المزارع العمودية.. جنائن معلقة جديدة

بنى الملك نبوخذ نصر حدائق بابل المعلقة سنة 600ق.م تقريبًا. ومن أجل هذه الغاية شيّد قصرًا كبيرًا وزرع على سطحه كمية كبيرة من النباتات والأزهار ذات الألوان الجذّابة، حيث غطت شكل القصر كله، فبدا وكأنه جبل مزروع بالنباتات والأزهار. كما زُرعت الأشجار والأزهار فوق أقواس حجرية بلغ ارتفاعها 63 مترًا فوق أسطح الأراضي المجاورة للقصر. وشكّلت هذه الأقواس مجموعة من المدرّجات الصخرية الواحد تلو الآخر على امتداد أربعة فدادين، وكانت تروى جميعها من نهر الفرات بواسطة نظام ميكانيكي معقّد.

كانت هذه الجنائن المعلّقة أول شكل من أشكال المزارع العمودية، ومن ثم أدخل الدكتور «دي بوميي» Despommier هذا المفهوم إلى القرن الواحد والعشرين. وكان «دي بوميي» أستاذًا في جامعة كولومبيا في نيويورك متخصصًا في علم الإيكولوجيا الطبية، وهو علم تفاعل البيئة مع الصحة البشرية. وقد أسس لفكرة المزارع العمودية مع مجموعة من طلابه في 1999. يرتكز هذا المفهوم على المنطق التالي، عندما تقلّ الأراضي في المدن المزدحمة يكون الحل بالبناء صعودًا ويسمح ذلك بتجميع البيوت والمكاتب في مساحة محصورة. تواجه البشرية الآن مشكلة مشابهة على الصعيد العالمي، ومن المتوقع أن يزداد عدد سكان العالم إلى 9.1 مليارات نسمة عند حلول عام 2050 وفق إحصاءات الأمم المتحدة. ومن أجل إطعام هذا العدد الهائل من السكان، يجب زيادة إنتاج الغذاء بنسبة 70 في المائة، وذلك حسب منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة. ولابد أن يتكون ذلك من خلال كمية أكبر من المحصول، ومساحة أوسع من الأراضي الزراعية. ولكن الأراضي الزراعية محدودة كما أنها موزعة بطريقة غير متساوية. وبهذا يكون الحل بزيادة المساحات الزراعية من خلال البناء صعودًا أو عموديًا.

 

الزراعة المائية

تعتمد هذه المزارع على تقنيات الزراعة المائية الـHydroponic حيث تتم زراعة النباتات في محلول من الماء والمغذيات أو الزراعة في نوع من الغشاء يحتوي على المغذيات الـAeroponic. وفي كلتا التقنيتين ليست هناك حاجة لاستخدام التربة. وتستخدم هاتان التقنيتان كميات أقل من المياه من تقنيات الزراعة التقليدية، وفي بعض الأحيان قد تصل تلك النسبة إلى 90 في المائة أقل من المياه الضرورية في الزراعة التقليدية، وذلك لأن تلك المزارع تعمل مثل النظام الإيكولوجي، حيث تتم إعادة تدوير النفايات والمياه المستخدمة والتقاطها من خلال عملية التجفيف ويعاد استخدامها.

يستدعي مفهوم المزارع العمودية نقل الزراعة إلى المدن، حيث تتم زراعة النباتات في الأبنية الشاهقة أو حتى في المرافق المختلفة، مثل المدارس والمطاعم والمستودعات والطوابق العليا من المجمعات السكنية، مستخدمة أشعة الشمس والمغذيات فقط. ويقول الدكتور «دي بوميي»: «أعتقد أن المزارع العمودية مفهوم يمكنه أن يحقق الكثير»، خصوصًا إذا ما علمنا أنه، من الناحية النظرية، يمكن لبناء مكون من 30 طابقًا أن يوفر كمية من الغذاء يتم إنتاجها من حراثة 2400 دونم من الأراضي الزراعية.

وإذا ما طبّقنا هذا المفهوم على بلدان تواجه تحديات من ناحية الموارد المائية مثل البلدان العربية فستبدو الأمور أكثر إشراقًا. لهذا السبب، استحوذت الفكرة على اهتمام مهندسي البناء والمستثمرين والحكومات في جميع أنحاء العالم. وقد تمثل المزارع العمودية حلاً لمشكلة التغير المناخي والزيادة السكانية التي إن استمرّت على معدلاتها المرتفعة الحالية فإنها ستؤدي إلى توقف الزراعة، كما نعرفها الآن، في ظرف نحو 50 عامًا. يعني ذلك حدوث أزمة حيث يتعرض معظم الناس إلى نقص في موارد الماء والغذاء. إن الفيضانات ومواسم الجفاف التي ترافقت مع التغيّر المناخي جلبت معها الخراب إلى المزارع التقليدية. فقد أدّت ثلاثة فيضانات أخيرة حدثت في 1993 و2007 و2008 في الولايات المتحدة إلى خسارة مليارات الدولارات من قيمة المحاصيل المهدورة. وهناك دراسات تشير إلى أن التغييرات في أنماط المطر والحرارة ستؤدي إلى تقليص المنتوج الزراعي في الهند، مثلاً، بنسبة 30 في المائة عند نهاية هذا القرن.

 

أثر الزيادة السكانية العالمية

علاوة على هذا كله، أدت الزيادة السكانية إلى تراجع نسبة الأراضي الزراعية للشخص الواحد من حوالي فدّان واحد في العام 1970 إلى حوالي نصف فدان في العام 2000. ومن المتوقع أن تنخفض النسبة إلى ثلث فدان في 2050 وذلك حسب إحصاءات الأمم المتحدة. ومع تزايد السكان بالمليارات، لن يكون نموذج الزراعة المرتكزة على التربة الذي اعتمدنا عليه خلال الـ12.000 سنة الماضية خيارًا ممكنًا. أما فوائد اللجوء إلى المزارع العمودية فعديدة ومتنوعة، إذ يمكن لتلك المزارع أن تضع حدًا لهدر المياه الناتج عن الزراعة التقليدية وهو مصدر رئيسي لتلوّث المياه. إذ يتطلب ري المزروعات في الوقت الحاضر حوالي 70 في المائة من المياه العذبة في مختلف أنحاء العالم. وبعد ري المحاصيل، لا يصلح فائض المياه من الري الملوّث بالمبيدات والوحل والأسمدة لأي استخدام. كما يمكن للمزارع العمودية أن تنتج المحاصيل على مدار السنة،

ولا يمكن للمحاصيل أن تدمّر بسبب الفيضانات أو مواسم الجفاف، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمزارع العمودية أن تقلل من استخدام الوقود الأحفوري بما أنها تلغي استخدام الأسمدة المستمدة من النيتروجين وتخفف من استخدام الآليات المستخدمة في الحراثة والشاحنات لنقل المحاصيل الزراعية مسافات طويلة، وذلك بسبب قرب تلك المزارع من مراكز البيع والمراكز السكنية. وتجعل المزارع العمودية المدن أماكن أكثر جمالاً للعيش فيها، لأن الأبنية المخصصة لها تصبح مواقع من الجمال والأناقة، إذ إنه من أجل السماح للمزروعات بالتقاط أشعة الشمس، يجب أن تكون الأسقف والجدران شفافة تمامًا. لذلك، تبدو تلك المزارع عن بعد وكأنها جنائن معلقة، كما أنها تصبح أماكن لتنقية الهواء، إذ تمتص ثاني أكسيد الكربون الناتج عن دخان السيارات وتبعث الأكسجين في المقابل. ويمكن لتلك المزارع أيضًا أن تعيد التوازن البيئي، إذ تستطيع إعادة إحياء الأراضي التي دُمّرت من جراء الزراعة التقليدية. فلكل فدان واحد من المزارع في المدن هناك 10 إلى 20 فدانًا من الأراضي الخارجية، يمكن أن تعود إلى طبيعتها الإيكولوجية (تعود لتصبح غابات مثلاً)، وتستطيع أن تقوم بذلك بذاتها من دون أي تدخل بشري.

في المقابل، هناك أمور يجب أن تؤخذ بالحسبان لدى التفكير بإنشاء المزارع العمودية. أولها أن هناك بعض النباتات التي لا تنمو مع تقنيات الزراعة المائية، فالبعض منها مثل البطاطا والأشجار الحمضية، بحاجة إلى أن تمدّ جذورها في جسم شبه صلب مثل التربة أو ألياف جوز الهند، كما أن عملية التلقيح تمثل مشكلة في المزارع العمودية، فالحشرات أساسية للقيام بتلك العملية. ولأن تلك المزارع عبارة عن بيئة خالية من الحشرات، يجب على عملية التلقيح أن تحدث يدويًا مما يتطلب عددًا كبيرًا من العمال، وقد يؤدي ذلك إلى زيادة كلفة المحاصيل.

 

سؤال الجدوى الاقتصادية

ومن ناحية الكلفة نعرف جميعًا أن سعر الأراضي في المدن أعلى بكثير من سعر الأراضي في الضواحي والأرياف. لذلك تكون كلفة إنشاء مشروع المزرعة العمودية، وتوفير الإنارة اللازمة والتحكّم بدرجة الحرارة المحيطة وما إلى هذا، مرتفعة نسبيًا. ماذا ستكون كلفة تلك المزروعات إذن، وما الفائدة التي ستعود على أي مستثمر فيها؟ سؤال يجب أن تطرحه أي جهة تسعى إلى الدخول في مثل هكذا مشروع. وعن المزارع العمودية، قال أرماندو كاربونيل، رئيس قسم الأبحاث في «مؤسسة لينكولن» المعنية بترسيم الأراضي، إن الفكرة مثيرة للاهتمام ولكنها يجب أن تخضع لمزيد من التحليل لتحديد جدواها الاقتصادية. وقد لا تدخل تلك الفكرة حيّز التنفيذ إلا بعد سنوات عدة، وقبل أن تبدأ المعاناة الحقيقية من شحّ الأراضي الزراعية وعلى نطاق واسع.
----------------------------------------
* باحثة من لبنان.

 

 

رسم تخيلي لحدائق بابل المعلقة


هكذا تخيل د. دي بوميي مزرعته


 د. دي بوميي .. ص ثورة علمية وزراعية