متعة الحياة في نشاطها الدءوب

متعة الحياة في نشاطها الدءوب

الحياة محطات.

وحياتي تزخر بمحطات كثيرة, في الأمكنة والأزمنة, في علاقات كثيرة وفي حوادث عدة, منها ما هو طبيعي ومنها ما هو غريب فريد, منها ما تفترّ له الأسنان ومنها ما تكفهر له الوجوه وتسودّ منه القلوب.

عندما يعود المرء بذاكرته إلى أيام طفولته ومرتع صباه, يرى نصب عينيه الحيّ الذي عرفه طفلاً والشوارع التي ترعرع فيها مراهقاً ويافعاً.

ما أراه الآن ماثلاً أمام ناظري هو مدينة طرابلس, (الفيحاء) التي أنتمي إليها - عبر أجدادي - ربما منذ أكثر من سبعة قرون على ذمة المؤرخين, وبالتأكيد منذ حوالي قرنين من الزمان, كما تشهد بذلك وثائق مديرية الأوقاف الإسلامية في المدينة.

تقبع طرابلس في سفوح أعلى جبال لبنان, في شماله, وعلى شاطئ البحر. كانت عائلتي تقطن فوق هضبة صغيرة تشرف على المدينة القديمة وتطلّ على البحر البعيد. ولاتزال بعض المشاهد الجميلة ماثلة في ذهني, مثل جبال الأرز الشاهقة التي كانت تظهر بوضوح وهي تتوهّج تحت أشعة الشمس, وبعد أيام عدة من المطر والثلوج, وهي ترتفع شامخة متلفّعة بوشاحها الأبيض الطويل الذي يبدأ أبيض يققاً وكثيفاً متلألئاً في القمم العالية ثم ينسدل ممتداً فوق الهضاب المتموجة حتى ينتشر في أهداب تصل إلى تخوم حقول الزيتون المجاورة. ولا أنسى أبداً مشهد نهر (أبو علي) الذي يمر في وسط المدينة وهو يجرّ ما حطمته الأمطار والسيول من غصون الشجر ويندفع بمياهه التي انصبغت بلون الوحول الحمراء, فيذكرنا بأسطورة أدونيس وحكاية حبّه لعشتروت وكيف قتله الخنزير البري فاصطبغت مياه نهر إبراهيم بدمائه. ولا يمكن أن أنسى البحر الواسع الذي يمتدّ إلى أبعد ما تستطيع العين رؤيته, فيكون أزرق ساكناً يتصل بزرقة السماء في الأفق أو أبيض يتموج مزيداً إذا ما هبت الرياح.

ما أذكره من أيام طفولتي محطات أخرى كثيرة: طيور السنونو وهي تحلق في بداية الخريف أو تصطف متكاتفة على أسلاك الكهرباء أمام شرفة منزلنا, وأرتال البغال تأتي بأكياس الزيتون المبللة وتطرحها أمام معصرة الزيتون بالقرب من حيّنا, ورائحة الزيت وهي تنتشر متطايرة يحملها النسيم البارد فتملأ أنوفنا الصغيرة, وضجيج أحجار الرحى وهي تدور في المعصرة وتدور بلا توقف, والشتاء المنهمر يبلل رءوسنا الصغيرة خلال الأيام الأولى من السنة المدرسية, والفيضان الذي غمر أحياء المدينة القديمة بعد أيام عدة من الأمطار الغزيرة المتواصلة, والشوارع القاتمة الحزينة والوجوه المكفهرة بعد أخبار نكسة يونيو 1967, ووفاة جمال عبدالناصر ومظاهرات الغضب والحزن الرافض. وإن أنسى لا أنسى أمسيات رمضان المتلألئة في شوارع المدينة الضيقة, حيث الناس ينشطون في الأزقة, ويتزاحمون في الدكاكين وفي المقاهي, يسهرون ويتسامرون, يصلون ويتعبّدون, حتى ارتفاع نقرات طبول المسحّرين إيذاناً بقرب وقت الإمساك.

وأذكر من هذه الحقبة الجوامع العتيقة التي شهدت انتصارات القادة المسلمين على مرّ السنين. وخصوصاً (الجامع المنصوري الكبير) الذي يتوافد إليه الأهالي زرافات ووحدانا, الأجداد بصحبة الأحفاد, والرجال فيما بينهم, كل واحد منهم يحتفظ بموقع له في باحة المسجد, هذا في الزاوية وذاك قرب الحائط, أما الآخر فقد أخذ مكان والده الذي توفي أخيراً بجوار المنبر, في حين يأبى ابن عمه إلا أن يصلي لصق الصندوق الذي يحضن خصلةً من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم, وكانوا جميعهم يأتون خاشعين لقراءة القرآن, أو للاستماع لدروس الشيخ, أو لإقامة صلاة التراويح.

وأجمل ذكريات الطفولة أيام عيد الفطر السعيد, حيث كنا نقضي آخر أيام رمضان المبارك ونحن نبحث في الأسواق المزدحمة عن الثياب الجديدة. وننتظر في آخر يوم أن تدوّي المدافع معلنة نهاية شهر الصوم, فنتزاحم في البيت أنا وأخوتي في الصالون الكبير لنفرش الجاكيت والبنطال على الأريكة الكبيرة ونضع الحذاء اللماع الجديد أمامها. وفي صبيحة العيد, كنا نزحف مع الزاحفين إلى المقبرة, الرجال يدخلون من باب والنساء من باب آخر. أما الأولاد فلا يعرفون مع أيّهم يدخلون, فمنهم من يتأنى في مشيته خشية اتساخ الثوب البهي, ومنهم من بدأ يعرج قليلاً من شدة ضيق الحذاء الجديد. وبعد قراءة الفاتحة أمام شواهد القبور, كنا نعود لنأكل الكعك الساخن ونركب الأراجيح ونحن نغني: (يا حج محمد يويو, قديش مصمّد, يويو, مصمد مصريّة, يويو,....).

رمال طرابلس

من يزور طرابلس لابدّ له من المرور بـ(قهوة التل العليا), المقهى العتيق الذي يربض على ربوة صغيرة في وسط المدينة. كان هذا المكان أيام شبابنا موئل تلامذة المدارس وطلاب الجامعات ومحجة المثقفين والمفكرين. عند اقتراب موعد امتحانات آخر السنة, كنا نذهب إليها ونقضي اليوم بطوله تحت الأشجار الضخمة الباسقة, نرتشف كوب الليمونادة, ونحن نعصر أدمغتنا في حلّ مسائل الحساب والهندسة, أو نقلّب صفحات الكتب نتفرّس في مكنوناتها, ونحاول أن نُدخل مضامينها في عقولنا الناشئة. وكنا إذا ما تعبنا من كثرة الجلوس نزرع الأرض المفروشة بالرمال الناعمة جيئة وذهابا والكتب في أيدينا وعيوننا شاخصة في رءوس الأشجار, وشفاهنا تردد بصمت تاريخ المعارك أو شعر المتنبي أو نظرية الذاكرة أو فلسفة ابن سينا. كان هذا المقهى مدرسة كبيرة. كان الصغار يطرحون على الكبار الأسئلة لحل ما أشكل عليهم من مسائل ونظريات, فإذا ما أسقط في يد هؤلاء كانوا يتوجهون بخفر إلى الجانب الآخر من المقهى لطلب رأي أحد الأساتذة الذين كانوا يطالعون الصحف أو يقرأون المجلات أو يتجادلون في مصير الأمة العربية.

* * *

(إياكم والسياسة يا أبنائي, فالسياسة ما دخلت شيئا إلا أفسدته).

تلك هي الكلمات التي كان والدي - رحمه الله - يرددها على أسماعنا أنا وأخوتي بين الحين والحين, وكلما صادف من بين أصدقائنا مَن تستهويه السياسة أو ينجرف في تجمعات حزبية أو أيديولوجية. لكنه كان يردّدها أقل بكثير من طرائف اللغة العربية وأخبار الشعراء, والقصائد العصماء, والاكتشافات المعاصرة وغيرها. فنشأت في بعدين اثنين: كرهٌ للعمل ضمن الأحزاب السياسية التي لا يمكن في بلادنا هذه إلا أن تكون (دولاباً) يعلو بك تارة فتعيش في الرفاهية والنعيم وينزل بك تارة أخرى فتطأك الأقدام وينساك الناس. أما البعد الثاني, فكان الشغف بالقصيدة العربية, والكلف بأخبار العصاميين من رجالات تاريخنا, وحبّ اللغة, والفضول العلمي, والاهتمام بكل ما هو جديد.

كان والدي مدير مدرسة ابتدائية. وكان ينتمي إلى جيلٍ من رجالات الفكر في طرابلس بلبنان, جيل من الأساتذة والمفكرين الذين كانوا يعودون في جذورهم إلى أعماق التاريخ العربي الإسلامي وينظرون بأعينهم إلى آفاق العلوم الحديثة وطرائق التفكير العلمي الحديث الآتية من الغرب, فلا يجدون بين هذه وتلك أي تناقض أو تنافر. كانوا في الحقيقة ضمامة من المتنورين الذين أنبتتهم على عادتها طرابلس, مدينة العلم والعلماء.

أما أمي, رحمها الله, فقد كانت من النساء القليلات اللواتي دخلن المدرسة وتعلمن. كانت تجيد العزف على البيانو, وتتكلم الفرنسية والإيطالية, كما كانت ماهرة في التطريز وفنون الطبخ. أذكر أنها كانت تردّد قائلة لأبي: (لديك أشبال وأنا الكفيلة بأن يصبحوا أشدّ من الأسود). لكن المرض عاجلها واستبدّ الموت في أوصالها فأطفأ في عينيها نور الحياة وغادرت الدنيا وأطفالها لايزالون صغاراً لم يقوّ عودهم ولم يعتادوا بعدُ الأنواء التي تعصف بسفينة الحياة.

وما أحفظه في صدري عن والدي هو أنه كان يجلس دائماً على (الدشكة) ورأسه مرفوع والنظارتان فوق أرنبة أنفه, وهو يقرأ مجلة (العربي) أو كتاباً من كتب (الهلال), وكان يفخر أنه يملك أعداد (العربي) كلها, من العدد الأول وحتى آخر ورقة صدرت منها, وأنه يشتري كل إصدارات (كتاب الهلال) ويقرأها منذ سنين عدة.

في مثل هذا الجو ترعرعت, فنشأت وجذوري ضاربة في أعماق تراثنا الإسلامي ولغتنا العربية, وعقلي منفتح للغات الأجنبية ومناهج الفكر الحديث. الحقيقة أنني كنت بين اتجاهين. كان هناك, من جهة, أبي الذي كان يقول لي (العربية يا أبي, لا تنسها فهي قلبك وينبوع وجودك وأساس دينك), وأخي الأكبر (ماجد) الذي كان يحدّثني دائما في بلاغة الشعر العربي ودقة معانيه ويفاضل بين معاني هذه القصيدة وموسيقى تلك. ومن جهة أخرى, كانت هناك الموجة أو موضة أواسط الستينيات التي كانت تحبب اللغة الأجنبية, والفرنسية خاصة, إلى قلوب الناس. وقد كان لهذين الاتجاهين أن أصابني شغف القراءة في اللغتين. فقرأت أمهات الكتب في الأدب الفرنسي, من أعمال فلوبير وبلزاك إلى روايات كامو وأندريه جيد وأنا مازلت يافعاً. ولكنني لم أنس أن أقرأ أيضاً لطه حسين وأحمد أمين وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة, وخصوصاً للمنفلوطي وتوفيق الحكيم. وكان كل ذلك قبل أن أدخل الجامعة اللبنانية حيث استغرقني تخصصي بآداب اللغة الفرنسية فابتعدت عن العربية وأدبها. ولكن إلى حين.

عندما كنت صغيراً كنت أريد أن أصبح طياراً أو أستاذاً جامعياً ومؤلفاً. فتحقق الحلم الثاني, فأنا اليوم أستاذ في الجامعة اللبنانية أدرس فيها منذ أكثر من ربع قرن, وباحث في مجالات علوم اللغة والترجمة وعلاقاتهما بالفكر والنفس والمجتمع, ومؤلف أكتب الأبحاث وأنشر الدراسات. لكن الحلم الأول لم يخب تماماً. ذلك أنني أضطر غالباً إلى ركوب الطائرة للمشاركة في الندوات والمؤتمرات في مختلف أصقاع العالم.

مساحة فرنسية

إذا كان لطرابلس, مسقط رأسي, الموقع الرئيس في طفولتي ومراهقتي, فإن لمدينة (ليون) بفرنسا مكانة أخرى في حياتي, ولهذا - بالطبع - خصاصة في قلبي. عندما وصلت إليها لأول مرة, كان الطقس مكفهراً, والسماء تمطر, والغيوم متلبدة تكاد تلامس رأسي. ولم يكن اللقاء الأول بيني وبينها جميلاً. لكنني أحببتها شيئاً فشيئاً. أو لنقل إنها قدّمت لي من الإغراءات ما جعلني أتعلق بها وأعود إليها كلما سافرت إلى الخارج. هناك الأشجار الخضراء المصطفة على نهر (السون) الذي يجري بطيئا لا تسمع له هديراً ولا تعرف في أي اتجاه يسير. إنه النهر الحالم حيث يتنزه العشاق ويتقابل المتواعدون. وعلى العكس منه هناك نهر (الرون) الذي يجري مندفعاً باتجاه الجنوب تملأه الأمواج الغاضبة ويتسارع على جسوره أناس يزحمهم العمل ويلاحقهم الزمن.

وعلى العكس مما يجد الطالب في العاصمة باريس, وجدت في مدينة ليون الهدوء الذي يحتاج إليه الباحث, والسكينة التي يبحث عنها كل عالم. فقضيت فيها أياماً وسنين, بين مكتبة الجامعة التي تزخر بالمخطوطات والدراسات والمجلدات وغرفتي في المدينة الجامعية حيث كنت أنقر على الآلة الكاتبة نتائج أبحاثي. ولم أنس نصيبي من الدنيا, ففي هذه المدينة الكثير من الحدائق, والمتنزهات, وشوارع المشاة, ودور السينما والملاهي, وكذلك عدد من الأصحاب والصويحبات. وإذا كان أهل هذه المدينة الأصليون من الطبقة البورجوازية الغنية المعروفة بانكماشها وابتعادها عن الاختلاط بالغرباء, وهم قلّة, فإن معظم قاطنيها من مدن فرنسية أخرى أو من الريف, وهم بذلك وافدون عليها, كما كنت أنا. لذلك لم أجد صعوبة في الاختلاط بعدد لا بأس به من سكانها, فنمت بيني وبينهم أواصر الصداقة والأخوّة الدائمة. وكان من أهمهم الأستاذ الذي حضّرت شهادتَيْ الدكتوراة (الحلقة الثالثة ودكتوراة الدولة) تحت إشرافه والذي أصبح فيما بعد من الأصدقاء الحميمين, وهو ميشال لوغوارن, صاحب نظرية التحليل الدلالي للصور المجازية وصاحب الدراسات العميقة في لسانيات الخطاب الأدبي وعلم منطق الدلالة.

مداعبة اللحظات

دخلت لأول مرة إلى القاعة التي كانت تعقد فيها الندوة الأسبوعية في جامعة ليون الثانية, وكانت بعنوان: (علوم اللغة ولسانيات الخطاب). كان قلبي يخفق من الرهبة مما ينتظرني. جلست في نقطة من الدائرة الكبيرة, وأخذت أنظر إلى الحضور. كانوا كلهم من أساتذة الجامعة, وكان من بينهم, وهم قلّة, عدد من الطلاب الباحثين الذين يحضّرون مثلي شهادة الدكتوراة.

وجوه شاحبة, وعيون غائبة عميقة تنظر في عالم بعيد عني, أو أنه قريب ولكنني لا أراه, هناك إلى يساري وجه كحدّ السيف, الشفتان دقيقتان لا تكادان تلامسان الغليون الذي تطبق الأسنان عليه بعصبية. تخيلت أن صاحبه خرج من المستشفى لتوّه أو أنه مصاب بمرض عضال. على يميني, كان كبيرهم ذو الشعر الأبيض الكثّ. كان يضع في فمه, هو كذلك, غليوناً أبيض كبيراً على شكل رأس شيخ هرم. كان معظم الحاضرين يدخنون الغليون. حتى الفتاة ذات الرأس الصغير التي تجلس أمامي, كانت تضع أمامها غليوناً صغيراً. الحقيقة أنني لم أفهم شغفهم جميعاً بهذه الآفة إلا في وقت لاحق, أي عندما أخذتني أنا كذلك - أنا الذي أكره الدخان والذي كنت أسمع والدي يقول إن الدخان لو كان موجوداً في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لمنع تجارته واستعماله, عندما أخذتني أنا أيضاً - الرغبة في تدخين الغليون, تماماً مثلما يفعل الأستاذ ذو الرأس الأبيض الكبير.

تساءلت: هل سأصبح مثل هؤلاء? عيون هائمة في عالم مجهول, وأجسام ضامرة, وأفواه مشدودة لا تعرف الابتسامة إلا إذا وجد صاحبها في نظرات الآخرين الاعتراف بأنه فاقهم في تحليل, أو بزّهم بفكرة, أو سبقهم إلى استنتاج.

كان انطباعي الأول نفوراً من هذا الجو واستنكاراً له. خصوصاً بعد أن سمعت أحدهم يقول: (والله لم أنم ليلة البارحة, لقد كانت كدسة الكتب التي عليّ أن أقرأها قد تعدّت عشرة مؤلفات. فبقيت الليل قائماً حتى انتهيت من قراءة كتابين منها). كذلك قال آخر: (لو لم يكن من واجبي قراءة كتاب فلان لرميته من النافذة, لكنني بقيت حتى الرابعة صباحاً وقرأته حتى آخر صفحة. والله إنه لا يُحتمل).

تساءلت عندها: ولماذا هم مجبرون على قراءة هذه الكتب? أفلا يستطيعون طرح هذا الكتاب الذي لا يستسيغونه جانباً وقضاء الأمسية أمام التلفاز? ولم أستطع الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد مرور أشهر عدّة, عندما أصبحت لا أرى كتاباً في اللسانيات إلا وقرأته, وعندما أصبحت أغادر باكراً قاعة التلفاز المخصّصة للطلاب في المدينة الجامعية حتى أستطيع أن أقضي الليل في قراءة أمهات الكتب اللغوية وتتبع أحدث الدراسات اللسانية. وأستطيع القول إن إقامتي في هذه المدينة قد علّمتني الكثير, وخصوصاً فيما يتعلق بمنهجية التفكير ودقّة التحليل. وأضيف أنها علّمتني أن العمل الفردي ناقص دائما, وأن أفكار الباحث تزداد عمقاً واتساعاً إذا عرضها وناقشها على زملائه من ذوي الاختصاص. لذلك اعتدت منذ تلك الفترة أن أعرض مشاريع الكتب التي أود تأليفها على زملائي حتى يشاركوني فيها, أو أسألهم عن المشاريع التي يفكرون بها عارضاً عليهم المشاركة.

حرقة الأفئدة

الموت حقّ. وردّه من المُحال.

لكنه عندما يأتيك في أوقات لا تنتظره فيها, وعندما يخطف أشخاصاً في ربيع العمر أو أناساً تتعلق حياتك العاطفية أو العملية بهم, عندها يكون الموت موجعاً وأليماً يزرع الحرقة في الأفئدة والجزع في النفوس, فيضطرب النظر وتتشوش الرؤية وتنطبع في القلب بقعة سوداء لا يقوى مرور الزمن على محوها, ولا ملذات الدنيا على النيل منها, ولا الجدّ والعمل الدءوب على نسيانها.

أول محطة للموت في حياتي كانت وفاة أمي وأنا في الثامنة من عمري, لا أذكر من تلك الفترة سوى أنني كنت كفارس رأسه في السماء يناطح السحاب وصدره مرفوع يصارع الرياح, فإذا بضربة قوية تصدم جبينه وتطيح به أرضا فلا يدري ماذا جرى ولا أين كان ولا كيف سيكون.

ثم جاءت المحطة الثانية, كانت وفاة ابن عم لي وهو زهرة لم تكن قد أينعت. كنا في عمر واحد لا يمر يوم إلا وذهبت لرؤيته أو جاء هو لزيارتي. كنا نقضي أوقاتنا معا نذهب إلى المدرسة, نتنزّه في حقول الزيتون المجاورة للمدينة أو في شوارعها المكتظة بالمارة والبائعين, وكنا نتحدث في الدراسة والحياة والمستقبل ومغامرات المراهقة والشباب. ثم اختفى.

اختفى وهو لايزال على مقاعد الدراسة الجامعية. فذهب وكأن جزءاً من نفسي قد قضى.

وأخيراً, منذ سنوات عدة, كاد الموت أن يخطف زوجتي, وهي أم لثلاث بنات لم تبلغ كبراهنّ الحادية عشرة من عمرها. لكن الله لطف بما جاءت به المقادير, فعادت إلى الحياة الطبيعية بعد أن يئس الأطباء وأعيتهم الحيلة من شفائها.

* * *

تلك هي أماكن نشأت فيها, وتلك هي أزمنة أساسية وحوادث رئيسة خطرت ببالي عندما بدأت أفكر فيما أثر في تكوين شخصيتي العلمية والذاتية. وإذا ما أردت أن ألقي نظرة شاملة على حياتي لوجدت أن اقتراب الموت ممن أحب جعلني أؤمن بأن العمل الدائم والنشاط الدءوب هما ما يعطي للحياة معناها وما يجعل من الدنيا طريق الإيمان الصحيح. كذلك, فإن نشأتي في عائلة عريقة في العلم وفي مدينة معروفة قديماً وحديثاً بأنها منبع المثقفين والمفكرين, من ناحية, ومن ناحية أخرى, انتقالي إلى مدينة كبيرة في أوربا ومواكبة العلماء فيها, هما قطبان جعلا مني جسراً يصل في الصميم بين الشرق والغرب, فأنا اليوم أجمع في داخلي بين الإيمان والجديّة, وبين الدقة في التحليل والمنهجية في التفكير.

 

بسام بركة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





 





 





 





 





لوحة لمدينة ليون الفرنسية





لوحة أخرى لمدينة ليون