مثال آخر على أمانة العرب العلمية.. الحيوان بين أرسطو والجاحظ

مثال آخر على أمانة العرب العلمية.. الحيوان بين أرسطو والجاحظ

إذا كان لكل إبحار في التراث القديم عربيا كان أم أجنبيا, من هدف لحياتنا المعاصرة, فإن الهدف من دراستنا المختصرة للحيوان بين فيلسوف اليونان أو المعلم الأول أرسطو, وكاتب العرب الجاحظ, هو تتبع مسيرة الجهد الفكري المبذول في دراسة واحدة لباحثين كبيرين, أحدهما يمثل الحضارة الأوربية في أوج عظمتها, والثاني أديب يمثل الحضارة العربية في كمال نضجها, لنتأمل معا كيف تعامل أرسطو كعالم ومفكر مع هذه المادة? وكيف تناولها من بعده الجاحظ بأمانة كأديب وناقد, فاستوعبها, وهضمها واتخذ منها موقفا انتقاديا, فرفض أغلبها واتفق مع أقلها, وصاغ بنيانا فكريا يرجع إليه الباحثون? ثم كيف تلقاها الباحث المعاصر, فأجرى قلمه فيها محققا وشارحا وناقدا ومقارنا? وكيف تكون مشروعية الرجوع إلى المصادر رجوعا أمينا.. يقره المنهج العلمي, ويرتضيه التذوق الفني? والأهم كيف تكون هذه الجهود السابقة دروسا مستفادة في حياتنا الثقافية المعاصرة بعد ذلك?

والمرء يعجب حين يرى عالما وفيلسوفا ومفكرا مثل أرسطو ينفق عددا من أحلى سنوات عمره في دراسة موضوع واحد هو الحيوان ليغطي بحثه فيه ثلاثة مجلدات, ويزداد عجبا حين يرى أديبا وناقدا ولغويا مثل الجاحظ يقتطع عدداً من أنضج سنوات عمره في البحث عن الموضوع (الحيوان) ليغطي بحثه سبعة مجلدات, فيتناول طباع الحيوان بالبحث والملاحظة, بالتجربة والنظر بلا تمييز بين أكبرها شأنا لضخامته أو أصغرها حجما حيث يقول الحاحظ: (وليس الذي يعتمد عليه من شأن الحيوان عظم الجثة, ولا كثرة العدد, ولا ثقل الوزن) ذلك لأن الجاحظ كان يرى أن حكمة الخالق - عز وجل - في خلق النملة أو البعوضة لا تقل عنها في خلق الفيل أو الإنسان, بل ربما تكون أكبر شأنا إذا تدبرنا دقة أجزائها, وصغر مكوناتها, ولا بأس في ذلك. فالباحث القديم يونانيا كان أم عربيا, هو الذي يتناول الكون من حوله بجميع مكوناته ودقائقه وتفصيلاته, بحثا وتأملا ونظرا, متخذا من كل دقائقه وسيلة للاعتبار.

ولعلنا نتتبع ذلك الجهد العظيم في دراسة واحدة من موضوعها الحيوان مسترشدين بقراءة مجلدات الحيوان للجاحظ تحقيق الأستاذ عبدالسلام هارون, وطباع الحيوان وأجزائه لأرسطو تحقيق د.عبدالرحمن بدوي, ودراسة مستفيضة ومهمة جدا عن الحيوان للدكتورة وديعة طه النجم وغير ذلك من مصادر. من كل ذلك نتبين ضخامة هذا الجهد المبذول للكشف عن حقائق الأشياء, كما نتبين أن خطوات هذا الجهد بدأت منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام, حيث إن علماء اليونان قد سبقوا أسلافنا العرب إلى التأليف في علم الحيوان. فهناك كتب يونانية قديمة قبل أرسطو منها علم الحيوان لمؤسس علم الذرة (ديمقريطس). كما أن هناك كتبا عربية قبل الجاحظ عن الحيوان أهمها كتاب الحيوان للدميري.

على أننا نتوقف عند أرسطو الذي رسم لمادة الحيوان منهجا علميا متكاملا وغاية معرفية محددة - كما يقرر د.عبدالرحمن بدوي غطت الفصول التسعة عشرة للمجلدات الثلاثة, تناولت الفصول العشرة الأولى منها طباع الحيوان وطرق معيشته, وأعضاء التغذية فيه وبيئاته وإقامته وهجرته, مبتدئا بالإنسان, وكل ما يتصل بأعضائه الظاهرة والباطنة, ومتنقلا إلى جميع أنواع الحيوان في البر والبحر والجو, فيركز في الفصلين السابع والثامن على أسس علم النفس الحيواني, وتخصيص التاسع والعاشر لبحث موضوع الإنسان حيث يتناول تناسل البشر والإنجاب, وطبيعة التوالد, وأسباب العقم وبهذا ينتهي المجلد الأول, يليه المجلد الثاني ويشتمل على الفصول من الحادي عشر إلى الرابع عشر وتضمن البحث عن أجزاء الحيوان ليس من الناحية التشريحية بل من ناحية الأسباب التي حددت تركيب الحيوان وفقا لغايات معلومة ودراسة هذا التركيب من حيث تهيئته الطبيعية كي يؤدي الوظيفة المنوطة به.

كيف وصل?

ننتقل بعد ذلك إلى المجلد الثالث من كتاب أرسطو عن الحيوان الذي يشتمل على الفصول من الخامس عشر إلى التاسع عشر, وفيه يتناول أرسطو موضوع تكوين الحيوان, فيبحث في توالد الحيوان وتقسيمه إلى ذكر وأنثى, وأسباب اختلاف الأجنة مستعرضا أقوال من سبقوه من فلاسفة اليونان ومستفيدا منها ومقدرا إياها حق قدرها.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف وصل كتاب (الحيوان) لأرسطو إلى الجاحظ الذي لا يعرف اليونانية? وتجيبنا أغلب المصادر بأن ابن البطريق هو الذي قام بترجمة هذا الكتاب إلى العربية عن اليونانية التي كان يتقنها, فقد عاش ابن البطريق في الدولة العباسية, وهو عصر بلغت فيه حركة الترجمة إلى العربية أوجها. حيث خصص لها والقائمين عليها بيت هو (بيت الحكمة) الذي جعل منه المأمون مركزا لنشاط ثقافي واسع, وقد أسهم ابن البطريق - بعد أن اعتنق الإسلام - إسهاما جليلا في حركة الترجمة, كما يشير إلى ذلك ابن النديم في كتابه (الفهرست) أنه خرج إلى بلاد الروم مع مجموعة بأمر الخليفة المأمون, واقتنوا من الكتب الأجنبية وأهمها اليونانية ما استطاعوا حمله, ليأمرهم المأمون بنقلها إلى العربية.

وقبل تبين كيفية تعرف الجاحظ على كتاب الحيوان لأرسطو, والفرق بينه وبين كتابه عن الحيوان, لنا أن نتعرف على الجاحظ وكتابه.

فالجاحظ الذي عاش ما بين (775 و 868م) حياة امتدت إلى ما يقرب من التسعين عاما, واستوعبت فترات حكم اثنى عشر خليفة عباسيا. كان بحق زعيما للبيان العربي في عصره بلا منازع, فقد كشف في كتاباته عن اتساع في الرؤية, وبراعة في النقد, وأمانة في الوصف, ودقة في التصوير, وميل إلى الفكاهة, مختارا لألفاظه وضوح الأداء, ولجمله إمكانية الازدواج وتوازنه, ولعبارته حلاوة التنغيم وعذوبته, ولمعانيه دلالة الهدف وشرفه, معتمدا في كل ما يكتب على الحوار والجدل المنطقي, موسعا نطاق الكتابة الأدبية باستخدام اللغة المنثورة بدلا من اللغة الشاعرة. فلم يترك موضوعا إلا وكتب فيه حتى قيل إنه ألف ما يقرب من الثلاثمائة وستين كتابا. مصورا فيها جميع مظاهر النشاط الفكري والوجداني لعصره.

خمسة مراجع

وأما عن كتاب (الحيوان) للجاحظ, فهو خير مثال للثقافة العربية الإسلامية في العصر العباسي, صحيح أنه قد سبقته وعاصرته كتابات عربية عن الحيوان. إلا أن ذلك لم يكن من أجل القصد العلمي, وإنما أريد بها التفسيرات اللغوية, فكتاب الجاحظ عن الحيوان كتبه صاحبه لهدفين هما: البحث عن حقائق الكون, ثم توصيل هذه الحقائق للناس, وقد التزم الجاحظ بهذين الهدفين كمنهج سار عليه أثناء التأليف.

وعلى ذلك فالكتاب خليط من المعارف أو معرض لشتى المعتقدات, أو هو باختصار موسوعة أدبية, أو معلمة واسعة قام بها الجاحظ بمفرده. ومن تقديمه لكتابه يوضح لنا الجاحظ مراجعه الخمسة وأولها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة, وثانيها الشعر العربي, وثالثها كتاب الحيوان لأرسطو ذاكرا إياه بقوله (صاحب المنطق) أو باسمه أرسطو ولا يتحرج من ذلك, ورابع هذه المراجع هو هذا الحوار الكلامي للمعتزلة. فالكتاب معرض طريف للحوار الأدبي بين المختلفين في الرأي. بحيث لا يفسد هذا الاختلاف في الرأي للود قضية. وخامس هذه المراجع الخبرة الشخصية حيث كان الجاحظ يسأل عما يجهل من المعارف العامة.. حتى أبسط الناس.

ومن هذه المراجع الخمسة يتبين لنا - عند المقارنة - بين كتاب أرسطو عن الحيوان وكتاب الجاحظ أوجه الاختلاف في الرجوع إلى المصادر يضاف إليها الدوافع الحقيقية التي جعلت الجاحظ يؤلف كتابا عن الحيوان على اعتبار أن لكل كاتب حقيقي دوافع لما يكتب, وإذا بحثنا عن دوافع الجاحظ لتأليف هذا الكتاب نجد منها المباشر, ومنها غير المباشر. فالمباشر هو ما أشار إليه الجاحظ صراحة حول ما يدور من مناقشات بين المتكلمين في كل موضوع, حيث دون الكثير من هذه المناقشات, ومن بينها مناقشة دارت بين شيخين من المعتزلة, أحدهما ينتصر للكلب, والآخر ينتصر للديك, وقد بنى الجاحظ قدرا كبيرا من مادة كتابه على هذه المناقشة.

أما الدافع غير المباشر لتأليف الجاحظ هذا الكتاب هو كون الجاحظ نفسه متكلما من المعتزلة ينطلق تفكيره من مبادئ الاعتزال التي تقول بالتوحيد, كما تقول بالعدل وحرية الإرادة, ومفاد ذلك أن يكون للكاتب - أي كاتب - دوافع لما يكتب.

أوجه الاختلاف

وإذا بدا لنا شيء من الاختلاف بين منطلقات كتاب الحيوان للجاحظ وسابقه عن الحيوان أيضا لأرسطو فإن ذلك يطرح تساؤلات منها: كيف رجع الجاحظ في كتابه عن الحيوان إلى كتاب أرسطو? هل كانت منقولاته من كتاب أرسطو عملا علميا مشروعا أم أنه كان مجرد سطو وسرقة? باختصار ما مدى مشروعية رجوع الجاحظ إلى أرسطو في مادة كتابه عن الحيوان?

للإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها بنبغي الرجوع إلى المصادر السابقة التي ذكرناها الخاصة بكتابي الحيوان لأرسطو والجاحظ, ثم تأثير الأول في الثاني للدكتورة وديعة طه النجم. حتى يتبين لنا أوجه الاختلاف بين الكتابين.

فصحيح أن الجاحظ رجع إلى أرسطو, وصحيح أيضا أنه نقل عنه بعض ما كتب عن الحيوان. ولكن لم يكن كتاب أرسطو عن الحيوان هو مرجعه - أي الجاحظ - الوحيد بل كان واحدا من خمسة مراجع ذكرناها أولها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة, وثانيها أشعار العرب وأقوالهم, وثالثها كتاب الحيوان لأرسطو, ورابعها كلام المعتزلة ومنهجهم في التفكير, وخامسها ما سمعه من الناس كخبرة شخصية.

وكان الجاحظ حين يرجع إلى أرسطو لا يكتفي بذكر اسمه ضمن المراجع الخمسة التي سجلها في مقدمة مجلداته السبعة عن الحيوان, وإنما يذكره أيضا في صلب كتابه حتى إذا نقل عبارة أو فقرة لا تزيد أحيانا على السطر الواحد يشير إلى ذلك صراحة حيث ينسبها إلى صاحبها أرسطو حتى بلغت إشاراته إلى أرسطو أو صاحب المنطق أكثر من سبعين إشارة, كما جاءت إشاراته إلى كتاب الحيوان لأرسطو في تسعة مواضع, هذا إلى جانب إشاراته الضمنية حين يريد التلميح إلى سابقيه ممن اهتموا بالكتابة عن الحيوان سواء أرسطو أو غيره. كما يقول مثلا في تصنيف الحيوان: (.. ولو إن الحكماء وضعوا لكل ما ليس بنامٍ اسما, كما وضعوا للنامي اسما لاتبعنا أثرهم, وإنما ننتهي إلى حيث ما انتهوا إليه). وواضح هنا أن الجاحظ ملتزم بما انتهى إليه الحكماء السابقون. مؤكدا أنه لم يبتدع تصنيفا للحيوان, وإن كانت له في تفاصيله اجتهادات تخضع لمناهج عصره, ولذوقه الشخصي المتأثر بالأدب ولغاياته التعليمية وهو ما يختلف عن كتابات أرسطو.

وطريقة الجاحظ في النقل عن أرسطو كانت تميل أحيانا إلى تسجيل المعنى العام, وقد تظهر الحقائق عند أرسطو متفرقة, ولكنها تبدو عند الجاحظ مركزة, وقد يعقب الجاحظ على روايات أرسطو أو يشك فيها حيث لم تقف هيبة أرسطو العلمية حائلا منيعا من أن يتخذ الجاحظ موقف الشك أو الرد أو النقد لهذه الروايات التي نقلها عن أرسطو لا أن يأخذها هكذا على سبيل الحقائق العلمية التي لا تقبل الشك!

المزج الذكي

ويتفاوت موقف الجاحظ من هذه المنقولات عن أرسطو التي أثارت ارتيابه بين مفكر أو موازن أو متردد عن إعلان الحكم الصريح. فالجاحظ قبل كل شيء كاتب يعرف أن للشك حدودا ودرجات, وقد يمنع بعضها من بلوغ الغاية العلمية. وكذلك يدرك قيمة ما يبذله غيره من جهد فيما يكتب حتى إذا لم يستطع أن يصدق, فإنه لا يواجه هذا الغير بالتكذيب الصريح لا لأن ذلك من أدب العلماء فحسب, ولكن لأن التعامل مع مفكر جليل مثل أرسطو يقتضي أسلوبا مناسبا. فهو حين يشك في أمر من الأمور التي أوردها أرسطو فإنه يلتمس لأرسطو العذر فيرجع ذلك إلى سوء نقل المترجمين تارة أو لأنهم لم يكونوا على مستوى علم أرسطو تارة أخرى.

ومع هذا التفاوت, في موقف الجاحظ يبقى هدفه الأساسي الخاص بحب الاطلاع وطلب المعرفة, والبحث عن الحقيقة, ذلك لأن الجاحظ لم يكن مجرد (ناقل) لا يعبأ بالنصوص التي ينقلها, وإنما كان في الأصل مبدعاً له شخصيته المميزة, ومذاقه الفني ومن هنا جاء كتابه عن الحيوان محاولة للجمع والتمحيص, واتخاذ المواقف النقدية الإيجابية تجاه المادة التي توافرت لديه يضاف إلى ذلك محاولته في تقريب كل ما ينقله عن المراجع المختلفة ومنها كتاب أرسطو إلى ثقافة عصره, حتى يمنح هذه المادة حيوية خاصة تجعلها ذات أهمية في زمانه وما بعد زمانه.

ولذلك, راح يمزج المادة العلمية التي ينقلها مزجا رائعا, بملاحظاته الذكية, وثقافته الواسعة, ولغته العربية, مدركا تماما أن الكاتب بحاجة إلى علم دقيق بلغته, وإلا فما فائدة علم لا ينفع صاحبه?!

وعلى هذا الأساس من الفهم الواعي لحقيقة ما يصنع, يرجع الجاحظ إلى كتاب الحيوان لأرسطو, رجوعا علميا أمينا, حتى أن د.وديعة طه النجم ترصد منقولات الجاحظ عن أرسطو في ثبت علمي دقيق فتكون منقولاته في مجلده الأول ثلاث فقرات, وفي مجلده الثاني عشرين فقرة, وفي الثالث واحدة وعشرين فقرة, وفي الرابع تسع عشرة فقرة, وفي الخامس سبع فقرات, وفي السابع سبع فقرات.. وذلك في نقل حرفي أو بتصرف وبالمثل تقدم ثبتا علميا آخر للنصوص التي نقلها عن أرسطو محرفة أو مختلفة اختلافا واضحا.

وهكذا نجد رجوع الجاحظ في كتابه (الحيوان) إلى كتاب أرسطو عن الحيوان يقدم مثلا من أمثلة الأمانة العملية, إلى جانب كون هذا الرجوع بخطواته التي أشرنا إلى بعضها يعتبر درسا مفيدا لحياتنا الثقافية المعاصرة في كيفية الرجوع إلى مصادر وأعمال الآخرين.

 

سامح كُريم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات