ظاهرة المؤلف المخرج.. هل ساهمت في تدهور السينما الجزائرية?

ظاهرة المؤلف المخرج.. هل ساهمت في تدهور السينما الجزائرية?

لموضوع ظاهرة المؤلف المخرج من الأهمية ما يستوجب التطرق إليه, وذلك اعتبارا لما أفرزته الظاهرة من الآثار السلبية ساهمت بشكل أو بآخر, في انحطاط السينما الجزائرية, بوقوفها كمانع كابت ومعطل لفعل ترقيتها وإثار سلبية بمختلف وتنوّع الأفكار والرؤى الجمالية.

إن ظاهرة المؤلف المخرج ليست جديدة ولم يبتدعها المخرج السينمائي الجزائري, هي قديمة بقدم تاريخ السينما منذ نشأتها إلى اليوم, وكان لها الفضل في صناعة روائع سينمائية أدرجت ضمن التراث الفني الإنساني. وعلى الرغم من ذلك, شكلت بوجودها في السينما الجزائرية عيبا من العيوب التي ساهمت في انحطاطها, وفي إفراز راهنها المتميّز بالجمود والعقم, وذلك لتفشيها وانتشارها بصفة مغالية, بل تحوّلت إلى سنة أكيدة, يتسارع المخرجون السينمائيون إلى اعتمادها وتكريسها, مما يكشف جليا, في اعتقادي, عن ظاهرة مرضية يصعب تجاوزها والتخلص منها, وكان لها الأثر السلبي المثبط لفعل ترقية وازدهار الإنتاج السينمائي الجزائري نتيجة للعمل المنفرد, الذي لا يوفر في العمل السينمائي إمكان المعالجة الشاملة والجامعة اعتبارا لعنصر جماعية الفن السينمائي, الذي يساهم في إنجازه عشرات الأفراد, انطلاقا من كاتب السيناريو إلى غاية التقني البسيط المتخصص في إدارة جهاز عرض الفيلم, ولا يمكن بأي حال من الأحوال لشخص بمفرده صناعة فيلم ناجح. ولتفشي الظاهرة أسبابها الموضوعية التي دفعت قهرا بالسينمائي الجزائري إلى اعتناقها وتبنّيها. تنحصر هذه الأسباب في القوانين المسيّرة للقطاع السمعي البصري في الجزائر والمتسمة بالإجحاف والكبت لكل مبادرة, وذات الميزة (الانسدادية), كأنما شرّعها المعنيون لغرض محاصرة ومصادرة العمل السينمائي ليظل خاضعا لفعل الرقابة المستديمة. من الآثار الكابتة لهذه القوانين, غموضها بل افتقارها للقواعد القانونية المحددة بدقة لواجبات وحقوق السينمائيين كل في تخصصه, ذلك ما مكّن من تفشي ظاهرة المؤلف المخرج كوسيلة (تحايلية) لانتزاع الحقوق, بمعنى أن السينمائي الجزائري باعتماده لظاهرة المؤلف المخرج, كان يسعى إلى انتزاع حقوقه من خلال إخراجه لأعمال يكتبها بنفسه مما يمكّنه من ضرب عصفورين بحجر واحد, تقاضي حقوق التأليف (السيناريو) وحقوق العملية الإخراجية. هذا فضلا عن دافع آخر يتمثل في الولاء الأعمى للمعتقد والأفكار المحاصرة له, وحده أسلوب المخرج المؤلف الذي يمكّنه من تمرير أفكاره والترويج لها. هذا الفعل (التحايلي) إذن, تكرّس مع مرور الزمن, ونتج عنه الإقصاء الكلي والمجحف في حق كتاب السيناريوهات, العامل الذي حرم في اعتقادي, السينما الجزائرية من إمكان صناعة أفلام تضاهي نظيراتها العربية والعالمية, هذا ما يصنّف ظاهرة المؤلف المخرج في الجزائر, بالظاهرة السلوكية المبيّنة التي ساهمت بشكل مباشر, في طمس الطقس الإبداعي المفجر للظواهر الجمالية والفكرية الحقيقية.

بهذه التوطئة المتواضعة, أردت فقط الإشارة إلى تفشي الظاهرة ولا أستهدف إطلاقا الطعن في مصداقية وكفاءة المخرجين السينمائيين الجزائريين, بقدر ما استهدف تعرية ضعف ولا جدوائية القوانين المسيّرة للقطاع السمعي البصري منذ الاستقلال إلى اليوم, والتي ساهمت في تشكيل سلوك السينمائيين من خلال تكريس فعلي الأنانية والغلو في تبني ظاهرة المؤلف المخرج.

بعيداً عن العمل الجماعي

السينما - كما سلف الذكر - تعتمد في صناعتها على العمل الجماعي انطلاقا من كتابة ملخص فكرة الفيلم, ثم تطويرها إلى سيناريو بكل التفاصيل التقنية والحوارية من مشاهد ومناظر, ومحادثة, مرورا بإشارة المنتج المحررة للعملية الإنتاجية التي تؤسس على إثرها شركة خاصة ومؤقتة تحمل اسم عنوان الفيلم, تجمع العديد من الفرق التقنية والعمالية (التصوير, الديكور, المؤشرات الخاصة الصوتية والحركية والضوئية..) تدوم إلى غاية الانتهاء من آخر اللمسات التركيبية للفيلم, حتى تصل مرحلة عرضه بقاعات السينما, إذن فصناعة الفيلم تستند إلى مجموعة من الناس أولهم (السيناريست) وآخرهم التقني المتخصص في آلة العرض. هذا فضلا عن أن جودة الفيلم ونجاحه يرتكزان في تحقيقهما, على السيناريو الجيّد والمحبوك أحداثا وشخوصا من جهة, وعلى جودة الخدمة التقنية الصرفة التي تضمن جمال التقاط الصورة ولها فريقها المختص يترأسهم مدير التصوير, ودقّة وصفاء الصوت المخوّل لمهندس الصوت ومساعديه. كل هذا التشابك العملي يؤكد يقينا لاجدوائية العمل الذاتي الذي يحاول الجمع بين جملة الوظائف السينمائية, والمقصي بذلك للآخر الذي يمكنه تحقيق الإضافة المثرية للعمل الإبداعي في جانبيه الجمالي والفكري. وما دمنا بصدد الحديث عن ظاهرة المؤلف المخرج التي تجمع بين ثلاث وظائف, كتابة السيناريو, كتابة الحوار وعملية الإخراج, نجزم أن اعتمادها بشكل مغالى فيه يفرز الفعل الإقصائي لمختصين اثنين, لأنّ كتابة السيناريو بشطريه (السيناريو والحوار) توفر إمكان الاشتراك فيها لأكثر من كاتب, فقد يفتقر كاتب سيناريو جيّد إلى مهارة كتابة الحوار, مما يلزمه الاستنجاد بكاتب آخر يمتلك هذه المهارة, ومثل هذه الكتابات السينمائية المشتركة معروفة في تاريخ السينما, فيلم (الرسالة) لمصطفى العقاد مثلا, اشترك في كتابة القصة, السيناريو والحوار العديد من الكتّاب وهم (توفيق الحكيم, عبدالحميد جودة السحار, عبدالرحمن الشرقاوي, محمد علي ماهر), ومن الأعمال الدرامية التلفزيونية ما يعتمد على سلسلة من الحلقات منفصلة عن بعضها البعض, بمعنى أن لكل حلقة عنوانها الخاص, مع الاحتفاظ بالشخوص نفسها, ذلك ما يسمح بمساهمة أكثر من كاتب, بل لكل حلقة كاتبها, مما يوفر إمكان التنوّع الإبداعي, والافساح في مجال المساهمة للجميع, علما بأن المخرج يكتفي في هذه الحال, بإنجاز العملية الإخراجية, ويتمكن بمهاراته الفنية والثقافية من التفاعل مع كل الكتابات. لعل الاعتماد على هذا الطرح قد يسمح لنا بتمرير الرأي الذي يؤكد على ضرورة فصل وظيفة التأليف عن وظيفة الإخراج - يبدو أن في أمريكا سوقا حقيقية للسيناريوهات - ذلك ما يوفر فرصة إنجاز الروائع السينمائية, واليقين, أن عشاق السينما يدركون ذلك جيّدا في ضوء ما شاهدوه من التحف السينمائية العالمية التي جاءت كأثر للعمل الجماعي والتعاوني بين المؤلف والمخرج وباقي الفرق التقنية المتخصصة.

وبعيدا عن الاحتراف

والمخرج السينمائي الحاذق الذي يحترم مبادئ الاحتراف سعيا خلف النجاح, هو الذي يبحث باستمرار عنيد, عن السيناريو الجيّد, ولا يكتبه شخصيا بالضرورة, ويكتفي بعد ذلك, بالاعتماد على مهاراته الإخراجية وقدراته في إدارة الممثلين وسعة تجاربه الثقافية والحياتية التي تمكّنه من التفاعل وشخوص وأحداث السيناريو المنتقى, مما يضمن روعة تصوير الفيلم. والرأي المعتقد بأنّ المخرج السينمائي يفضل التعامل والتفاعل بأشخاص وأحداث السيناريو الذي يكتبه بنفسه, هو رأي مغالط وضعيف السند, إذا ما تأملنا التجارب المهنية والتاريخية للصناعة السينماتوغرافية منذ فجر اكتشافها إلى اليوم, ويعكس في اعتقادي, ضعف قدرات المخرج على استيعاب كتابات الآخر التي قد تتجاوزه فكرا وفلسفة جمالية, بذلك هو يفتقر إلى الأدوات التي توفر له القدرة الاستيعابية, وبالتالي فقر تجاربه الثقافية والحياتية. وقد أثبتت التجارب على مدى تاريخ السينما ما يخالف هذا الطرح المنطوي على أنانية كابتة ومهمشة للآخر, وأظهرت أنه يمكن للمخرج السينمائي وغيره, التعامل والتفاعل بنفسية الشخوص وبمختلف الأحداث والمواقف الدرامية التي يتخيّلها ويكتبها طرف آخر, هذا ما يعكس بشكل واضح قوّة استيعابه الناتجة عن عمق ثقافته وثرائها التي تمكّنه من القدرة على ترجمة السيناريو صورة وحركة. وكل مخرجي العالم من أعلام السينما قد أخرجوا أعمالا لم يكتبوها وتمكّنوا من إذهال الدنيا بذلك, والأمثلة عدة بتعدد الأفلام المنتجة على مدى تاريخ السينما والتي لا يمكن حصرها. هذا التاريخ السينمائي لم يعرف عبر مراحله تفشي ظاهرة المؤلف المخرج مثلما تفشت ومازالت متفشية بإصرار في السينما الجزائرية, هذه المغالاة هي التي تطبع الظاهرة بطابع الشذوذ المريض, وعليه فكل ما طرح وما يطرح من الانطباعات يحاول أصحابها تبرير اعتناق هذا الأسلوب من خلال إحاطته بالأهمية فيما قد قدمه من إمكان صناعة الروائع السينمائية, هي تبريرات واهية يريدون بها تكريس الظاهرة لحماية منافع خاصة قد مكّنتهم في السابق, من حصد المستحقات المادية والمعنوية التي كان من المفروض أن تذهب إلى مَن هم أهل لها, لما قد يقدمونه من خدمة كبيرة تمكّن فعلا, من صناعة الروائع السينمائية والتلفزيونية. هي مبررات إذن, ضعيفة لا يمكن أن تقنع من هم أدرى بعالم الفن السابع والعمل الدرامي, بل إن إصرار التمادي فيها سينعكس سلبا على السينما الجزائرية من جهة, وعلى من لهم الاستعداد الفطري والموهبة الأكيدة والحالمين بتحقيق أمالهم المشروعة في هذا الفضاء, وما أكثر عدد من سرقت أحلامهم.

ولابأس في ختام هذه المقالة من إدراج أمثلة حول بعض الأفلام الناجحة في الجزائر والتي أسست على العمل الجماعي والمشترك بعيدا عن هاجس ظاهرة المؤلف المخرج, وقام بتأليفها مؤلف واحد أو أكثر, فيما تولى إخراجها طرف آخر.

- فيلم (ريح الأوراس) أخرجه محمد الأخضر حمينة اعتمادا على سيناريو مشترك بينه وبين السيناريست (توفيق فارس), نال عدة جوائز منها جائزة العمل الفني الأول بمهرجان (كان) عام 1966, والجائزة الكبرى لاتحاد الكتّاب السوفييت بموسكو سنة 1967 تحصل خلاله على جائزة أحسن سيناريو وإشادة بما أضافه إلى الأدب العالمي, وجائزة الغزال الذهبي بطنجة 1968... لعل القارئ الكريم قد لاحظ أن سر نجاح هذا الفيلم يئول أساسا, إلى السيناريو الجيّد الذي لم يحتكر كتابته المخرج بل شاركه في كتابته (توفيق فارس) فجاء هذا السيناريو المشترك تحفة أدبية تجلّت من خلال تجسيده فيلما, واعتقادي, أن المخرج لو انفرد بكتابته وإخراجه, لما احتوى في ثناياه على هذه القيمة الأدبية وما توّج بما ناله من نجاح.

- فيلم (معركة الجزائر) أخرجه الإيطالي (جيلو منتي كرفو) سيناريو فرانكو ساليناس بالاشتراك مع ياسف سعدي, نال جائزة الأسد الذهبي بمهرجان البندقية, وتوّج بالجائزة الكبرى لـ(النقد العالمي) 1968, واعتمد أخيرا كوثيقة أرشيفية تاريخية.

- فيلم (عودة الابن الضال) أخرجه يوسف شاهين, اشترك في كتابة السيناريو ثلاثة كتاب (يوسف شاهين, صلاح جاهين, فاروق بلوفة) (صاحب فيلم نهلة).

 

عيسى شريط

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لقطة من فيلم (عودة الابن الضال) - اخراج يوسف شاهين - (انتاج جزائري)





من فيلم (كارمن) للمخرج الإيطالي فرانشيسكو روزي





لقطة من فيلم (عودة الابن الضال)





الياباني أكيرا كوروساوا أهم أعمدة سينما المؤلف