رواد الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية

رواد الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية

السؤال الأهم في موضوع ريادة الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية هو: هل يمكن أن نطلق على الجيل الأول في الحركة التشكيلية بالمملكة العربية السعودية رواداً?

لا شك أن الإجابة ستتفاوت عن هذا السؤال بدور كل فنان, وبمقدار ما قدمه لهذه الحركة التي ظهرت خلال الستينيات بشكل أوضح, فالظروف التي توافرت للبعض لم تتوافر للبعض الآخر, وقدر مواجهة هذه الظروف قد تختلف من شخص لآخر, إلا أن الفنان حينها كان أمام واقع صعب أو أقرب إلى الصعوبة بقرار الانتساب إلى الفن التشكيلي في وقت كانت النظرة إلى هذا الفن يشوبها كثير من الإشكال والمجهول. كما أن التخصص في مجال الرسم يعني أنه لا وظيفة للدارس, إلا أن التربية الفنية والديكور هما ما اتجه إليهما المبتعثون للدراسة خارج المملكة العربية السعودية, وكانا المجالين الوحيدين لضمان مستقبل وظيفي. ولم تتوافر ظروف الابتعاث للكل, فرضوي مثلا أُلحق بعد عام ضمن المبتعثين عن طريق الدولة, بالمقابل فمحمد السليم ابتعث عن طريق وزارة الإعلام, وكان حينها موظفا في التلفزيون كمنفذ ديكور ورسام خلفيات, أما عبدالجبار اليحيا فإن دراسته الخارجية المحدودة كانت في تخصص آخر, وأخذ الفن كهواية, والتحقت صفية بن زقر بدراسات حرّة في مصر على نفقتها الخاصة, وكان وضعها المادي الأسري ميسورا كما هو الحال عند منيرة موصلي التي واصلت دراستها الجامعية في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة.

وكذا هو الحال عند نبيلة البسام التي درست على نفقة أسرتها الخاصة في الجامعة الأمريكية بلبنان وبعض المعاهد والكليات في الولايات المتحدة الأمريكية.

راسم... رساماً

يعتبر محمد راسم أقدم الأسماء التي ظهرت في ساحة خالية من نشاط تشكيلي معروف أو مُوثّق. (كنت كما أعتقد في الثامنة من عمري بعد الحرب العالمية الأولى عام 1914 - 1918م ولا أعلم بالضبط تاريخ ميلادي, لأن وقع الحرب كان قاسياً على عائلتي في الطائف مكان مولدي), يقول محمدراسم, ومضيفا: (بعد الحرب واصلت في المدارس الهاشمية آنذاك الدراسة التي كنت قد انقطعت عنها, وبعد ثماني سنوات كان ليس فيها من المدارس ما يزيد على المستوى المألوف الذي استمر سنين في العهد السعودي قبل أن تخضع الدراسة في البلاد للنظام الحالي), وتنقل صحيفة (عكاظ) السعودية أن محمد راسم عمل موظفاً في البنك الهولندي بجدة عام 1928 كاتباً حتى عام 1933م وهو العام الذي سافر فيه إلى تركيا, فدخل معهد الفنون الجميلة لأربع سنوات كان خلالها - وفي فترات متقطعة - يقوم ببعض الرسوم في القسم الجينوكولوجي في جامعة استانبول تحت إشراف الأستاذ ويلهلم ليبمان, وفي العام 1938, وهو عام ولادة الفنان عبدالحليم رضوي عاد إلى جدة ليعمل في إحدى الشركات, ثم ينتقل بعدها لأكثر من وظيفة.

في واحدة من رسومات محمد راسم يتبين مظهر اجتماعي في منطقة الحجاز, وفيه يرسم الفنان مقهى شعبياً تظهر معه جلسة في الهواء الطلق, يتناول رجال - خلالها - ما يعرف بـ (الشيشة) والشاي, ونرى في طرف الرسمة سيارة, وفي الوسط جروا صغيرا, الخطوط في هذا العمل تؤكد قدرة راسم الفنية, خطوط بسيطة وموحية, لا يهتم بالتفاصيل قدر حرصه على إيصال المعنى والفكرة, ولعل في هذا العمل أيضاً حسا كاريكاتيريا أو نقديا واضحا.

(يعتبر 1326هـ/1908م أقدم إشارة لوضع التربية الفنية في التعليم بمكة المكرمة, فقد كانت مادة الرسم ضمن الخطة الدراسية للمدرسة الخيرية العارفية التي أسسها الشيخ محمد حسين الخياط بمكة المكرمة), كما كانت مادة الرسم ضمن مناهج المدرسة الناصرية الابتدائية بالمدينة المنورة حتى عام 1354هـ - 1935م, وكانت تدرس الحرف التقليدية لطلاب مدرسة العلوم الشرعية التي أسسها الشيخ أحمد فيض أبادي عام 1340هـ - 1921م, وأُدخلت مادة الرسم في السنة الإعدادية والسنوات الأربع الأخرى في أول مدرسة ثانوية بمكة المكرمة).

قرية رضوي

أما العام 1377هـ - 1957م فهو عام مهم في مسيرة التربية الفنية في المملكة العربية السعودية ففيه تمّ الاعتراف بهذه المادة داخل الخطة الدراسية, وبالتالي فمن الطبيعي أن تقام المعارض الجماعية لطلبة المدارس, ومن خلالها ظهر عبدالحليم رضوي كطالب متفوق في معرض أقيم عام 1959م, وفاز فيه بالجائزة الأولى.

يذكر رضوي أن حركة نشطة ظهرت بين بعض زملائه في المعهد العلمي السعودي, وكان مصطفى عناني معلماً للرسم وكان لمدرسة تحضير البعثات دور في تنشيط التنافس بين الزملاء, مشيراً إلى عبدالرشيد سلطان الذي كان من أوائل من أقاموا معارض شخصية منتصف الستينيات, ويستعيد رضوي أنه (في عام 1379هـ - 1959م أقيم معرض جماعي للمدارس الثانوية بالمملكة في الرياض ففازت المدرسة العزيزية في مكة المكرمة بالمرتبة الأولى, وكنت الفائز الأول فيها, وكان اسم اللوحة (قرية), وهي تصور منازل طينية متفرقة مع أشجار النخيل, وهذا الفوز بذلك المركز دفعني - يضيف رضوي - إلى أن أغير من فكرة دراسة الطب واتجه إلى دراسة الفنون الجميلة وخاصة التشكيلية منها).

يسترجع رضوي أنه تتلمذ على يد بعض المشايخ في مكة المكرمة, وأنه انطلق في مدرسته الابتدائية الخالدية إلى عالم الرسم بتشجيع مدرس الجغرافيا الذي يشجعه على رسم الخرائط, والإشادة به عبر المذياع, وأكمل مسيرة التشجيع يحيى إدن الذي علّمه الخطوط, وأنه أقام جناحاً فنياً في المعهد العلمي السعودي عام 1373هـ, مشيراً إلى أن بعض معلميه ساهم في توفير اللوحات والألوان له لتنمية موهبته, رسم رضوي خلال تلك الفترة الزهور والطيور والفراشات.

وعبدالحليم رضوي صاحب أول معرض أقيم خلال الستينيات الميلادية, وفور عودته من إيطاليا بعد أن أكمل دراسته الفنية فيها, وإقامته معرضا شخصيا لأعماله فيها, بدأ من جدة, وانطلق بأعماله يعرضها في الرياض والظهران, واستضافته شركة أرامكو السعودية في الستينيات 1385هـ - 1966 ليرسم مجموعة من الأعمال الفنية لمناظر تتصل بأعمال الزيت لعله يمكن استعمالها على غلاف استعراض الأعمال لعام مقبل, فزار المنشآت في بقيق ورأس تنورة (بالمنطقة الشرقية من السعودية), ثم انصرف للعمل في استوديو أقيم على عجل في الظهران, وأتمّ أربع لوحات في أربعة أيام (ووقع الاختيار على صورة مستوحاة من معمل التكرير في رأس تنورة). ومع هذه الاستضافة كانت الشركة نظمت مسابقة فنية حكّمها رضوي وفاز فيها أربعة طلبة هم: عبدالكريم الحليلي وعبدالعزيز عبدالرحمن العمير وإبراهيم المرابيع واعتدال الرحيمي, وكانت في الظهران حينها جماعة للفنون. تتواصل تحت هذا الاسم نشاطات رسم وأشغال يدوية, وعروض جماعية للسعوديين والعرب والأجانب في هذه المدينة حتى الآن.

أسماء واتجاهات

أقام رضوي معارضه الشخصية بنشاط متقد, وكان آخرون مثل عبدالعزيز الحمّاد ومحمد عبدالحميد محبت ومحمد موسى السليم قد بدأوا إقامة معارض شخصية في بعض المدن السعودية كالرياض والدمام والظهران. بعض هؤلاء لم يزل على مقاعد الدراسة, أو أنه عاد من دراسته الجامعية, وقد ابتعثت الحكومة السعودية عدداً من خريجي الثانوية العامة مثل أحمد عائش الدشاش وجميل عبدالعزيز مرزا وأحمد صالح شرف ومحمد عبدالحميد محبت, وغيرهم لدراسة التربية الفنية في بعض البلدان العربية, عاد الدشاش ومرزا عام 1383هـ - 1963م حاصلين على ليسانس فنون وتربية من مصر, وبعد عام عاد أحمد صالح شرف من مصر أيضا وحصل محبت على بكالوريوس تربية فنية وعبدالرشيد سلطان على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة من إيطاليا عام 1385هـ - 1965م, ويعتبر هذا العام بداية تعليمية مهمة في مسيرة التربية الفنية, والفن التشكيلي في السعودية حيث تم افتتاح معهد التربية الفنية بالرياض, وإليه انضم معظم الموهوبين في مجال التربية الفنية, واستقطب هذا المعهد معلمين كان بعضهم فناناً تشكيلياً, ومن هؤلاء أحمد عبدالرحمن بلال وحسن طافش وسلمان عباس وسعدي الكعبي وغيرهم ودرّس فيه عبدالحليم رضوي فترة قصيرة, وتخرج في معهد التربية الفنية العديد من الأسماء التشكيلية السعودية مثل: علي الرزيزاء ومحمد الرصيص وبكر شيخون وعلي الصفار وخليل حسن خليل ومحمد عبدالرحمن سيام وعبدالله العبداللطيف وعبدالله حمّاس ومحمد المنيف وعلي ناجع وغيرهم, وأُقفل هذا المعهد عام 1410هـ - 1990م بعد إسهام كبير في رفد الحركة التشكيلية السعودية بالأسماء التي مثلت ما بعد الرعيل الأول, بجانب تهيئة كوادر وطنية لتعليم مادة التربية الفنية في المدارس السعودية.

مثلت المعارض المبكرة صورة بسيطة بمستوى يتناول المناظر والمشاهد المحلية, وعبّرت الأعمال عن شكل مدرسي إلا أنها أيضاً كانت مجالاً للتعريف بقدرات المواهب الشابة, وسنجد في بدايات صفية بن زقر 1940م ما يؤكد ذلك, وكذا بالنسبة لأعمال بعض الفنانين المبكرة, خاصة قبيل ابتعاث بعضهم للدراسة خارج المملكة, وأظهرت لوحات عبدالحليم رضوي بعد عودته من دراسته في الخارج تغيراً واضحاً في نهجه وتلوينه, وبمقدار اطلاعه أو تأثره بأعمال بعض الفنانين الأوربيين, فلوحة مثل زهور 1964م عبّرت عن فهمه الأكاديمي لمتطلبات العمل الفني الأحدث, وقد يختلف الأمر عند الراحل محمد السليم (1939 - 1997) الذي رسم بداية المشاهد المحلية القريبة, وكذلك بالنسبة لصفية بن زقر, أو حتى في المعارض الجماعية التي أقيمت في نهاية الستينيات وشارك فيها آنذاك بعض الموهوبين والفنانين وكان من بين المشاركين في معرض جمع فنانين سعوديين وإيطاليين رضوي وأحمد فلمبان 1950 وضياء عزيز 1947, وطه صبان وحسن مليح وعبدالكريم بوخضير, كما أقيم في مقر جامعة الملك عبدالعزيز الأهلية بجدة معرض نظمه مركز الفنون بجدة.

لم نتعرف بشكل أكثر وضوحاً على الأعمال المبكرة, وبشكل عام للفنانين التشكيليين السعوديين الذين ظهرت أعمالهم خلال الستينيات, إلا من خلال إشارات بسيطة لبعض الأعمال, ربما لعدم احتفاظ البعض بها أو بصور منها, أو ربما للتحرج من مستوى بسيط ومحدود لها, وقد تكون صفية بن زقر هي الأكثر حفاظاً على أعمالها التي رسمتها منذ 1964, كما نتعرف على أكثر من عمل لأحمد فلمبان الذي ظهرت موهبته مبكراً, وكذا لمحمد الصندل الذي لم يعرض أعماله إلا في النصف الثاني من السبعينيات, ولعبدالجبار اليحيا, وعند محاولة التعرف على أعمال الفنان محمد السليم المبكرة فإننا لا نعثر إلا على صورة عمل واحد ضمّنه معرضه الشامل الذي أقامه في معهد العاصمة النموذجي بالرياض عام 1989, والعمل مؤرخ بـ 1967م.

وُلد السليم في بلدة مرات بالمنطقة الوسطى من السعودية عام 1358هـ /1939م, ودرس فيها المرحلة الابتدائية, التحق بالتعليم ليقوم بتدريس مادة التربية الفنية منذ 1378 هـ/ 1958م وعمره عشرون عاماً.

يشير الكاتب سليمان الحمّاد, رفيق الفنان السليم, إلى أن السليم أهداه أحد أعماله, (وهي لوحة لحقل من النخيل, ليس فيها سوى النخيل, وكان يدرك - يضيف الحماد - شغفي بالنخيل وبالزراعة..), وأنه (عندما رغب في رسم صورة لغلاف كتابه الأول (أضواء على الزوايا المظلمة) عام 1388هـ / 1968م جاءت صورة الغلاف مباشرة التعبير عن الكتاب, بل تغني عن الفهرس).

أقام السليم أول معارضه الشخصية في مقر نادي النصر الرياضي بالرياض وافتتحه الأمير سلمان بن عبدالعزيز في العاشر من جمادى الأولى عام 1387هـ, وتوالت معارضه في الظهران 27 ذو الحجة 1387هـ والدمام 10 محرم 1388هـ بالمنطقة الشرقية ثم جدة 10 ذو الحجة 1390هـ.

أسماء في الستينيات

خلال الستينيات الميلادية أقام عبدالعزيز الحمّاد أول معارضه الشخصية عام 1385هـ / 1965م في الدمام, ثم في الظهران 1386هـ / 1966م, وأقام بعد عامين معرضاً في الرياض. والحمّاد من الدارسين في معهد التربية الفنية وخريجيه الأوائل وأقامت صفية بن زقر, ومنيرة موصلي معرضاً مشتركاً في جدة عام 1388هـ / 1968م, يقول الأديب الراحل محمد حسن عواد عنه: (في يوم الاثنين الثالث من المحرم 1388هـ الأول من أبريل 1968م افتتحت فتاتان من فتياتنا الفنانات في جدة معرضاً فنيا عرضتا فيه أعمالاً من انتاجهما في الرسم ناب عنهما في تقديمهما الفنان عبدالحليم رضوي رأيت بعض الصور منشورة في الصحف وقد سمعت أن الفنانتين تبرعتا بثمن المعروضات لأسر الشهداء الفدائيين في فلسطين (...)). وفي العام التالي أقام مشعل السديري معرضاً لأعماله, وابتعث السديري إلى إيطاليا لدراسة الفن, والتقى بعبدالحليم رضوي, كما التقى به الفنان محمد الصقعبي 1940م الذي بدأت مشاركاته عام 1398هـ / 1978م بعد إنهائه دراسته بأعوام, ويعتبر معرض أقيم في مدينة الرياض عام 1389هـ / 1969م ونظمته المديرية العامة لرعاية الشباب, قبل أن تستقل وتصبح (الرئاسة العامة لرعاية الشباب) من أوائل المعارض الكبرى التي التقى فيها عدد من الفنانين والهواة من المنتسبين للأندية الرياضية بالمملكة وافتتحه الأمير خالد الفيصل المدير العام لرعاية الشباب حينها.

وأقيم لبعض معلمي التربية الفنية من الفنانين العرب معارض شخصية من بينهم: سعدي الكعبي ومحمد شحتة وحيدر الأمير وخالد الجادر وشاكر حسن آل سعيد وحسن طافش وعبدالجبار سلمان.

ولد الفنان عبدالجبار اليحيا عام1351هـ / 1931م وهو أكبر مجايليه, وكان نشاطه الفني محدوداً في بداياته 1952 - 1969م عندما كان يعمل في مدينة جدة, حرر خلال فترة قصيرة لا تتعدى ستة أشهر مادة صحفية ومترجمة لصحيفة (المدينة المنورة) بجدة خلال عام 1968م, وأقام بعد عام, وبعد انتقاله إلى الرياض معرضاً لأعماله في مقر البعثة الأمريكية, ثم معرضا آخر بمقر سكن الموظفين لشركة لوكيد بالرياض.

ويعتبر معرضه بفندق اليمامة عام1972م الأهم حيث عبّر فيه عن موقف أكثر وضوحاً بعد أن كان يرسم المشاهد والمناظر الطبيعية والمحلية التي كانت تجد استحسان الأجانب.

أما الفنان عبدالله الشيخ 1355هـ / 1936م وهو شقيق الفنان عبدالجبار اليحيا فقد كان حضوره في الساحة التشكيلية متأخرا نسبياً, ولم تبدأ مشاركاته إلا في العام 1980م من خلال معرض أقامه مكتب الرئاسة العامة لرعاية الشباب بالمنطقة الشرقية, وفي هذا تزامن مع حضور أسبق لجيل ثان في الساحة التشكيلية السعودية, عمل بعد قدومه للمملكة, وقد عاش الجزء الأول من حياته في العراق, موظفاً في إحدى المطابع الأهلية عام 1979م, بالدمام, وانتقل بعدها للعمل في مدينة الجبيل الصناعية بالمنطقة الشرقية من المملكة.

ولد الفنان عبدالله الشيخ في مدينة الزبير التي عاش فيها طفولته وصباه إلى أن التحق بمعهد الفنون الجميلة ببغداد وحصل على دبلومه عام 1959م, وواصل تعليمه في بريطانيا 1962 - 1965, وحضر بعد ذلك دورة في التصميم والطباعة لمدة عامين.

تعود بدايات الشيخ إلى أواخر الأربعينيات عندما تفتحت عيناه على أعمال شقيقه عبدالجبار, وأحد أقاربه (علي الخرجي) الذي أصبح رساماً للكاريكاتير في بعض الصحف السعودية فيما بعد, كان عبدالله يقلدهما ويحاول الوصول إلى قدراتهما في الرسم, إلى أن التحق بالمعهد فدرس على يدي جواد سليم وفائق حسن وغيرهما من جيل الرواد في حركة الفن التشكيلي العراقي المعاصرة, وترك الاثنان (سليم وحسن) أثراً كبيرا في تجربة الفنان الذي حمل معه أقوالهم وتوجيهاتهم إلى عهد قريب

أقام أول معارضه في بغداد عام1965, ثم في البصرة بعد عشرة أعوام.

أعماله المبكرة التي عرضها في الدمام كانت بمنزلة اختبار للساحة التشكيلية في المنطقة الشرقية بحكم عدم تعرفه عليها, وجاءت الأعمال مباشرة وبسيطة خلال أعماله التالية التي كانت بمنزلة قدوم قوي له, فاتجه بعد مشاركات جماعية محدودة لإقامة معارض شخصية منذ 1982 في الدمام والخبر والرياض وجدة وغيرها.

صفية... ومنيرة

وفي النصف الأول من الستينيات كانت صفية بن زقر تمارس الرسم, وعبّرت أعمالها المبكرة عن ارتباط شديد وواضح بالحياة الاجتماعية ومظاهرها في منطقتها. رسمت الأدوات والأواني الشعبية, ورسمت مظاهر الأسواق والحارات, ترسم على نحو فطري بسيط وبما يحقق لها إيصال صورة أو فكرة, واتصلت أعمالها على هذا النحو حتى الآن وإن تطورت أو نمت قدراتها الفنية, وذلك وفق تخيل الصورة أو توصيفها ممن سبقها أو من خلال الصور الضوئية أو حكايا كبار السن أو غير ذلك مما يساعدها على التوثيق ورصد مظهر أو مشهد وهي هنا لا تنفي عن أعمالها طابعها التسجيلي التوثيقي حتى إنها خلصت قبل أعوام لتأسيس دارة تحمل اسمها جمعت فيها أعمالها الفنية, وبعض ما يتعلق بالمظاهر التقليدية خاصة الألبسة, وغيرها.حضرت صفية بن زقر دراسات حرّة في مصر وتأثرت ببعض الفنانين المصريين الرواد مثل يوسف كامل وراغب عياد, وغيرهما, كما حضرت دورة في بريطانيا, وبالمقابل نجد الفنانة منيرة موصلي والتي انطلقت في بدايتها بمعرض مشترك مع صفية بن رقر عام 1968م في جدة نجدها ضمن اتجاه فني مختلف من حيث الرؤية, والصياغة والتأثر.

ولدت منيرة موصلي في مكة المكرمة عام 1951م, كما جاء في بعض بروشورات معارضها, أو مشاركاتها الجماعية, إلا أن تاريخاً جديداً ظهر عام 2002م في مسابقة السفير التشكيلية التي اختيرت لها ضمن لجنة التحكيم, لكني أعتقد أن الفنانة منيرة موصلي أكثر قرباً عن هذين التاريخين لتاريخ ميلاد زميلتها صفية بن زقر. درست منيرة في بيروت والقاهرة والتي حصلت منها على شهادة كلية الفنون الجميلة عام 1972. تعلمت في كلية الفنون على يد عبدالهادي الجزار وحامد ندا وحسن البناني وغيرهم. تأثرت بأفكارهم وسعيهم التحديثي, وإثر عودتها إلى المملكة أقامت أول معارضها الشخصية في جدة, وبعد عامين أقامت معرضا في مدينة الرياض, ويعتبر هذا المعرض أول معرض لفنانة تشكيلية سعودية في هذه المدينة.

عملت منيرة لفترة قصيرة في تدريس التربية الفنية, والتحقت للعمل في شركة أرامكو السعودية بالظهران في المنطقة الشرقية منذ 1979م, ولم تزل تشكل حضوراً في الساحة التشكيلية وإن قلت مشاركاتها في المعارض الجماعية, وتم تكريمها بصفة الريادة من أكثر من جهة داخل السعودية, وخارجها.

إن النظرة على أعمال بعض فناني الرعيل الأول من الفنانين والفنانات التشكيليات في السعودية, كرضوي, السليم, بن رقر, اليحيا, موصلي.. سيأخذنا لمقارنة بالتجربة التشكيلية العربية, وبداياتها في بعض البلدان, وسنجد أن الصيغ والاهتمامات والنشء لا يختلف كثيرا, إلا أن التجارب سرعان ما تطورت ونمت وفق ظهورها على نتاج فني سابق في مصر, العراق, لبنان.. وغيرها, فكان تجاوز الفنانين بداياتهم سريعاً لتواصل واضح مع ما هو أحدث على المستوى العربي أو الأجنبي, على أن بعض الفنانين ابتعثوا للدراسة في دول عربية كمصر أو أجنبية مثل إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية, أو غيرها.

نجد رضوي مع تأثره في بداياته بأعمال الانطباعيين مثل سيزان يتأثر بشكل أوضح فيما بعد بأعمال فان جوخ لكنه يعود إلى التراث العربي عندما التقى ببعض الفنانين العرب في إسبانيا أثناء إكماله دراسته الفنية فبرزت أعمال تستوحى من التراث المحلي, والعربي والإسلامي, وحرص على أن تحمل أعماله سمات (التراث والمعاصرة) كما يُحب أن يُطلق عليها. أما محمد السليم فإن المراحل الأولى من أعماله عبّرت عن رسم بسيط حمل فيه العناصر المحلية على نحو مباشر, إلا أن تطور تجربته ونماءها برز أثناء وبعد دراسته الفنية في إيطاليا. تأثرت أعماله بالانطباعية وخاصة بأعمال هنري إدموند في إحدى مراحله, لكنه التقى ورضوي في بعض المعالجات اللونية, ثم تلخصت أعماله بامتدادات أفقية اكتشف معها أسلوباً خاصاً سمّاه بعد ذلك بالأفاقية. وازدادت اهتمامات عبدالجبار اليحيا بتناول قضايا المرأة أو رسمها ضمن أفكار مباشرة أقرب رمزية وهو يضمنها المنازل المهدمة أو الأشجار والنخيل, والأطلال, وغيرها.

إن مفهوم الريادة في أي حركة فنية ثقافية لا يمكن قياسها بالأسبقية وعلى أن أسماءً مثل اليحيا ورضوي والسليم وصفية بن زقر ومنيرة موصلي وقد عرضوا بشكل فردي في عقد واحد هو الستينيات فإن أسماء أخرى عرضت بشكل جماعي أو فردي ضمن هذا العقد وأذكر سعد العبيد وضياء عزيز وبكر شيخون وأحمد فلمبان ومنصور كردي وعبدالعزيز الحماد ومشعل السديري وعبدالرشيد سلطان ومحمد عبدالحميد محبت, وربما آخرون, فهل مثّل كل هؤلاء جيل ريادة أم يمثلون جيلاً أو رعيلاً أول?

أعتقد أن الإجابة ستتفاوت, وسنجد أن فنانة تُحسب في الحركة التشكيلية السعودية على جيل الريادة وهي منيرة موصلي ترى تحفظاً (على هذا اللقب أو التسمية لأسباب موضوعية كثيرة تتعلق بواقع تركيبة أو تأسيس الحركة التشكيلية بخصوصيتها في المملكة العربية السعودية, لكنها تخص بهذا اللقب الفنان الراحل محمد موسى السليم).

وقد سعت بعض المؤسسات التي نشطت أو ساهمت في حركة الفنون التشكيلية بالمملكة العربية السعودية لتكريم بعض الفنانين, وخصّت الخطوط الجوية السعودية في تكريمها الأول (رضوي, السليم, بن زقر, موصلي) وطبعت لهذه المناسبة, وضمن مسابقتها (ملون السعودية), دليلاً عرّف بمسيرتهم, كما كرمت فيما بعد أحمد عائش الدشاش وجميل مرزا كرجالات تربية فنية أوائل لكن - بالمقابل - لم تضع أطرا تحدد لهذه الأسماء ريادة الحركة التشكيلية في المملكة العربية السعودية.

لا شك أن للريادة مفهومها فالوجود أو الحضور قد يكون محدود الفعل والمستوى والزمن أيضاً, وأن الأهمية في هذا الإطار, وحتى يمكن خلع لقب رائد في حركة فنية ما إن يكون هناك فعل وتأثير حقيقيان وملموسان ولا أظن أن عدد المعارض كفيل بأن يضع الفنان في هذا الإطار. إن مقدار الجدة والأصالة والتأثير والدور التثقيفي والدور التعليمي والإسهام المعرفي ذات أهمية كبرى ومن ذلك تعليم الفنون, وسنجد بالمقابل أن هذا الجيل لم يقم بمثل هذا الدور في كليات أو معاهد الفنون إذا استثنينا رضوي الذي درّس لأشهر في معهد التربية الفنية, وإن تقلد مثل السليم بعض المناصب الإدارية في مجال الفنون, ويمكن الإشارة أيضاً إلى أن الساحة التشكيلية والتعليمية لم تشهد سوى أقسام للتربية الفنية في بعض الجامعات السعودية, أو كليات المعلمين, وقد أُنشئ أولها في جامعة الملك سعود بالرياض عام 1394هـ / 1974م وتخرج في هذا القسم عدد ممن تقلدوا مناصب رئاسية أو ضمن هيئة التدريس فيه, ومعظم أولئك ضمن جيل ثانٍ في الساحة التشكيلية السعودية. أرى أن نعت فنان ما بالريادة في حركة الفن التشكيلي السعودي بحاجة إلى أن تتم وفق ضوابط محددة يتفق عليها فنانون ونقاد وباحثون في مجال الفن التشكيلي السعودي خصوصاً, والمجال الثقافي عموماً, وأن ما نسبغه على بعض الفنانين بالريادة لا ينبني على أسس متينة وقوية وفعل يستحق معه هذا الفنان أو تلك الفنانة لقب الريادة, كما يتم أيضاً من خلال هذا الاتفاق تصنيف واضح للفنانين الحقيقيين الذين أسهموا بفاعلية في حركة فنية شابة لم تزل في الأربعين من عمرها, ولم تزل تطلعات أبنائها تفوق ما تحقق من إنجازات.

 

عبدالرحمن السليمان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من أعمال صفية بن زقر (عروس)





من أعمال صفية بن زقر (صناعة الحلي)





تخطيط لعبدالجبار اليحيا 1952م





من أعمال محمد الصندل (من طبيعة الأحساء)





من أعمال محمد السليم (من الصحراء)





من أعمال عبدالله الشيخ (مرسومة خلال النصف الأول من الثمانينيات) بعنوان : حوار





(أغنية من إفريقيا) لمنيرة موصلي