (داغستان بلدي) بعناية, لا يمكن أن يصنف رسول في عداد الماركسيين المتشددين, أو حتى في عداد الماركسيين, ذلك أن الروح التي تشعّ في شعره وأدبه, هي روح قومية داغستانية لا روح ماركسية أو أممية.

فهو (قومي) ينطلق من تراث بلد آسيوي شديد الولاء للإسلام, لا من تراث كارل ماركس ومعه فريدريك انجلز وفلاديمير ابليتش لينين.

وإذا كان رسول حمزاتوف قد حمل البطاقة الشيوعية في تلك المرحلة التي استمرت في روسيا وبلدان آسيا الوسطى الإسلامية الخاضعة لها أكثر من سبعين عامًا, فإن حمل البطاقة الشيوعية كان شبيها بحمل بطاقة الهوية. ذلك أنها كانت تؤلف مدخلا إلى الحياة العامة وإلى عالم الوظيفة الحكومية بوجه خاص, ودونها كان التهميش هو سيد الموقف. والدليل على أن تلك البطاقة كانت شبيهة ببطاقة الهوية, أو تدبيرًا تمليه الحكمة أو الضرورة أو القوة القاهرة, هو أنه فور سقوط النظام الشيوعي في العاصمة المركزية, تبخرت شيوعية الملايين, وعلى الخصوص شيوعية مسلمي بلدان آسيا الوسطى.

يبدأ رسول كتاب (داغستان بلدي) بكلمة معبرة قالها أبو طالب وهو شخصية وطنية تاريخية في بلاده: (إذا أطلقت نيران مسدّسك على الماضي, أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك), وبذلك يعلن رسول حمزاتوف هويته الحقيقية التي لا هوية له سواها, أو لنقل إنه يقدّم لمسلمي داغستان وبقية مسلمي بلدان آسيا الوسطى, ميثاقًا أو مانيفستًا بديلاً من مانيفست (يا عمّال العالم اتحدوا). ولا شك أن الشيوعي السوفييتي الذي قرأ هذه الكلمة في الصفحة الأولى من كتاب رسول, كما قرأ كتابه فيما بعد, وهو ترجمة مفصلة لهذه الكلمة, قد امتعض قطعا, واتهم المؤلف وكتابه معًا بالرجعية. ثم استفاق بعد ذلك (ليتفهّم) الجذور الإسلامية لهؤلاء (الرفاق) وليعذرهم, وليكتفي على الأرجح بما أمكن أن تقدمه هذه الأقوام الآسيوية المدجنة لقضية بلده الاتحاد السوفييتي.

كان رسول حمزاتوف خلاصة أجيال ونُخَب داغستانية إسلامية, كان لديها وعي كامل بـ(الجامعة الإسلامية), وبانتمائها الروحي إلى دار الإسلام. وكان والده بالذات, واسمه حمزة تساداسا, واحدًا من هذه النُخَب التي حلمت بالجامعة الإسلامية وكانت لها صلات مع وجهاء وأعيان ومثقفين في بلاد العرب وتركيا وفارس.

وكان حمزة كما يقول رسول في (داغستان بلدي), مثقفا ثقافة عالية باللغة العربية وآدابها, كما كانت له أشعار بها. ويبدو أن هذه الأشعار كانت تقع, في أكثرها, في باب الغزل, ومن أجل ذلك كان يجد حرجًا في إسماعها للآخرين, أو في نشرها, استنادًا إلى التربية المتزمتة التي خضع لها. فقد كان يقول: (لا يجوز للشاعر أن يكتب أشعارًا لا يمكنه أن يُسمعها لأمه أو لشقيقته أو لابنته). وقد بلغ حبه للغة العربية أنه كان يستخدمها في كتابة أدبه وشعره, أكثر مما كان يستخدم أي لغة أخرى, بما فيها لغته القومية. (كان يحبّ فيها حروفها ذاتها, أشكالها, ويرى فيها مواطن جمال. وكان لا يطيق الكتابة غير المتقنة. وذات مرة تلقى رسالة كُتبت بعربية غير متقنة, فأرسل إلى صاحبها قصيدة تسخر من ضعفه في العربية).

وباللغة العربية قرأ حمزة تساداسا تشيخوف وتولستوي ورومان رولان. وكانت العربية منتشرة في داغستان على وجه العموم. بعضهم كان يكتب بالعربية, لأنه لم تكن لداغستان أبجديتها, وبعضهم كان يكتب بها لأنها كانت تبدو له أغنى وأبهى من اللغات الداغستانية, بل إنه بالعربية كانت تُكتب كل الأوراق والمستندات الرسمية, وكل الكتابات على شواهد القبور كانت تُكتب بحروف عربية مزخرفة. وكان حمزة يجيد قراءة هذه الكتابات وتفسيرها.

ويتحسر رسول في كتابه على سنوات أعلنت فيها اللغة العربية من الرواسب البورجوازية, فعانى الناس الذين كانوا يقرأون ويكتبون بالعربية, وعانت الكتب, فُقدت مكتبات عربية كاملة كان جمعها بجهد عظيم علي بك جودي وجلال كوركماسوف. والأخير درس في السوربون بباريس, وكان يعرف اثنتي عشرة لغة, كما كان صديقا للكاتب الفرنسي الشهير أناتول فرانس. كان يجمع الكتب والمخطوطات العربية القديمة الموجودة في القرى الجبلية, ويدفع ثمنها سلاحًا وخيلاً وأبقارًا, وفيما بعد حفنة دقيق أو قطعة قماش. وفُقد الكثير من المخطوطات. يا للخسارة الفادحة التي لاتعوّض!

بهذه الكلمات التي نقلناها نقلا حرفيا من كتابه, يرسم رسول حمزاتوف صورة (داغستان العربية الإسلامية) - إن صح التعبير - عشية الثورة البلشفية. كانت داغستان قبل احتلالها من قبل جيوش القيصر الروسي, ولزمن طويل, جزءا من دار الإسلام, مثلها مثل بقية بلاد التركستان وما وراء النهر. كانت اللغة العربية منتشرة فيها ومعها الكتب العربية القديمة والحديثة. وبهذه الكلمة كانت النخب الداغستانية تكتب الأدب والشعر, وتراسل الأصدقاء في بلاد العرب وبلاد العجم. ولكن فجأة, وعقب دخول البلاشفة إليها بعد انتصار ثورة 17 أكتوبر لعام 1917, (تُعلن) اللغة العربية في داغستان من الرواسب البورجوازية, وعلى الأرجح لأنها لغة القرآن ولغة الإسلام.

لا يذكر رسول في كتابه مَن الذي أعلن اللغة العربية في بلاده, في مطلع القرن الماضي من الرواسب البورجوازية, ومَن الذي أحرق مكتبات ومخطوطات داغستان العربية. هو يُبقي الفعل مجهولاً, ولعله يترك نقله من المجهول إلى المعلوم لفطنة القارئ. ولكنه لايخفي حسرته على الخسارة الفادحة التي لا تعوّض بفقد تلك المكتبات العربية.

درس رسول حمزاتوف في موسكو بالروسية, ولكنه سيكتب شعره فيما بعد باللغة الآفارية وحدها, وهي إحدى لغات داغستان, و(بالشكل القومي الشائع فيها). وفي ذلك عبرة للكثير من شعرائنا الذين يظنون أن الشكل الشعري التقليدي لا يتلاءم مع الحداثة. فها هو شاعر تقدمي عاش قسما كبيرا من حياته في موسكو وتعرف عن قرب إلى تياراتها الثقافية, وما كان يمور فيها من أشكال وبدع جديدة, ومع ذلك فإنه رفض انطلاقا من اعتزازه بتراثه أن يكتب الشعر إلاّ حسب الأساليب الشعرية السائدة في بلاده: (أنا أيضا أرتدي اللباس الأوربي, ولم أعد ألبس قفطان والدي. لكني غير مستعدّ أن ألبس شعري لباسًا لا هوية له, أريد أن تأخذ أشعاري شكلنا, الشكل القومي الداغستاني). ويشدد على شيء واحد, هو أن الأدب (حين يتوقف عن التغذي بغذاء آبائه, ويتحول إلى أنواع أخرى مترفة غريبة, حين يغيّر أعراف شعبه وعاداته, لغته وخلقه, حين يخونها, يعتلّ ويذوي, ولا تستطيع كل الأدوية أن تقدّم له أي عون).

بعيدًا عن الغموض

ورفض, وهو الشاعر, أن تتسلل سُحُب الغموض الداكن إلى شعره وأدبه, وهو ما شاع في زمانه, ويشيع في زماننا الراهن: (أريد أن تكون أشعاري مفهومة بالنسبة لأمي ولأختي ولكل جبلي, ولكل إنسان يقع كتابي بين يديه. لا أريد أن أبعث فيهم الضجر, بل أن أحمل إليهم الفرح, إذا فسدت لغتي وأصبحت باردة وغير مفهومة, فسيكون هذا أفظع شيء في حياتي).

وكما كانت بوصلته الأدبية والشعرية بوصلة سليمة, كانت بوصلته الفكرية والسياسية بوصلة واقعية. وجد رسول, كما وجد والده من قبل, ومعهما مثقفو داغستان وأعيانها, (أن (أقدار داغستان الحزينة), كما يسمّيها تحتّم عليها الدوران في الفلك السوفييتي. وجدت داغستان نفسها إبان العصر القيصري بلدا لا مفر له من الخضوع للقيصر. وها هي تجد نفسها عشية الثورة البلشفية أمام قيصر آخر, ولكن بثوب مختلف.

وقد وجد الذين بقوا في داغستان, ولم يتركوها إلى الخارج, ألاّ مفر لهم من التعاون مع (الرفيق) القادم, على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه, بانتظار ظروف أفضل. وسنرى لاحقا أن رسول كان يبكي عندما يلتقي في الخارج بداغستانيين تركوا داغستان نهائيا ويحضّهم على العودة إليها. كان تراب داغستان يدعوه للبقاء مهما كانت الظروف. لذلك كانت غايته أن تتماسك داغستان, وأن تحصّن ذاتها وتتمسك بموروثها الثقافي والحضاري والديني, ولا بأس بعدها بوجود فروع للحزب الشيوعي فيها. فهذه الفروع هي ما يُقضى على المرء في أيام محنته بأن يراه حسنًا وهو ليس كذلك.

من الشواهد التي تعبّر عن دعوة رسول حمزاتوف أبناء بلده إلى الإيمان بوطنهم والمحافظة على ثوابته الوطنية والروحية والثقافية, ما رواه عن مواطن داغستاني كان عضوا في الحزب الشيوعي واسمه محمد حسن. كان محمد حسن مسلمًا, ولكنه كي يُرضي رؤساء خليته, وهم من الشيوعيين الروس, اسبتدل باسمه الشخصي محمد اسم ميخائيل, كما استبدل باسم والده حسن اسم جريجوري. وعندما بلغ الخبر والده حسن فقد عقله. أرسل وراءه وقال له:

- ثكلتك أمك! مع أني أنا الذي أعطيتك اسم محمد, فهذا الاسم أصبح ملكًا لك تستطيع أن تتصرف به كما تشاء. لكن مَن سمح لك أن تمسّني? مَن سمح لك أن تستبدل جريجوري بحسن, أنا أبوك? ومازلتُ على قيد الحياة, وأريد أن أبقى إلى الأبد (حسن)!

اعتزاز بالمقاومة

ويعتزّ رسول في كتابه أيما اعتزاز بتاريخ المقاومة الداغستانية ضد جيوش القيصر, وبرموز تلك المقاومة وعلى رأسها الإمام شامل والحاج مراد وأبوطالب. وينعت الروس الذين واجههم شامل بـ(بالأعداء). ويروي حكاية متوارثة تقول إن الأعداء أحاطوا بشامل في أيام شبابه, وبمعلمه القاضي محمد في فج غمرا, وفي قلعة حربية. قفز شامل من عَل على حراب الأعداء, وشق بخنجره دربًا له. فقد جرح خمسة عشر جرحًا آنذاك, لكنه هرب مع ذلك والتجأ إلى الجبال. الجبليون اعتقدوا أنه هلك, وحين ظهر في القرية سألته أمه التي كانت قد ارتدت ثياب الحداد عليه في دهشة وسرور:

- شامل, بنيّ, كيف بقيت حيّا?

وأجابها شامل:

- صادفتُ نبعا في الجبال.

وحين سمع أهالي الجبال, فيما بعد أن شامل إمامهم, وكان قد أضحى عجوزا, سقط من على ظهر ناقته في صحراء الجزيرة العربية ومات, قالوا وهم جالسون على عتبات بيوتهم في قراهم:

- لم يكن بالقرب منه نبع داغستاني!

ويروي أن والده حمزه كان يرقد ذات يوم في مستشفى الكرملين بموسكو. هناك تذكر أعشاب داغستان ومياهها, فطلب إلى أولاده أن يأتوه بماء من نبع صغير في جبال بوتسخار بداغستان, كلمة الأب قانون بالنسبة للابن, سافر الأبناء إلى داغتسان وتسلّقوا جبال بوتسخار وعثروا هناك على النبع, وأخذوا من مائه للشاعر الأفاري المريض الراقد في مستشفى الكرملين. (شرب والدي قليلا من الماء فبدا كما لو أن حاله تحسّنت. لا بل شفي. لكنه لم يعرف أنهم أخذوا في ذلك اليوم يحقنونه بدواء أجنبي جديد. ربما لم يشفَ بفعل هذه الوسائل الطبية التي أوجدها العلم العالمي فقط. وربما لم يشف بفعل الماء الآفاري وحده, وهو وسيلتنا الشعبية القومية وحدها. لكنه شفي بفعل هاتين الوسيلتين).

وفي كل مرة كان حمزة يمرض, يصف لنفسه دواءه الشافي وهو أحد ينابيع داغستان, يقول رسول: حين ألحّ عليه المرض مرة, دعاني إليه وقال:

- هناك دواء بتناوله تتحسن حالتي.

- وأي دواء هذا?!

في فجّ بوتسراب نبع صغير اكتشفته بنفسي, إليّ بجرعة ماء منه.

في اليوم التالي تأتي جبلية بماء من هذا النبع في جرّتها. يشرب والدي الماء وهو مغمض العينين:

- شكرا لك يا طبيبي....

لم نسأله من يقصد: الماء, الجبلية, النبع في الفجّ البعيد, أو وطنه الذي فيه هذا النبع.

إنها كلمات تحضّ على حب الوطن. ومثل هذه الكلمات تنتشر بكثرة في (بلدي).

يناجي رسول لغته الآفارية فيقول: (إيه يا لغتي الآفارية! أيتها اللغة الأم! أنت ثروتي, كنزي المحفوظ ليومي الأسود, ودوائي من كل العلل.

إذا وُلد الإنسان بقلب مغنٍ, لكن أبكم, فخير له ألا يولد. في قلبي كثير من الأغاني, ولي صوت. هذا الصوت هو أنت يا لغتي الأفارية الأم).

ويتحدث بحب عن مطارح صباه في قريته, وعن لوحة رائعة من الطبيعة يطل عليها بيت أسرته. هو يدرك أن في سويسرا, أو في نابولي, أماكن أجمل, (لكني حيثما كنتُ, وإلى أي جمال على هذه الأرض نظرت, أقارن ما أرى بهذه اللوحة الصغيرة من طفولتي, فتبهت أمامها كل جمالات العالم. ولو لم تكن لي, لسبب ما, قريتي وضواحيها, ولو لم تكن تعيش في ذاكراتي, لكان العالم كله لي صدرًا دون قلب, وفمًا لكن دون لسان, وعينين دون إنسانين, وعشّا لكن دون طير).

تمجيد للقيم الإنسانية

إن كل القيم التي يمجدها رسول حمزاتوف هي قيم وطنية وإنسانية وأدبية رفيعة وليست غير ذلك.

يقول إن لدى كل جبلي (أي داغستاني) تصوّرًا ما للإمام شامل, ولكن رسول يتصوره على طريقته. (في صباه أراه جاثيًا على ركبتيه على صخرة ملساء ورافعًا إلى العلاء يديه المغسولتين للتو في ماء نهر كويسو الآفاري, كما قفطانه, وشفتاه تتمتمان كلمة ما. بعضهم يؤكد أنه حين كان يهمس أثناء صلاته بكلمة (الله), كان الناس يسمعون كلمة (الحرية), وحين كان يهمس كلمة (الحرية) كانوا يسمعون: (الله)! وأراه شيخا على شاطئ قزوين يودّع داغستان إلى الأبد. إنه أسير القيصر الروسي, صعد إلى صخرة ورمق مياه بحر قزوين المزبدة. شفتاه تتمتمان (الوداع) بدلا من (الله) و(الحرية). يقال إن قطرات دمع شوهدت على خدّي شامل آنذاك. لكن شامل لم يبكِ أبدًا. ربما كانت هذه رذاذا من ماء البحر).

وتختصر بعض حكاياته عصورا من الأدب القاحل الميت, الذي ساد في بلدان كثيرة منها بلادنا العربية, باسم الأدب الملتزم وما إليه من الأسماء. من هذه الحكايات أنه رافق ذات مرة فرقة مسرحية إلى قرية جبلية نائية كان يعرف مسبقًا أنها تضم شاعرًا شيوعيًا (ملتزمًا).

عند هذا الشاعر ذي الكفاءة الشعرية المتواضعة حلّ رسول حمزاتوف ضيفًا وظل عنده طوال أيام مكوثه في القرية.

استقبله أصحاب البيت استقبالاً جيدًا حتى أُحرج, ولم يعد يعرف كيف يتوارى عن أنظارهم, ومنهم والدة الشاعر بطيبتها الحانية.

يضيف رسول: عندما كنت أهمّ بمغادرتهم, لم أجد من الكلمات ما أعبّر به عن شكري. وصدف أني كنت أودّع أمّ الشاعر حين لم يكن أحد في الغرفة. كنت أعرف أنه لاشيء أشدّ فرحًا للأم من كلمة طيبة تقال في ابنها. ومع أني كنت أنظر إلى قدرات ابنها الشاعر نظرة (واعية) جدًا, فإنني أخذت أطريه. فقلت لها إن ابنها شاعر تقدمي جدا, وإنه يكتب دائما في مواضيع الساعة الملحّة.

فقاطعتني أمه قائلة بحزن: قد يكون تقدميا, لكنه دون موهبة. قد تكون أشعاره تعالج مواضيع ملحّة, لكني أشعر بملل حين آخذ في قراءتها. فكّر يا رسول كيف يحدث الأمر. حين بدأ ابني يتعلّم نطق كلماته الأولى, التي لم يكن بالإمكان حتى فهمها, كنت أُسرّ بشكل لايوصف. لكنه الآن حين تعلّم لا أن يتكلم وحسب, بل أن يكتب أشعارًا, أشعر بالملل. يقال إن عقل المرأة في طرف ثوبها, مادامت جالسة فهو معها. لكن يكفيها أن تنهض حتى يتدحرج عقلها ويسقط على الأرض. هكذا ابني: مادام يجلس إلى المائدة يتغدّى, فأنت تراه يتكلم بشكل طبيعي, وأنا على استعداد لأسمع منه كل ما يقوله. لكنه في طريقه من مائدة الطعام إلى منضدة العمل, يفقد كل الكلمات البسيطة والطيبة, ولاتبقى عنده إلا الكلمات الرسمية الباهتة المملة.

ظل رسول حمزاتوف, بشخصه وشعره وأدبه, وفيّا لروح بلده وتراثه الإسلامي. ومَن يقرأ كتابه (داغستان بلدي) يشعر بأنه كتاب عربي منقول إلى الأجنبية وليس العكس, وذلك للقرابة الروحية التي يجدها فيه, كما هو نوع من الملاحم التي تختصر أمما أو مراحل تاريخية, تمامًا كالإلياذة عند اليونان, ومثيلاتها عند شعوب العالم القديم.

 

جهاد فاضل 




 





 





رسول حمزاتوف