ميخائيل نعيمة.. النهر المبدع ميشال خليل جحا

ميخائيل نعيمة.. النهر المبدع

يمتاز ميخائيل نعيمة, الأديب اللبناني المعروف وأحد كبار أدباء المهجر, عن سائر أدباء لبنان بأنه كان الأطول عمرًا, عاش 99 سنة, ولد سنة 1989 وتوفي 1988, وكان عمُره نهرًا فاض على الضفتين أدباً ونقداً.

سافر ميخائيل نعيمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة1911 ومكث فيها حتى سنة 1932. سنة 1918 انخرط في الجيش الأمريكي وذهب إلى ساحة الحرب في فرنسا, وفي سنة 1919 ترك الجندية وعاد إلى نيويورك ليشارك في تأسيس الرابطة القلمية سنة 1920 والمكوّنة من عشرة أعضاء على رأسهم جبران ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي وكان نعيمة مستشارًا لها.

وميخائيل نعيمة, كتب في فنون الأدب جميعها: في أدب المقالة, والسيرة, والسيرة الذاتية, والقصة, والأقصوصة, والرواية, والمسرحية, والنقد الأدبي, وفوق ذلك نظم الشعر وترك مجموعة شعرية صغيرة واحدة هي (همس الجفون) تحتوي على 30 قصيدة, بعضها لا يتعدى عدد أبياتها العشرة, وتقع في 130 صفحة إضافة إلى 14 ترجمة نثرية لبعض منظومات الشاعر الإنجليزية, نُشرت سنة 1943 في بيروت وتضم أربعة رسوم للناظم ورسمًا واحدًا لجبران - لم نكن نعلم أن نعيمة يتعاطى الرسم - نُظمت القصائد ما بين سنة 1917 وسنة 1930 وهي منشورة بحسب أقدميتها. لن أقف عند ما تركه ميخائيل نعيمة من مؤلفات وهي كثيرة ومتنوعة, كما ذكرنا, بل سوف أقف فقط عند (الغربال) كتابه الوحيد في النقد و(همس الجفون) كتابه الوحيد في الشعر, وتجدر الإشارة هنا إلى أن ميخائيل نعيمة ألف بالإنجليزية, كما فعل جبران وأمين الريحاني من أدباء المهجر.

الغربال

نُشر كتاب (الغربال) سنة 1923 في مصر ووضع مقدمته عباس محمود العقاد. وهو يضم مجموعة مقالات في النقد الأدبي ومقدمات لكتب ودواوين.

يقول العقاد في تقديمه للكتاب:

(وإني لا أعرف كيف يستحق النعيمي التهنئة بجرأته التي ظهر بها في مقالاته وصراحته التي تقدّم بها إلى غربلة الناس والكتب والآراء لأنني أعرف المستحدثة وما تجلبه على أصحابها من الغضب في بلاد العالم أجمع وفي بلاد الشرق خاصة.

أعرف أن ليس أضيع عندنا من مجترئ على تمزيق غلاف الأجنّة عن جوارحه واستنشاق هوائه بأنفه, وأن ليس أخسر صفقة من موازيننا من عمل داع إلى جديد, لأن أنصار الجديد قليل في كل جيل والفاهمين منهم لما ينصرون أقل من القليل) إلى أن يقول في خاتمة مقدمته:

(هبوا كتّابنا وشعراءنا العرب في الأقطار الأمريكية قد ذهبوا بالحرية اللفظية إلى أبعد من مداها, فهل ننسى لذلك هذه الحرية ومحاسنها ونجهل الجهل الذي لا مسوغ له فنغلق أبوابنا كلها دونها?? أليست هي التي فكّت عن قرائحهم قيود التقليد وأخرجتهم من مآزق الأوزان المعهودة والقافية العتيقة, وأفهمتهم حقيقة الأدب فافتنوا في الشعر وابتدعوا في أوزان النظم وساروا بالأدب على نهج الحياة والتقدم?? أليس لهذه الحرية فضلها المحمود وأثرها المرجوّ في آدابنا العربية ونتيجتها التي تزداد مع الأيام انتشارًا ونفعًا? بلى! ذلك حق لا ريب فيه).

يضم كتاب (الغربال) 22 مقالاً في نقد الشعر والأدب ويقع في حوالي 250 صفحة. أذكر أنني كنت في زيارة لميخائيل نعيمة في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي في منزله في (بسكنتا) سألته لماذا توقف عن الكتابة في النقد الأدبي - وكان قد مرّ حوالي ربع القرن على ظهور (الغربال) - فأجاب: (توقفت عن نقد الأدب وانصرفت إلى نقد الحياة).

في مقال عنوانه (المقاييس الأدبية في (الغربال) يقول إن المقاييس الأدبية تتناول الحاجات الأربع التالية:

أولاً: حاجتنا إلى الإفصاح عن كل ما ينتابنا من العوامل النفسية: من رجاء ويأس, وفوز وإخفاق, وإيمان وشك, وحب وكره, ولذة وألم, وحزن وفرح, وخوف وطمأنينة, وكل ما يتراوح بين أقصى هذه العوامل وأدناها من الانفعالات والتأثرات.

ثانيًا: حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة, وليس من نور نهتدي به غير نور الحقيقة, حقيقة ما في أنفسنا, وحقيقة ما في العالم من حولنا, فنحن وإن اختلف فهمنا للحقيقة, لسنا ننكر أن في الحياة ما كان حقيقة في عهد آدم لايزال حقيقة حتى اليوم وسيبقى حقيقة حتى آخر الدهر.

ثالثًا: حاجتنا إلى الجميل في كل شيء. ففي الروح عطش لا ينطفئ إلى الجمال وكل ما فيه مظهر من مظاهر الجمال. فإنا وإن تضاربت أذواقنا فيما نحسبه جميلاً وما نحسبه قبيحًا, لا يمكننا التعامي عن أن في الحياة جمالاً مطلقًا لا يختلف فيه ذوقان.

رابعًا: حاجتنا إلى الموسيقى, ففي الروح ميل عجيب إلى الأصوات والألحان لا ندرك كنهه. فهي تهتز لقصف الرعد ولخرير الماء ولحفيف الأوراق. لكنها تنكمش من الأصوات المتنافرة وتأنس وتنبسط لما تآلف منها.

الشعر والشاعر

يقول نعيمة: (هناك من ينظر إلى الشعر من جهة تركيبه وتنسيق عباراته وقوافيه وأوزانه, والآخر يرى في الشعر قوة حيوية, قوة مبدعة, قوة مندفعة دائمًا إلى الأمام)... إلى أن يقول:

(الشعر هو غلبة (النور على الظلمة, والحق على الباطل, هو ترنيم البلبل ونوح الوِرْق, وخرير الجدول وقصف الرعد, وهو ابتسامة الطفل ودمعة الثكلى, وتورّد وجنة العذراء وتجعّد وجه الشيخ, هو جمال البقاء وبقاء الجمال. الشعر - لذة التمتع بالحياة, والرعشة أمام وجه الموت, هو الحب والبغض, والنعيم والشقاء, هو صرخة البائس وقهقهة السكران ولهفة الضعيف وعجب القوي. الشعر, ميل جارف وحنين دائم إلى أرض لم نعرفها ولن نعرفها. هو انجذاب أيد لمعانقة الكون بأسره والاتحاد مع كل ما في الكون من جماد ونبات وحيوان, هو الذات الروحية تتمدد حتى تلامس أطرافها الذات العالمية. وبالإجمال, فالشعر هو الحياة باكية وضاحكة, وناطقة وصامتة, ومولولة ومهللة, وشاكية ومسبّحة, ومقبلة ومدبرة).

هناك قوم يرون أن غاية الشعر محصورة فيه ويجب ألا تتعداه (نظرة الفن لأجل الفن). وآخرون يرون أن الشعر يجب أن يكون خادمًا لحاجات الإنسانية وإنه زخرفة لا ثمن لها إذا قصّر عن هذه المهمة. وهو يرى أن الشاعر فيلسوف ومصوّر وموسيقي وكاهن. مصوّر - لأنه يقدر أن يسكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام. وموسيقي - لأنه يسمع أصواتًا متوازنة حيث لا نسمع, نحن سوى هدير وجعجعة. والشاعر كاهن لأنه يخدم الحقيقة والجمال.

وهو يفرّق بين الشاعر والنظّام: فالشاعر لا يأخذ القلم في يده إلا مدفوعًا بعامل داخلي لا سلطة له فوقه.

ثم يقول (ص116): (فلا الأوزان ولا القوافي من ضرورة الشعر, كما أن المعابد والطقوس ليست من ضرورة الصلاة والعبادة. فرب عبارة منثورة جميلة التنسيق, موسيقية الرنّة كان فيها من الشعر أكثر مما في قصيدة من مائة بيت بمائة قافية).

إذن إنه لا يرى في الوزن والقافية ضرورة للشعر ولكنه لم يطبّق ذلك على قصائده في (همس الجفون). بل إنه يسخر من موضة (نظم) الشعر فيقول (ص119-120):

(وأصبحنا نتراسل نظمًا, ونتصافح نظمًا, ونشرب نظمًا, ونأكل (الكبّة) نظمًا, ونعمّد أولادنا نظمًا, ونزوّجهم نظمًا, ونستقبل أصدقاءنا نظمًا, ونودّعهم نظمًا, ونهنئهم بعيد أو بمركز أو بمولود نظمًا. إلى أن لم يبق في حياتنا ما ليس منظومًا سوى عواطفنا وأفكارنا).

فهو هنا يهزأ من تسخير الشعر للمناسبات كما كانت تقضي التقاليد والأعراف, إلى أن يقول: (فانقلب الشاعر بهلوانًا, وأصبح الشعر ضربًا من الحلج والجمز والمشي على الأسلاك والانتصاب على الرأس ورفع الأثقال بالأسنان ولفّ الرجلين حول العنق. ومن المضحكات المبكيات أن مثل هذه الحركات البهلوانية كانت ولاتزال تعرض في سوق آدابنا كـ(شعر). وأربابها كانوا ولايزالون في مقدمة الشعراء عندنا, والشعر براء منها ومنهم).

ومن المعروف عن شعر ميخائيل نعيمة أنه خال من شعر المناسبات التي غرق فيها الشعراء الذين عاصروه.

وفي تقديمه لديوان الشاعر المهجري صديقه نسيب عريضة (1887-1946)(الأرواح الحائرة), يتابع الكلام حول المقاييس التي يقيس بها الشعراء فيقول (ص129-130):

(هناك شعراء إذا قرأت لهم قصيدة فكأنك قرأت كل ما نظموه وما سينظمونه, هؤلاء هم شعراء الزحافات والعلل. ومن يطلب في نظمهم شعراً كمن يبتغي عسلاً من البصل.

ومنهم من تطالع لهم دواوين بكاملها فلا يستوقفك فيها سوى قصيدة أو قصيدتين أو بضعة أبيات مبعثرة هنا وهناك تبين رُتقًا جديدة على أثواب بالية. هؤلاء هم شعراء المصادفات. والشعر فيما ينظمون كقبضة من تبر في ربوة من تراب.

غير أن من الشعراء من لا تقرأ لهم مطلعًا حتى يستهويك ويستغويك فتراك في لحظة, وعن غير قصد منك, متنقلاً من بيت إلى بيت ومن قصيدة إلى قصيدة. كأنك قد دخلت قصرًا سحريًا كل مقصورة فيه قصر مستقل بذاته, وكل باب يؤدي بك إلى باب. هؤلاء هم الشعراء الذين في شعرهم مدى).

ضفادع الأدب

يقول الدكتور محمد مندور (1907-1961) في كتابه (النقد والنقاد المعاصرون):

(شنّ ميخائيل نعيمة في (غرباله) حملات قوية عنيفة على أنصار الأدب التقليدي ومَن يسمّيهم ضفادع الأدب الذين كانوا ولايزالون أحيانًا يواصلون النقيق كلما عثروا بتجديد في اللغة ووسائل تعبيرها).

إلى أن يقول (ص41): (ومشكلة أخرى خطيرة عرض لها الناقد ميخائيل نعيمة في (غرباله) هي مشكلة اللغة حيث أخذ يهاجم في مقاله (نقيق الضفاضع) الغربال (ص90-106) الأدباء والنقاد المتزمتين في اللغة وقواعدها وعلومها, ويرى في تزمتهم هذا ما يشبه نقيق الضفادع. وعنده أن اللغة ما هي إلا مجرد رموز كغيرها من الرموز التي استخدمتها ولاتزال تستخدمها الإنسانية كوسيلة للإفصاح عمّا يختلج في النفس من فكر وإحساس, وحسبها أن تستطيع أداء هذه الوظيفة, بل من الخيّر تبسيط تلك الرموز إلى أقصى حدّ مستطاع, لأنها كلما ازدادت تبسيطًا ازدادت قدرة على تحقيق وظيفتها في نقل الفكر والإحساس من نفس إلى نفس).

واضح أن ميخائيل نعيمة يفضل اللغة الحيّة والألفاظ المألوفة السهلة على اللغة الحوشية الميتة المحنّطة في بطون المعاجم.

وهو يلخص في كتابه (دروب) في مقال عنوانه (ماهية الأدب ومهمته), رأيه في مستقبل الأدب العربي فيقول: (والأدب في دنيا العرب ما بلغ بعدُ أشدّه ولن يبلغه حتى تكون لنا أمور ثلاثة هي: لغة سهلة القيادة, وأمة لا تعاني - في جملة ما تعاني - مُركّب النقص, وحرية الكلمة).

ولكن نعيمة صاحب (الغربال) قد غيّر رأيه في النقد ودور الناقد. يقول في محاضرة ألقاها سنة 1956 في مؤتمر الأدباء العرب الثاني بدمشق:

(فالعبقرية الحقّة تشق طريقها لا بما يقوله فيها مادح أو قادح. وهل في استطاعة نُقاد العرب مجتمعين أن يخلقوا متنبيّا واحدًا أو أن يحولوا دون خلقه? أم هل في استطاعة جميع نقاد الفرنجة أن يأتونا بشكسبير آخر? وإذا قام شكسبير آخر فهل في مستطاعهم أن يطفئوا الشعلة التي في صدره? ولو أن كلّ من في الأرض من نقدة حاولوا أن يجعلوا من شُويعر شاعرًا ومن كويتب كاتبًا, أو أن يسدوا السبيل على الكويتبين والشويعرين فلا يقتحمون حومة الأدب, لباءوا بالفشل من غير شك. أما كبار الكتاب والشعراء فقد خلفوا نقدة كثيرين ما بين كبير ومتوسط وصغير, مثلما خلفوا الكثير من المقلدين والطفيليين).

إلى أن يقول:

(ومن الأفضل للناقد أن يهتم بنقد ما ينتج بدلاً من الاهتمام بنقد ما ينتجه الغير). ولكن هل يلغي هذا وظيفة الناقد? الذي جعله في الغربال (كالصائغ يرد للأشياء قيمتها الحقيقية فيسمي الذهب ذهبًا والنحاس نحاسًا).

نعيمة الشاعر

يضم ديوان (همس الجفون) 44 قصيدة, - لميخائيل نعيمة قصيدة (مَن أنتِ) لم تنشر في (همس الجفون), نشرت في السائح 24 أغسطس 1922. ثم أعاد نشرها في (سبعون) (ص 482) - بعض قصائد (همس الجفون) نظمها بالإنجليزية ثم نقلها إلى العربية نثرًا. وهناك قصيدة واحدة نُظمت أصلاً بالروسية هي (النهر المتجمّد) نظمها سنة 1910 عندما كان في روسيا, ثم عرّبها في نيويورك سنة 1917. في خاتمتها الروسية يتوجه إلى روسيا والشعب الروسي وخاصة إلى العامل والفلاح الروسيين ويتساءل هل سيتخلّصان من الظلم الذي يكبّلهما كما يكبّل الجليد مياه النهر? وأما في خاتمتها العربية فيتوجه إلى مخاطبة قلبه حيث يقول:

يا نهر ذا قلبي, أراه كما أراك, مُكبّلاً.
والفرق أنك سوف تنشط من عقالك, وهو لا.

وفي سنة 1930 توقف نعيمة عن نظم الشعر والسبب - كما يقول هو - أن الشعر يضيق في نقل آفاق تفكيره بعد أن اتسعت فانتقل إلى النثر.

في (همس الجفون) يطرح الشاعر تساؤلات فلسفية ووجودية فيذكر الخالق والكون والإنسان. والولادة والموت وما بعد الموت, الفكر والعقل, القلب والنفس, الخير والشر, التفاؤل والتشاؤم, الشك واليقين, - هذه الثنائية التي فُتن بها نعيمة وسواه من أدباء المهجر وخاصة جبران ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي - وعالجها من ضمن إيمانه بالتقمّص وبوحدة الوجود. الشعر عنده لغة النفس, والشاعر هو ترجمان النفس.

في شعره تتجلى عناصر الطبيعة الأربعة: النار تتمثّل بالقوّة التي تدل على الحياة. الماء يتمثّل بالمطر والنهر والبحر الذي نسمع صوته ونراه. الهواء يتمثل بالريح التي نشعر بها ولا نراها. والتراب الذي تنحلّ فيه الأجساد بعد الموت.

وهو يركز على المضمون ويهمل الشكل.

عالج مواضيع فكرية وما ورائية وإنسانية وصوفية. وهو يؤمن بالتقمص, يفضل القلب على العقل, كل ما في الطبيعة ثمين وشريف, ولكن أثمنه وأجمله وأشرفه على الإطلاق هو الإنسان.

فكرُ نعيمة في قصائده (همس الجفون) يمتح من المسيحية والبوذية وتعاليم لاوتسو وحكماء الهند ومن الشعر الصوفي والإيمان بوحدة الوجود.

والشاعر يخلو مع نفسه ويحاول سبر أغوارها وفهم كنه أسرارها, يعيش مع أفكاره وهواجسه وأحلامه يناجي ربه الذي يراه في كل ما في الطبيعة من تناقضات, يعيش في قلق روحي, يرى أن سر الإنسان كامن فيه. في (همس الجفون) نسمع صوت الشاعر يتحاور مع ذاته يطرح أسئلته التي لا تنتهي.

في قصيدة (من أنت يا نفسي) يتساءل:

من أنت يا نفسي: هل جئت من أمواج البحر? أم من الرعد انحدرت? أم من الريح, أم من الفجر انبثقت أم من الشمس هبطت أم كونت من الألحان? فإذا هي من كل ذلك لأنها فيض من الله.

ولكن الشاعر بدل الصدق يجد الكذب وبدل العلم يجد الجهل وبدل الإيمان يجد الكفر. والموت محتّم والناس قبور تدور كما قال المعري قبله بألف عام.

بيد أن ذمّ الأيام لا ينفع الإنسان لأنه متروك لقدره, نهايته الموت. أمضى عمره يبحث عن سرّ الوجود. في البحر سيبقى المد والجزر, وفي الناس سيبقى الخير والشر, وهو يرى أن الناس ليسوا بحاجة إلى سنة جديدة, تزيد سنة إلى أعمارهم, بل هم في حاجة إلى ولادة جديدة. الناس لاهون يخلطون بين الحب واللذة.

وفي قصيدة (أوراق الخريف) التي يوفق الشاعر في أن يسبغ عليها غنائية عذبة, يخاطب أوراق الخريف التي تتناثر والتي ترمز إلى حياة الإنسان الذي يشيخ ويموت ويعود مثلها إلى التراب إلى حضن الطبيعة. يقول في مطلعها:

تَنَاثَري تَنَاثَري يَا بَهْجَةَ النَّظَرْ
يا مَرْقَصَ الشَّمس ويا أرجوحةَ القَمَرْ
يا أَرْغَن الليل ويا قيثَارةَ السَّحَرْ
يا رَمْزَ فَكرٍ حائرٍ ورسمَ روحٍ ثَائِرْ
يا ذكْرَ مجدٍ غابرٍ قَدْ عَافَكِ الشَّجَرْ
تــنـــــــــاثــري تــنـــــــاثــري


يقول مندور في كتابه (النقد والنقاد المعاصرون) عن (همس الجفون):

(فوق كل ذلك فإنني قد أخذت أحس كلّما توثّقت صلتي الروحية بميخائيل نعيمة وأدبه أن مصدر ما سميته في كتابي (في الميزان الجديد), بالهمس في شعره وفي شعر عدد من إخواننا شعراء المهجر, إنما هو روحانية المسيحية وما في كتبها المقدسة من شعر مرهف هامس, حتى لنراه هو نفسه يختار لديوانه اسم (همس الجفون) وذلك لأن شعره يقع في النفس موقع الأسرار التي يتهامس بها الناس, يؤنس النفس ويشعرها بالواجب الوطني همسًا دون خطابة ولا تشدّق, والهمس عندي إحساس بالأدب المصوغ من الحياة كقطعة منها).

يرى الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد نجم أن نعيمة استفاد في نظم قصائده من الأغاني اللبنانية حيث يقولان: (إن الأغاني الشعبية في لبنان, هي التي أكسبت شعر نعيمة هذا الطابع, حتى لنجد في بعض قصائده اتباعًا للحن الذي استقر في نفسه من أغاني وطنه).

في كتابه (في الميزان الجديد) يتناول الدكتور محمد مندور قصيدة (أخي) لميخائيل نعيمة المنشورة في (همس الجفون) كنموذج للشعر المهموس. ومصطلح (الشعر المهموس) استوحاه مندور من مجموعة نعيمة (همس الجفون) ليدل على نمط جديد من الشعر هو ضد الشعر (الخطابي) أو شعر (الضجيج) و الشعر (المنبري).

يقول: (الهمس في الشعر ليس معناه الضعف. فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجًا من أعماق نفسه في نغمات حارة. ولكنه غير الخطابة التي تغلب في شعرنا فتفسده, إذ تبعد به عن النفس, عن الصدق, عن الدنو من القلوب. الهمس ليس معناه الارتجال فيتغنى الطبع في غير جهد ولا إحكام صناعة... والهمس ليس معناه قصر الأدب أو الشعر على المشاعر الشخصية, فالأديب الإنساني يحدثك عن أي شيء يهمس به فيثير فؤادك).

ينحاز مندور إلى ميخائيل نعيمة وزملائه من شعراء المهجر وأدبائه ويرى فيهم مستقبل الأدب العربي فيقول في ذلك:

(والآن قد يتساءل القارئ: لِمَ استطاع شعراء المهجر ما لم يستطعه غيرهم? وجوابي هو: لأنهم قد يكونون من بلاد تحرك مناظرها الجبلية من الخيال ما لا تحركه السهول, ومن جنس يشهد له التاريخ بالنزوع إلى المغامرة والتوثب. ثم إن غربتهم بأمريكا وكفاحهم من أجل الحياة قد أرهف حسهم وقوّى من نفوسهم.

وأخيرًا - وهذا هو السبب المهم - لأنهم قوم مثقفون, قد أمعنوا النظر في الثقافات الغربية التي لا غنى لنا اليوم عنها, وعرفوا كيف يستفيدون منها بعد أن هضموها في لغاتها الأصلية. فهم إذن ليسوا كأولئك الذين يسرفون في الغرور عن جهل وكسل, ظانين أن الأدب في متناول كل إنسان وأن كل كلام منظوم شعر. الثقافة هي التي تشع في ألفاظ هؤلاء الشعراء, وإنك لتقرأ الجملة لهم فتحس أن خلفها ثروة من التفكير والإحساس.

قلت فيما سبق إن شعراء المهجر يصدرون عن قلب فيه لهفة إلى الله, ولو أنني قلت إنهم متصوفون لما عدوت الحق, فالتصوف ليس إلا وقدة في الإحساس, كل شعور قوي تصوف مهما كان موضوع ذلك الشعور).

ناسك الشخروب

تقول الدكتورة ثريا ملحس في كتابها (ميخائيل نعيمة الأديب الصوفي):

(تتجلى أخلاق نعيمة الصوفية في مقاييسه النقدية للأدب والأديب, وتلك الأخلاق تجلّت في إيمانه بالإنسان, وبالله, وفي الفيض الإلهي ووحدة الوجود, والحب والمحبة, والحرية, والمعرفة, والمجاهدة, وفي قوى الإنسان, والفضائل الإنسانية كالعفة والطهارة والجمال والكمال, والصدق والإخلاص, والحق والحقيقة, والعدل والمساواة, والصبر والقناعة, واللاعنف والسلام, وأكثرها ظاهر بوضوح في كل ما خطه قلمه).

وخلاصة القول إن ميخائيل نعيمة - (ناسك الشخروب) كما لقبه الأديب توفيق يوسف عوّاد - يرى أن الإنسان هو محور الأدب وأن الحياة والأدب توأمان لا ينفصلان. وفي نظره أن الأدب الحق يهدف إلى بناء الإنسان بما اشتملت عليه حقيقة النفس من فكر وانفعال أمام الحياة وأسرار الوجود. والإبداع عنده إنما هو تعبير جميل صادق كما أنه فعل حرية لا تمليه نفعية ولا يقيده تقليد أو دعائية خارجة عن توخّيه التعبير عن معاناة الإنسان لتجاربه في الحياة كما يحسها وينفعل بها.

وهو لم يشأ في (غرباله) أن يضع نظرية نقدية متماسكة بل هي خواطر وآراء ساقها في مقالات متعددة عبّر فيها عن رأيه ونظرته إلى الشعر والأدب وكيف يجب أن يكون فتحدث عن ماهية الشعر وغايته وفرّق بين الشاعر والنظام. ولم يتوسع في شرح (الصورة) الشعرية ووحدة القصيدة والخيال الشعري الخلاق وما إلى ذلك.

ولقد استطاع في (همس الجفون) أن يقول شيئًا جديدًا وأن يجعل الشعر قادرًا على تناول مواضيع جديدة بأسلوب مميّز. ومن هنا كان خطوة نحو التجديد الذي طرأ على الشعر العربي فيما بعد. خرج من وحدة البيت إلى وحدة القصيدة وأبقى على الوزن والقافية ونوّع فيهما.

ابتعد ميخائيل نعيمة عن شعر المناسبات كالمديح والهجاء والرثاء وما إلى ذلك من آفات أساءت إلى الشعر العربي. وإن يكن لم يحدث ثورة في الشعر العربي - وأحدثها فيما بعد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وهي الخروج على عمود الشعر وابتداع الشعر الحر أو شعر التفعيلة. فقد مهد دون شك للتجديد ولمفهوم جديد للشعر.

يقول الدكتورعبدالحكيم بَلْبَع في ذلك:

(ومهما يكن الأمر, فإن الشيء الذي نريد أن نقررّه هو أن الأشكال الصياغية العديدة التي استخدمها شعراء المهجر, كانت مرحلة جيدة من مراحل التطور الواضحة من موسيقى الشعر العربي لم يسبق لها مثيل في أي مرحلة من مراحله التاريخية, وأنها بهذا الاعتبار قد شكلت جانبًا مهمًا من حركة التجديد الضخمة التي عرفها الشعر العربي على أيديهم).

وخير ما نختم به ما قاله هو عن مجموعه (همس الجفون):

(تنهج المجموعة نهجًا جديدًا, إن من حيث تعدد القوافي في القصيدة الواحدة, أو من حيث تزاوج الأوزان أو من حيث الموضوع. ففيها الغزل - ولكن من غير ذكر الخدود والنهود والعيون والجفون, والوصل والصدّ, والعقاب والعذاب, وفيها الفرح - ولكن من دون الرقص والقهقهة. وفيها الحزن - ولكن بغير التفجع والدموع, وفيها الفلسفة, ولكنها فلسفة تساوقها الموسيقى, ويلطّف من جفافها تعاقب الظلال والأنوار.

هذا الشعر لا يصخب, ولا يضج, ولا يتبجّح, ولا يلعب بالشموس والأقمار, بل يسير إلى هدفه, سير الجدول المطمئن, الهادئ إلى البحر).

 

ميشال خليل جحا