قفزة علمية جديدة

قفزة علمية جديدة

منذ جاليليو ونيوتن انطلق العلم من التبسيط فأحرز نجاحات باهرة لكنه اصطدم في القرن العشرين بتعقد الظواهر التي يدرسها ونسبيتها واحتماليتها وفوضاها وعدم اليقين الذي يلفها, حتى ظهر أخيرا علم جديد يفتح بابا هائلا لتجاوز تلك العقبات بالكشف عن البرامج البسيطة التي تختفي وراء كل هذه الظواهر الغامضة.

تصادف أن اطلعت منذ نحو عامين على رسالة دكتوراه قدمها طالب الدراسات العليا الكويتي د.أحمد الدوسري عام 2001 لجامعة بوسطن, حول التنبؤ باختفاء طبقة القطران الأسمنتي التي غطت أكثر من 900 كيلو متر مربع في الصحراء الكويتية, نتيجة حرق 732 بئرا نفطية في سبعة حقول بترولية في حرب عام 1991. وكانت هذه الطبقة خليطا من رمل سطحي وحصي تتماسك معا على هيئة كتلة صلبة بواسطة قطرات البترول والسناج, والتصدي لدراستها يعتبر تحديا علميا نظرا لتعدد الشروط المناخية التي تؤثر عليها من درجة حرارة ورطوبة وأمطار ورياح, إنها ظاهرة طبيعية معقدة استعان د.الدوسري لدراستها بأحدث الطرق العلمية في التصوير بالأقمار الصناعية وتحليل البيانات ببرامج الكمبيوتر. وكان ضمن التقنيات التى لجأ إليها نموذج الآلية الخلوية cellular automata, ولم أكن أعرف وقتها أن ممن ساهموا في تطوير هذه التقنية عالم الفيزياء ستيفن وولفرام, الذي سيفاجئ المجتمع العلمي بابتكار نوع جديد من العلم يعتمد بشكل رئيسي على مفاهيم الآلية الخلوية.

وتأتي دراسة د.الدوسري لظاهرة القطران الأسمنتي مثالا لنجاح تطبيق هذه التقنية, حيث قام بتصنيف ميداني للظاهرة ما بين بحيرات نفط وقطران أسمنتي كثيف ومتوسط وخفيف وبقايا قطران أسمنتي ورمل, لمعرفة ما يناظرها في صور الأقمار الصناعية, بعد تقسيم تلك الصور إلى ما يشبه الخلايا وتحويل مدى سطوع الصور إلى قيم رقمية يمكن التعامل معها من خلال برامج الكمبيوتر, لحساب احتمالات اختفاء القطران الأسمنتي من الصحراء الكويتية. ويدخل في مرحلة من هذه الحسابات استخدام نموذج الآلية الخلوية لمحاكاة التغير في الواقع.

والآلية الخلوية منظومة رياضية تعبر عن المكان والزمان, حيث يتم تقسيم المكان إلى شكل يشبه شبكة ويتم تمثيل كل خلية في المنظومة الشبكية بقيمة حالة, وتتطور حالة كل خلية بمرور الوقت آخذين في الاعتبار تأثر حالة الخلية بحالات الخلايا المجاورة. وهذه الآلية مفيدة في دراسة الظواهر البيئية, لأنها تتيح نموذجا ديناميكيا يفسر التغيرات في هذه الظواهر.

العالم كمبيوتر عملاق

ما المفاجأة التي يقدمها ستيفن وولفرام في كتاب حديث له (نوع جديد من العلم) أثار جدلا في الأوساط العلمية? يصف وولفرام العلم الحديث الذي نعرفه بأنه علم تقليدي ويقترح علما جديدا لا يعتمد على مواجهة الظواهر في تعقدها وابتكار صيغ رياضية للتعبير عنها, ويستبدل بذلك برامج الكمبيوتر البسيطة التي تنتج شتى ألوان التعقد والفوضى ليفسر بها ما نلمسه جميعا حولنا في الحياة العادية من ظواهر فيزيائية وبيولوجية بالغة التعقيد.

يتصدر (نوع جديد من العلم) قائمة أحسن الكتب العلمية مبيعا, ويتوقع له الكثيرون أن يحدث انقلابا في المجالات العلمية المختلفة. ما الذي جعل هذا الكتاب على قمة الكتب الأكثر مبيعا خلال أيام من طرحه للتوزيع? ولماذا أصبح موضعا للجدل في المجتمعات العلمية? يقول المؤلف, وهو عالم فيزياء لم يتجاوز عمره 43 عاما, ويدعى ستيفن وولفرام, بجرأة يحسد عليها: إن العلم الذي نعرفه سار في طرق تتصف بالقصور منذ نحو ألفي عام حتى الآن. وهو قول ليس جديدا فهناك من تعودوا مهاجمة المنهج العلمي من منطلقات غير علمية, لكن في هذه المرة حصل القائل على احترام كثير من العلماء, حيث إن أسباب الثقة فيه قوية تماما.

وقصة حياة وولفرام, الذي ولد في بريطانيا ونشر أول بحث علمي له ولم يتجاوز عمره 15 عاما وهو طالب, تؤهله للنجومية بالمقاييس الإعلامية, حيث بدأ دراسة الفيزياء في جامعة أكسفورد ثم ترك الدراسة لأنه وجد المناهج سهلة لا ترضي عقليته الفذة, فعبر الأطلنطي باحثا عن تحديات أكبر, وحصل على الدكتوراه وعمره 20 عاما, وفي العام التالي حصل على جائزة ماك آرثر. وكانت المفاجأة التالية انسحابه من مجال البحث العلمي وتأسيس شركة برامج كمبيوتر (وولفرام للأبحاث). ولم يكن من طبيعته التفكير في الأشياء الصغيرة, فأنتج من خلال شركته برنامجا تحت اسم الرياضيات (ماثيماتيكا), صممه ليغطي التطبيقات في المجال الرياضي والرسومات وأشياء كثيرة أخرى. وحسب قوله فإنه قد صمم هذا البرنامج في 1986 للحصول على تقنية كمبيوتر تساعده على تتبع فكرته التي أوحت له بهذا النوع الجديد من العلم.

كان إنجازا عملاقا, حيث أدى برنامج وولفرام, الذي يعتبر وسيلة يومية يستخدمها علماء الرياضيات والفيزياء والمهندسون في كثير من أنحاء العالم, إلى تغيير جذري في طريقة إنجاز العمل في مجال الرياضيات وفي كيفية تدريسها في المستوى الجامعي. يضاف إلى ذلك أن هذا البرنامج قد جعل من وولفرام رجلا ثريا.

فماذا كانت مغامرته التالية? غنيمة أكثر أهمية بكثير: علم سيحدث انقلابات متتالية.

يتصور كثير من الناس العاديين أن العلم يبحث عن اكتشاف الحقيقة حول الطريقة التي يعمل بها الكون. ليس ذلك صحيحا, لأن الحقيقة لا يمكن التوصل إليها عادة, وفي أغلب الأحيان يأمل العلماء في مجرد تحسين فهمنا لأجزاء صغيرة من الكون. ومنذ إنجاز أرشميدس الذي يعود إلى نحو 2200 سنة ماضية, وحتى منذ تأسيس جاليليو ونيوتن وكثير من العلماء الآخرين للعلم الحديث, أنجز العلماء مهامهم بالاستعانة بصياغات على هيئة معادلات رياضية. وربما تكون معادلة أينشتين (ط = ك ع2) من أكثر المعادلات شهرة. وحيث تشير المعادلات العلمية إلى كيفية الترابط بين الأشياء, فإن معادلة أينشتين مثلا تصف لنا العلاقة بين الطاقة (ط) والكتلة (ك) وسرعة الضوء (ع).

وكانت ومازالت هذه الطريقة في معالجة الأمور العلمية ناجحة إلى حد بعيد, ونتج عنها كل التقنيات الراهنة, فأجهزة البث الإذاعي والتليفونات تعمل ومحطات الطاقة النووية تطلق الكهرباء في الأسلاك وتطير الطائرات وتصل صور التلفزيون إلى كل بقاع العالم, ووصل الطب الحديث إلى إطالة متوسطات الأعمار لدى كثير من سكان كوكب الأرض وأتاح لهم التمتع بحياة صحية, فمن أي شيء يتذمر وولفرام?

يقول إن العيب الرئيسي في طريقة ممارستنا للعلم هي عجزنا عن تفسير نطاق واسع من الظواهر العادية التي تقابلنا يوميا, تلك التي اعتاد العلماء على وصفها بأنها معقدة. مثال لهذا التعقيد انسكاب القهوة من القدر, والطقس, وطريقة نمو الكائنات الحية, لماذا يصف العلماء هذه الظواهر بأنها معقدة? لأن معادلاتهم لا يمكنها أن تتنبأ بالضبط بكيفية حدوث هذه الظواهر. فالقهوة مثلا تثير الغيظ عندما تنسكب وتسقط على المائدة, ولا يمكن أن يكون لأي زهرتين أبدا الشكل نفسه. والطقس مثال جيد لمدى الفوضى التي تنتشر حولنا. فتبعا للعلم التقليدي (كما يسمي وولفرام العلم الذي لا نعرف سواه حتى الآن) يتم تحديد حالة الطقس بواسطة القوانين الفيزيائية, بواسطة المعادلات التي تربط بين درجات الحرارة والضغط والرطوبة, وإذا استطعنا حل هذه المعادلات نصبح قادرين على التنبؤ بحالة الطقس غدا أو حتى الشهر المقبل. لكن أي شخص خطط لقضاء وقت خارج المنزل يعرف أن الأمور لا تسير على هذا المنوال.

لذلك عندما وجد وولفرام أن العلم عاجز عن تفسير مثل هذه الظواهر العادية, رأى أهمية أن نعيد التفكير في طريقتنا في معالجة هذه الأمور. فبدلا من وصف العالم بصيغ على هيئة معادلات تحدد لنا طريقة ارتباط الجوانب المختلفة في الظاهرة, يرى أن علينا أن نستخدم التطورات الراهنة في برامج الكمبيوتر. علينا أن نرى العالم كما لو كان كمبيوتر عملاقا.

وكما يعرف أي شخص أعد برامج على الكمبيوتر, تنتج البرامج البسيطة نسبيا نتائج معقدة أو حتى نتائج لا يمكن التنبؤ بها. ويقول وولفرام إنك بمجرد تأكدك من هذه الحقيقة البسيطة, سيكون الطريق إلى فهم علمي أفضل للعالم هو الكف عن محاولة تفسير الظواهر المعقدة الناتجة عن (برامج) الطبيعة واستبدال ذلك بفحص البرامج ذاتها عن قرب.

انبثقت في ذهنه هذه الفكرة خلال الثمانينيات, وكان قد نجح في بداية الثمانينيات في إنجاز سلسلة من الاكتشافات حول نظم الآلية الخلوية. ولأنه يعلم صعوبة أن ينجح في إقناع العلماء بالتخلي عن تقاليد تعود إلى مئات السنوات والسير في اتجاه جديد, كان عليه أن يتبنى مدخلا عاديا للعلم: تنظيم محاضرات ونشر أبحاث للدفاع عن فكرته. واستغل ميزة حصوله على ثروة حديثة للتفرغ وتطوير أفكاره حتى تصل إلى حد أن تكون مفاجأة صادمة للمجتمع العلمي.

ولم يكن أول من اتبع هذه الطريقة, حيث طوّر نيوتن نظرياته سرا, ونشرها بعد استكمالها كلها, وهي مقارنة أوردها وولفرام في كتابه الجديد. هل وولفرام نيوتن الثاني? وهل سيؤدي (نوع جديد من العلم) إلى طريقة جديدة للممارسة العلمية? من المبكر التنبؤ بالإجابة.

فلننظر إذن نظرة أكثر عمقا لما أنجزه وولفرام في كتابه الضخم الذي يتجاوز عدد صفحاته الألف صفحة.

يقول وولفرام إنه قد بدأ في 1994 مراجعة مشاكل العلم التقليدي فعثر على جوانب مهمة لم يتعامل معها هذا العلم بل حاول تجنبها. وبدأ محاولة حل ألغاز المشاكل العلمية التي ظلت بلا حل عدة قرون, وشجعه على ذلك نجاحه منقطع النظير في وضع الماثيماتيكا, فبدأ في جهد مماثل في تطوير مجالات علمية مختلفة. وراجع المنهجية التي استخدمها العلم لحل المشاكل القديمة, مطبقا منهجيته التي اكتشفها. والجزء المحوري في العلم الجديد التركيز على طبيعة سلوك البرامج البسيطة, ومعروف في خبرتنا اليومية من التعامل مع الكمبيوتر أن البرامج المستخدمة تم تصميمها لتؤدي مهام محددة, لكن وولفرام واتته الجرأة لكي يلقي على نفسه سؤالا: ماذا يحدث لو أننا بدلا من الاكتفاء باستخدام البرامج المعدة لأهداف معروفة, صممنا برنامجا دون مهمة مسبقة في تفكيرنا? وماذا سيكون سلوك هذا البرنامج? ولم يكن أمامه إلا تصميم برامج بسيطة وتشغيلها وملاحظة سلوكها. ويتكون البرنامج عند مستوى معين من مجموعة قواعد تحدد له أداءه عند كل خطوة.

وتلك القواعد كثيرة, إحداها قواعد الآلية الخلوية cellular automata, التي سبق له استخدامها والتي يمكن تمثيل سلوكها بأشكال مرئية. وحيث يتم تقسيم السطح المرئي إلى خلايا تبدأ الخطوة الأولى بخلية سوداء, وفي الخطوة التالية تصبح أي خلية سوداء إذا كان أي من الخلايا المجاورة لها سابقا سوداء. ويمكننا الآن كتابة هذه القاعدة: تكون الخلية سوداء إذا كانت سوداء سابقا أو كانت أي من الخلايا المجاورة لها سوداء في الخطوة السابقة.

ثم انتقل إلى شكل آخر من خلال فرض آخر: ماذا يحدث إذا اتبعنا قاعدة أخرى تجعل الخلية بيضاء إذا كانت الخليتان المجاورتان لها في الخطوة السابقة لونهما أبيض, وتجعلها سوداء لو كانت الخليتان المجاورتان لها في الخطوة السابقة لونهما أسود.

يعتبر النمطان السابقان من الأنماط البسيطة, لكن المفاجأة تنتظرنا في الشكل الثالث, إذا وضعنا قاعدة مختلفة بعض الشئ: ستكون الخلية سوداء إذا كانت جارتها السابقة على اليسار أو جارتها على اليمين سوداء, وليس كلاهما.

وإذا جعلنا الآلية الخلوية تعمل مزيدا من الخطوات فسنحصل على أنماط أكثر تعقيدا. لكن يمكن ملاحظة أن للنمط انتظاما محددا, ورغم تعقده يمكن أيضا ملاحظة أنه يتكون من قطع كثيرة على هيئة شبكة مثلثة, وكل جزء منه يحتوى على نسخة أصغر من النمط الكلي.

وعندئذ يبدو أننا قد فرغنا تماما من الاحتمالات الممكنة للقواعد. لكن هذا خطأ. هناك شكل آخر يوضح قاعدة أخرى تؤدي إلى سلوك معقد: انظر إلى كل خلية وجارتها اليمنى, إذا كان لونهما أبيض في الخطوة السابقة, فإن هذه الخلية تأخذ لون الخلية التي كانت تجاورها في الخطوة السابقة.

ما الذي وصلنا إليه حتى الآن: بدأنا هذا العمل بخلية مفردة, ثم أجرينا عليها القاعدة التي اخترناها, تركناها تعمل عدة خطوات, وكانت النتيجة المدهشة أنه رغم البداية البسيطة والقواعد البسيطة جدا حصلنا على نتيجة بالغة التعقيد, فمن أين أتى هذا التعقيد? بالطبع لم نضعه في البرنامج الذي صممناه. لم نستخدم سوى قاعدة بسيطة للآلية الخلوية, وبدأنا من حالة أولية بسيطة تحتوي على خلية واحدة. ورغم ذلك ظهرت لنا صورة بالغة التعقيد في سلوكها, حتى لو كان التعقيد يتضمن نوعا من النظام.

يرى وولفرام أن هذا هو التعقيد الذي نراه في الطبيعة من حولنا. والأمر, في رأيه, لا يحتاج في النظم البسيطة إلا إلى قواعد بسيطة للحصول على سلوك بالغ التعقيد, وهذا لا يبدو معقولا لأنه لا يتفق مع ما تعودنا عليه في تجاربنا اليومية, حيث نعتقد أن أي شئ معقد لا بد أنه تم بناؤه بطريقة معقدة. مثال لذلك: إذا نظرنا إلى آلة ميكانيكية معقدة فإننا نفترض عادة أنه تم تصميمها تبعا لخطط معقدة. وهذا الانطباع ناتج عن خبرتنا بالأشياء المصنوعة ومنتجات الهندسة, حيث تم تجنب مواجهة النظم المعقدة, وحيث نبدأ من نقطة اختيار السلوك الذي نريده للمنظومة, ونصمم منظومة تنتج هذا السلوك. ومن ثم فإننا نختار المنظومات التي يمكننا فهمها والتنبؤ بسلوكها, حتى لا نفاجأ بأن المنظومة تسلك بطريقة مخالفة لما نتوقعه منها.

لكن الطبيعة لا تسير تبعا لهذه القيود كما هو الحال في المنتجات الهندسية, وهكذا تنتشر في الطبيعة كل هذه النماذج المعقدة المبنية على قواعد بسيطة تماما.

لكل عصر علم يناسبه

ما الحل إذن? لدى وولفرام كثير من الحلول منها: لكي نكتسب القدرة على التنبؤ بالسلوك المعقد للأنظمة التي تنطلق من قواعد بسيطة وشروط أولية بسيطة, علينا أن نستعرض كثيرا من الأمثلة ليس فقط تلك التي تختص بالآلية الخلوية ولكن أيضا الناتجة عن آليات أخرى. ومن الشائع في تاريخ العلم أن التقنيات الجديدة هي سبب تطوير العلوم الأساسية, مثال لذلك أن تقنية التلسكوب كانت وراء علم الفلك الحديث, وكذلك الميكروسكوب بالنسبة للبيولوجيا الحديثة, ونجد حاليا الأمر نفسه, فتقنية الكمبيوتر قادت إلى نوع جديد من العلم الذي يتناوله كتاب وولفرام.

وحتى نقترب من فهم هذه الآراء الجريئة لوولفرام, نتناول مثالا أورده حول تدفق الموائع مثل الماء والهواء, وهو ما يمكننا ملاحظته مثلا عند تدفق الماء حول شيء صلب. في السرعات البطيئة نسبيا يتدفق الماء بسلاسة حول العائق, ومع زيادة السرعة تظهر منطقة تدفق بطيء للماء خلف العائق مع زوج من الدوامات. مع مزيد من سرعة التدفق, تتمدد الدوامات ثم فجأة, عند سرعة حرجة, تتحطم الدوامات في اتجاه التدفق وكلما تحطمت دوامة ظهرت أخرى ويكون هناك مسار ممتد من الدوامات خلف العائق. تكون تلك الدوامات منتظمة في البداية ومع زيادة سرعة التدفق يبدأ ظهور اضطراب على مسافة خلف العائق ثم يمتد إلى مسافة بعيدة خلفه. ومع زيادة السرعة لا يبقى هناك انتظام, مما يمثل فوضى شاملة. وهذا مجرد مثال لظاهرة اضطراب الموائع الشائع.

يتعامل العلم التقليدي مع هذه الظاهرة على أساس المعادلات الرياضية لكنه عاجز عن إعطاء تفسير مقبول لها. لكن وولفرام يقدم تفسيرا بالبرامج بالغة البساطة لهذه الظاهرة المدهشة, موضحا أن الموائع تتكون من عدد ضخم من الجزيئات التي تتحرك ويصطدم بعضها بالبعض الآخر. ويستعين هنا بقواعد الآلية الخلوية البسيطة ليدرس هذه الظاهرة على أساس أن عددا ضخما من الجسيمات يتحرك على شبكة ثابتة ويتصادم بناء على قواعد هذه الآلية, ليصل إلى البرنامج البسيط الذي يتحكم فيها.

وفي مجال البيولوجيا يعطي مثالا للتنوع الواسع لأشكال الكائنات, هذا التنوع المعقد الذي يمكن إعادته بأسلوب وولفرام إلى أشكال منتظمة بسيطة بينها تشابه كبير, كذلك الأمر بالنسبة للصبغات التي تعطي للحيوانات والنباتات تشكيلة واسعة من الألوان, حيث يتخصص في إنتاجها عدد قليل من الخلايا, ويمكن إعادة نمط توزيع هذه الألوان إلى أشكال تتبع برامج بسيطة.

في الرياضيات التقليدية والعلوم النظرية الراهنة يبدأ الباحث من منهجية تتناول في البداية السلوك المطلوب دراسته, ثم يحاول وضع أمثلة توضح هذا السلوك, لكن وولفرام لا يجد أن هذه الطريقة كانت ستتيح له ما توصل إليه, حيث استبدل بهذه المنهجية أخرى تعتمد على إجراء تجارب الكمبيوتر. وتوصل إلى أنه كلما كانت بنية برامج الكمبيوتر أكثر بساطة نحصل على نتائج ذات مضامين أساسية أكثر اتساعا. وتوصل أيضا إلى أنه رغم الكثرة الواضحة للأنماط الناتجة عن الآلية الخلوية من الواضح أنه يمكن تقسيمها إلى أربع فئات رئيسية: في الفئة الأولى يكون السلوك بسيطا جدا, وغالبا ما تؤدي كل الشروط الابتدائية إلى الشكل النهائي نفسه. ويكون هناك في الفئة الثانية احتمالات متنوعة للحالات النهائية, لكنها جميعا تتكون من مجموعة محددة من البنيات البسيطة التي إما أن تظل دائما هي نفسها أو تتكرر كل عدة خطوات. وفي الفئة الثالثة يكون السلوك أكثر تعقيدا ويبدو في كثير من جوانبه في حالة فوضى رغم ظهور بنيات منظمة على المستوى الأصغر. وتحتوي الفئة الرابعة على مزيج من النظام والفوضى, فتنتج بنيات محلية بسيطة تماما لكنها تتحرك وتتفاعل بعضها مع البعض الآخر بطريقة معقدة جدا.

تطبيقات على الطبيعة

قد يظن البعض أن كل هذه الأعمال التجريدية لا تتجاوز شاشة الكمبيوتر وليس لها فوائد عملية, لكن وولفرام يكرس أكثر من نصف كتابه لاستشراف الفوائد التطبيقية للنتائج التي توصل إليها ليؤسس علما جديدا واقعيا. ويرى أن إحدى الطرق المؤدية إلى هذا الغرض تتمثل في فحص أنماط سلوك الظواهر الطبيعية المعقدة ومقارنتها بالأنماط الناتجة عن البرامج البسيطة, سيان كانت تلك الظواهر هي أنماطا لنمو النباتات والحيوانات أو أنماط الصبغات المنتشرة بين الحيوانات والأسماك أو أشكال القواقع. وقد يكون هناك اختلاف على مستوى التفاصيل لكن تماثلا في الأطر العامة سيكون في انتظارنا. والمفاجأة أن كثيرا من سلوكيات الظواهر الطبيعية تشبه نظائرها في بعض البرامج البسيطة.

وعندما يفحص الإنسان الطبيعة ستكون في انتظاره إحدى المفاجآت المهمة أنه حتى في المنظومات بالغة التنوع من النواحي الفيزيائية والبيولوجية وجوانب مكوناتها المختلفة تكون أنماط سلوكها متشابهة إلى حد كبير, وهو ما وجده وولفرام في دراسته نفسها للبرامج البسيطة, فرغم تنوع قواعدها تكون في سلوكها العام متشابهة. ويرى أن الآليات الأساسية المسئولة عن الظواهر الطبيعية هي نفسها بشكل أو بآخر المسئولة عن الظواهر التي نشاهدها في البرامج البسيطة. ومن التشابهات التى يستعرضها وولفرام خلال دراسته للظواهر الطبيعية آليات الفوضى في الظاهرة وفوضى البيئة ومصادر التميز ومشكلة اتساق الظاهرة مع القيود الموضوعة عليها. ويتناول أمثلة في الحياة اليومية يمكن تفسيرها بالبرامج البسيطة التي يقترحها, مثل نمو البللورات وتحطم المواد. ويوسع مجال بحثه إلى علم الفيزياء ومشاكله الراهنة بهدف وضع أسس مدخل جديد لتناولها, مثل عدم الانعكاسية والقانون الثاني للديناميكا الحرارية وقانون حفظ المادة والطاقة والنموذج النهائي للكون والعلاقة بين المكان والزمان وتتالي الأحداث الكونية وكذلك نظرة النسبة والجسيمات الأولية والجاذبية.

يشير بعض النقاد لما توصل إليه وولفرام أمثال لورد روبرت ماي, الذي أنجز أعمالا مبكرة مهمة في مجال التعقد في البيولوجيا, وسير ميشيل بيري, الذي درس الفوضى في الفيزياء, إلى أنه رغم أن البرامج البسيطة التي درسها وولفرام في كتابه تبدو غالبا مماثلة لتلك التي نراها في الحياة الواقعية, فإنه ليس هناك أكثر من ذلك: إنها فقط تبدو متماثلة.

من الصعب بالطبع معرفة كيف ستتحول أعمال وولفرام إلى نماذج علمية شائعة, وقد تظل أفكاره مسارا علميا جانبيا لكن من المتوقع لها أن تكون مصدر إيحاءات مهمة لاكتشاف الطرق التي يعمل بها عالمنا. وإذا كان هذا الكتاب يدور حول (نوع جديد من العلم), فإنه هو نفسه يعتبر نوعا جديدا من الكتب, حيث يعرض إمكان الاستعانة ببرامج كمبيوتر, أعدها المؤلف أيضا لإلقاء مزيد من الضوء على الكتاب, تتيح للقارئ المهتم تطبيق برامجه حسب مجال اهتمامه وإجراء تجاربه الخاصة للمشاركة في تطوير النتائج التي توصل إليها وولفرام.

 

عزت عامر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





نماذج من الاشكال بالغة التعقيد في الأنظمة البيولوجية, من المتوقع أن تتبع برامج بسيطة





نماذج لاضطراب السوائل عند وجود عائق