سوق في القاهرة على طريقة (النابية)

سوق في القاهرة على طريقة (النابية)

يحدثنا تاريخ الفن عن مدرسة استشراقية, فريدة عرفت باسم النابية NABISME أي الأنبياء. تبلورت أفكارها أواخر القرن التاسع عشر, وهدفت إلى البحث عن الأصول الشرقية دينيا وحضاريا. ويعتبر الفنان والشاعر والناقد الفرنسي إميل برنارد EMILE, BERNARD (1868 - 1941) المؤسس الحقيقي للتصوير الرمزي في هذه المدرسة, بل يعتبره البعض رائدها.

كان أكبر المجموعة سنا, تصادق مع (جوجان) في بريتاني, ووضع كتابا قارن فيه بين (فان جوخ) و(سيزان).

أقام (برنارد) فترة في إيطاليا, اكتشف فيها في حماس أعمال (الأربعينيات) المعروفة من عصر النهضة الإيطالية, كتب عدة أبحاث حول المسيحية الشرقية, والعلاقة بين بيزنطة والإسلام, وفي عام 1893 زار (ساموس) و(أزمير) و(استانبول), وفي خريف هذا العام رحل إلى فلسطين. زار يافا, ثم القدس, وغمرته هذه الرحلة بالمشاعر الدينية الفياضة.

رحل إلى مصر ورسم لوحات جدارية لإحدى الكنائس (اختفت الآن) وسحرته الأجواء الريفية المصرية البسيطة. ولم يترك الريف إلا بعد ما يقرب من شهر.في القاهرة ارتدى الملابس القاهرية بشكل يتفق ومزاجه الاستشراقي الفريد. ثم عاود الرحلة إلى فلسطين عام 1894 مرتدياً الملابس العربية القديمة بصحبة زوجته حنينة ساتي ليطلع على مختلف الثقافات المسيحية الشرقية. وترك الشرق الأوسط في مايو 1895.

أثمرت رحلته الشرقية الأولى سلسلة رسوم ولوحات عديدة إلى جوار دراسة حلل فيها عناصر الحياة المصرية. تميزت لوحاته باستعمال الملمس الناتئ, والمساحة اللونية الموحدة دون الاستعانة بموديل مثل لوحة (الحريم) في متحف فنون إفريقيا بباريس.

وفي مرحلة لاحقة عدل (برنارد) في أسلوبه باستخدام الظل في أجواء وتكوينات شرقية خاصة, كما استعان في بعض أعماله بموديل مثل لوحة (مدخنة الحشيش) في متحف (أورسي).

عاد (برنارد) إلى القاهرة عام 1897 ونتيجة لحاجته إلى المال رسم عدة ديكورات مسرحية وجداريات بعض المدارس الدينية. كما عمل بالصحافة وكتب في عدة صحف قاهرية معروفة آنذاك كانت تصدر بالفرنسية.

أراد من خلال دراسة أسلوب الحياة المصرية أن يبلور التحولات الثقافية وجاءت رؤيته أحيانا مجردة معتمدة على بعض المراجع الفلكلورية. ذهب (برنارد) في رحلة سريعة إلى باريس عام 1900 قبل أن يترك مصر نهائيا عام 1904 وبعد أن قضى 11 عاما في شرقنا العربي.

لوحة (إميل برنارد) (سوق في القاهرة) رسمها عام 1900 (242سم * 196سم) تضم اللوحة عشر شخصيات لكل منها حضور خاص كمنحوتات أوقفها المصور ليصورها. العيون لا تلتقي فكل شخصية تطالع نظراتها عالما باطنيا مستقلا.

هل يتأمل الفتى موزع الخبز حافي القدمين بزيه الأزهري, عالمه الهادئ, أم يتابع أرغفة الخبز الطازج?

بائعة الخبز تتوحد باللون والتكتيل مع دوائر الخبز, بينما زميلتها تذهب بنظراتها لأبعد من هم البيع والشراء. والثالثة يكتمل فيها التوحد النحتي مع سمت السكينة. أما الواقفة فيقدمها (برنارد) كنموذج للمرأة القاهرية ذات الأصول الريفية. وتأتي ابنتها كمعادل تشكيلي دون خلل الرتابة للفتى الذاهل الزاهد.

نلمح في اللوحة بسهولة مفردات الاستشراقية (النابية) أي الباحثة عن المتن, لا عن الشكل في الإيوان الضوئي الكبير الذي يحتوي ويحتفي بأربعة أواوين داخلية, وأربع شخصيات تمثل الوحدة مع التنوع.

وحدة الروح الشرقية, مع تنوع الهموم اليومية. انها ظلال ساحرة أحدثها تسرب الضوء الحاني على صحن الدار الهادئ.

وقد نسأل عندما نتأمل هذه اللوحة. هل تعمد (برنارد) تكوين لوحتين في واحدة يوصل بينهما عمودان انشغل أحدهما ببقايا وحدة زخرفية غائمة?

لا ننسى أن لوحة (برنارد) رسمت عام 1900 عندما بدأت عمائر القاهرة العميقة تتعرض لشيء من الإهمال, ولعل ما قصده الفنان بالمداخلة بين اللوحتين الحديث بأسلوب (النابي) عن العمق الروحي الشرقي الذي أخذ به, كما لا ننسى براعته كفنان في إحداث الحوارية الضوئية مع المواءمة اللونية في غير افتعال بين الداخل والخارج.

 

محمد المهدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سوق في القاهرة - إميل برنارد 1900