هل نحتاج إلى تأهيل ينقلنا إلى العصر الجديد?

هل نحتاج إلى تأهيل ينقلنا إلى العصر الجديد?

مازالت الردود تتوالى حول سلسلة من المقالات نشرتها (العربي) في أعداد سابقة حول علاقة الإسلام والغرب وهنا مداخله جديدة:

هذا الخوف من التغيير, من الانقلاب على الراديكالية المترهلة, من التقدم... من العولمة, ذلك المسخ العجيب الذي حملناه أكثر مما يحتمل, حتى بات يؤرق مضاجعنا, ويدخلنا في متاهات التوازن بين المبالغة واللامبالاة. والسؤال البديهي:

هل ما نعالجه اليوم آني الولادة, معاصر التداعيات, أم ما نشهده أمر مغاير لما يظن البعض, ولما يعتقد البعض الآخر?

أم هل ما تسيله العولمة من فوهات الأقلام المعارضة, ومن أشداق الصفحات المؤيدة, جدير بالبحث والمسير في الاتجاه الذي نمتطيه جميعاً?

ما يُدهش في هذا المجال, هو اكتفاء البعض بمعرفة تفصيل هنا وآخر هناك, ليعتلي المنبر وليفتح الباب واسعاً أمام نقاش يتداخل فيه المهتم بغير المهتم, وليصطف الجميع في قاعات المؤتمرات, منقسمين بين الاهتمام العمومي, والانجراف مع التيار في المعارضة والتأييد. فكم من المرات نسمع من أحدهم العبارة التقليدية حول ندوة ذات سمة إيجابية عن العولمة: استمعت إلى الندوة, وهي رائعة, وبعد أسبوع على الأكثر يعيد العبارة نفسها لندوة أخرى تتحدث عن العولمة باتجاهها السلبي.

هل ندرك حقاً ما يتم الحديث حوله?

إن العولمة وما تثيره تفاصيلها من (حوار بين الحضارات) إلى (صراع بين الحضارات) لا تزال تبعث في نفوس معظم الناس - مفكرين وغير مفكرين - الكثير من الخوف, الخوف من الآخر, بل الخوف العام من المجهول... وهنا يُطرح السؤال:

هل كل مظهر من مظاهر العولمة جدير بالخوف الذي نبثّه إياه?

هل ندرك جميعاً أن ما نشهده اليوم من مظاهر العولمة ليس بحالة حديثة العهد, وما هو إلا نتاج طبيعي لحركة التطور التي طالت النظم السياسية والاقتصادية والتكنولوجية على مراحل متعددة من السياق الزمني, وفي أماكن متعددة من العالم, لتصل إلى ما وصلت إليه من مظاهر معاصرة, يرتعد البعض لها بحجة أنها نتاج غربي بحت?

هل يدرك البعض أن العولمة اليوم ما هي إلا مرحلة الاندماج الأخيرة بين تجارب الشعوب, غثّها وسمينها, بسبب ثورة الاتصالات واختفاء عناصر المسافة والوقت في عملية تبادل المعلومات على هذه الكرة العجيبة?

فمن ينكر إفادة واستفادة الحضارة العربية الإسلامية من نتاج الحضارات الأخرى, وفي ذاكرتنا الكثير من العبر والأسماء:

في علم الرياضيات, يقتبس العالم السويسري ليونارد أويلر (1783م) بحث الخوارزمي (850 م) للحالة المستحيلة. ويستفيد إسحق نيوتن (1727م) من نظرية ذات الحدين - أدت هذه النظرية إلى اختراع الآلة الحاسبة - التي ابتكرها الكرخي (1030م), وعمّمها عمر الخيام (1121م), ودعمها الكاشي (1425م).

في علم المثلثات المستوية والمجسمة,يذكر مؤرخ العلوم جورج سارتون بوجين أن جميع مؤلفات ريجيو مونتاس الألماني الأصل(1476م.) اعتمدت على كتب علماء العرب والمسلمين, ونقل عنهم الكثير من البحوث.

في مجال العلوم الطبيعية, يقتبس العالم كبلر معلوماته في الضوء ولا سيما ما يتعلق بانكسار الجو, من كتب ابن الهيثم باعتراف العالم الفرنسي الشهير فياردو. وفي هذا المجال الكثير من الأمثلة بالاتجاهين.

نصيب من التطور

والخلاصة, أوليس للعرب المسلمين نصيب في تطور الأنظمة السلطوية والاقتصادية والاجتماعية ووصولها إلى درجات راقية من الديمقراطية, واقتصادات السوق, واحترام الآخر وحقوق الإنسان?

بلى بالطبع, والنصيب الأكبر في هذه العولمة التي لقحها تراثنا العريض, إضافة إلى تراث الآخر, لتنجب مخلوقاً عجيباً يظنه البعض قادماً من عقول المستشارين في الشركات المتعددة الجنسيات.

الأزمة الحقيقية, وبكل جرأة, أننا فقدنا هويتنا الحضارية, وهذا ما يخيفنا حقاً: إنه اليتم. والمشكلة أننا لا نملك الجرأة على التصريح بأسباب خوفنا الحقيقية الكامنة وراء ندواتنا التحليلية والتثقيفية:نخاف العولمة لأننا ما عدنا نميز فيها بين ما يخصنا وما لا يخصنا.

نخاف العولمة لأننا ما عدنا ندري أيا من التجارب التي تحضنها مرّ على مجتمعاتنا تاريخياً, وما الحكم الذي صدر بحق هذه التجارب, صلاحها أو عدمه لمجتمعنا العربي, وهل يجدر بنا إعادة التجربة من جديد?

نخاف العولمة لأننا لا نملك شركات محلية قادرة على منافسة الشركات المتعددة الجنسيات المتوطنة في وطننا, أو الزاحفة إلينا بأوجه ناعمة تخفي وراءها ما تخفي.نخاف العولمة لأننا صدقنا الكذبة الكبرى بأن مجتمعاتنا خالية من مفاهيم الديمقراطية, وحقوق الإنسان, والحفاظ على البيئة, وأننا حقاً بحاجة ماسة إلى دورات تأهيل تنقلنا إلى العصر الجديد.نخاف العولمة لأننا لا نملك القدرة على الاستفادة من حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): الحكمة ضالة المؤمن, أنى وجدها فهو أولى بها .

أجل المشكلة في هويتنا تحديداً, في طرائق تفكيرنا وحكمنا على الأمور:

لماذا نعلّم أطفالنا كيفية الاستعمال المفيد لسكين المطبخ في تقشير التفاح, ونحجم عن تعليمه الأسلوب الناجع للاستفادة من الإنترنت مثلاً كما ينبغي?! كلاهما قد يؤذي إذا أسيء استعماله, نعم, ولكن لكل منهما وجها آخر.

لماذا نهاجم الشركات المتعددة الجنسيات التي نلزّمها قطاعاتنا الحيوية, على الرغم من أننا أثبتنا للجميع, غير مرة, وفي أكثر من مكان من المحيط إلى الخليج, أننا غير قادرين على إدارة مصادر الطاقة في بلادنا العربية كما ينبغي. لماذا نرفض قدومها, وفي الوقت عينه لا نحرك ساكناً باتجاه تطوير طاقاتنا وإمكاناتنا, وكأننا بخمولنا نفتح أمامها الطريق واسعاً لتستنفد خيراتنا وأموالنا العامة, ولتسحق الاستقلالية المالية لدى مواطنينا. إن هذا كله يؤكد مرة بعد مرة, أن الضعف والهوان هو ما يدفع بنا إلى معارضة كل أشكال العولمة, بحجة هنا وأخرى هناك, فيما نحن غارقون حتى رءوسنا, وبأسوأ المظاهر التي أفرزتها العولمة على صعيد العالم. والحقيقة أننا عندما سنصل إلى رأي موحد حول العولمة أو حوار الحضارات, سوف يكون هذا الرأي وهذا الحكم متأخراً جداً, لأننا لن نجد حينها, سلطة سياسية وطنية حرة, أو اقتصادا وطنيا متماسكا غير مرهون, أو مجتمعا لا يزال يحمل في طياته صورة جميلة عن إكرام الضيف والجار, وتقدير المرأة, واحترام الآخر, والحفاظ على الحقوق.

أشكال التعمية

أما آن لنا أن نعتبر من كل الأساليب الاستعمارية التي مرت على ذاكرتنا, لنتيقن أن ما يطرح من حوار الحضارات ما هو إلا شكل جديد من أشكال التعمية التي ترمى في وجوهنا لتحرفنا عن الأولويات. الحوار كان, ولا يزال, قائماً بين الشرق والغرب,في شتى المجلات, وما العولمة إلا التعريف الكبير لهذا التداخل, ولهذا الحوار, ولتلك الدائرة الكبرى من التأثر والتأثير التي غدت تضم العالم بفضل ثورة الاتصالات. فقديماً كان يستغرق وصول الكتاب أشهراً عدة للوصول من مكان إلى آخر, أما اليوم فسرعة الضوء المذهلة نقلتنا إلى هذه المرحلة المهمة من التبادل الحضاري الذي يغطي العالم أجمع. الجوهر الحواري ما زال قائماًُ, وما تغير هو الشكل والآليات لا أكثر. من يستطيع ذكر مكان أو حضارة معزولة على وجه هذه البسيطة, سواء قديماً أم حديثاُ? لا أحد بالتأكيد...لم يتوقف الحوار بين الحضارات أبداً, إلا إذا كان المطلوب الدعوة إلى ندوة أو مؤتمر يجتمع فيه علماء عرب وآخرون من الغرب, ليبحثوا فاتورة طويلة من القضايا والمسائل, وليقدموا بياناً ختامياً يقرب وجهات النظر, ويدفع باتجاه التعاون والاحترام المتبادل, أو الأحرى الاعتراف المتبادل. ولا طائل من هذا الشكل المسرحي الموجه للحوار الواسع القائم فعلاً, عبر حركة الترجمة الجديدة, وعبر تبادل الخبرات عبر المؤسسات الدولية, وعبر تبادل الأفكار في المؤتمرات العالمية.

حوار الذات

ما نحتاج إليه حقاً, ليس الدفع باتجاه الحوار مع الغرب, بل باتجاه الحوار مع الذات أولاً, باتجاه تنقية الهوية العربية وتحديد مدلولاتها من جديد بعد أن ضاعت معالمها بين التطرف في الخطابين العلماني والديني على السواء. بأي هوية نحاور الغرب, وقد أصبحنا نسخة مشوهة عن كل ما يحيط بنا, متأثرين غير مؤثرين, وقد اضمحلت الإنجازات العربية, بعد أن هاجر جزء منها مع العقول المهاجرة إلى مؤسسات المنظمة الدولية, أو المؤسسات العالمية الذائعة الصيت حيث الأبواب المفتوحة, وبعد أن أعرض بعضها عن الظهور خوفاً من قانون باطني يدفع باتجاه المعرفة المحدودة الخاضعة للإملاء, الرافضة لكل جديد معرفي غير خاضع لشهادة حسن سلوك من الغرب المنتصر.

 

حسام محيي الدين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات