وللراشدين أزماتهم

وللراشدين أزماتهم

يصل الإنسان إلى مرحلة الرشد وقد مرّ بأزمتين حادتين, أولاهما في الطفولة المبكرة والثانية في المراهقة, ولكن معظم الراشدين يمرون بأزمات عدة أخرى, بعضهم يعترف بها والبعض الآخر ينفيها ويتجاهلها بالرغم من تأثيرها العميق في سلوكه وتفكيره.

تناولت غالبية الدراسات والأبحاث في علم النفس الطفولة والمراهقة, وكأننا تناسينا أن أكثر أفراد المجتمع البشري هم من الراشدين الذين بلغوا مستوى من النضج والاستقلالية يمكنهم من تنظيم حياتهم بشكل فعّال ومسئول. والمجتمع بالإجمال مبني من أجل الراشدين من حيث العمل والإنتاج والطموح والراحة. ويبقى أن الاهتمام بموضوع الرشد مهم جدا خصوصا أن الراشد بحاجة إلى الشعور بالأمان وإلى معرفة نفسه وتحديد حاجاته وسلوك الطرق التي تؤدي إلى النجاح. هذه الحاجة لا تقل أهمية عن حاجات باقي الفئات العمرية, ذلك أن الراشد مسئول عمّا يقوله وعمّا يفعله وعمّا لا يقوله ولا يفعله. من هنا فإن دراسة الإنسان في هذه المرحلة تلعب دوراً مهماً في تنمية المجتمع.

الاتصال والعزلة

كانت مرحلة المراهقة لفترة قريبة تعتبر نهاية المطاف بالنسبة للارتقاء العضوي والنفسي, على أنه من المتفق عليه بين السيكولوجيين أن البشر لا يتوقفون عن النمو خلال رحلتهم الحياتية, ففي كل مرحلة من العمر تحدث تغيرات نفسية واجتماعية مرتبطة بشكل ما بالتقدم في سنوات العمر. ومن السذاجة أن نعتقد بأن ما يحدث بعد المراهقة يشكل بأكمله استمرارا لما حدث في السنوات المبكرة. صحيح أننا بانتهاء فترة التعلم والدراسة ودخولنا ميدان العمل نكون قد وصلنا إلى مرحلة من النضج الجسمي ونجحنا في تكوين بعض الخصائص الشخصية المستقرة فضلا عما أتقناه من مهارات وخبرات, إلا أن كل تطور في هذا الجانب تصحبه مستويات عدة من النمو, وأزمات وضغوط يجب مواجهتها.

ولكن تبقى سيكولوجية الراشد شيئا متفردا, من ضمن ذلك النضج الفسيولوجي ودور النشاط الجنسي والعاطفي من أجل تحقيق حال الرشد بالنسبة للراشد نفسه وكذلك بالنسبة لمحيطه. وضغوط المجتمع في هذا المجال تجعل الفرد الراشد يشعر بها بعمق ويعي ما عليه القيام به, وكل الذين بسبب عمرهم الزمني عليهم أن يكونوا راشدين, فإن المجتمع يملي عليهم واجبات يعونها بشكل واضح ثم تصبح جزءا من لاوعيهم, حتى بالنسبة للذين لم يحصل لديهم التحول اللازم, ويشعرون بأن من واجبهم أن يسلكوا كراشدين, فإن البعض منهم يشعر بالإحباط لأنه لم يبلغ مرحلة النضج النفسي الذي يتطلبه الرشد.

في مرحلة الرشد يصبح الشخص أكثر ثقة في نفسه وأقل ترددا في التعبير عن مشاعره وأقل اعتمادا على الآخرين. هذا إذا سار كل شيء على ما يرام, لكن لو سارت الأشياء على غير ما نطمح إليه, ولم يتجسد (الحلم) يرى أريك أريكسون أن تحقيق الذات في هذه المرحلة يعتمد إلى حد كبير على قدراتنا في تكوين علاقات حميمة دافئة بالآخرين. لذلك فإن, الأزمة التي تميز هذه المرحلة - في رأيه - هي أزمة الاتصال الوثيق في مقابل العزلة, فالشاب القادر على أن يطور نفسه ويجعلها متفتحة حيال شخص آخر يستطيع أن يكوّن علاقة طيبة وثيقة ودافئة وغالبا ما يكون الآخر شخصا من الجنس المقابل.

وتتضاءل في هذه المرحلة النزعة أو الرؤية (الرومنطقية) الحالمة للحياة التي كانت تميز شخصية المراهقين وتصبح رؤية العالم أكثر واقعية. فيبدأ التخطيط لبناء حياة أسرية زوجية بكل ما يتطلبه ذلك من شحن للمهارات المختلفة للشخصية. وتحتل الرغبة في تحقيق النجاح في العمل - خصوصا بالنسبة للرجال - دورا مهما في تنظيم الشخص لمهاراته العقلية والاجتماعية.

ما بعد الثلاثين

يعتبر التوافق الجنسي من الأشياء الضرورية في هذه المرحلة, ومع ذلك فإن المتاعب الزوجية ونسبة الطلاق تزداد, مما يشير إلى أن التوافق العام يرتبط بأشياء أخرى إلى جانب العلاقات الجنسية كالرغبة في تحقيق الاستقلال والفردية.

وتشكل هذه المرحلة بالنسبة للمرأة العربية تهديدا قويا لذاتيتها, بسبب ما يتطلبه الزواج منها من تضحية بأسرتها وعملها وأحيانا تعليمها, خصوصا إذا كان الزواج تقليديا ويتطلب منها البقاء في المنزل دون عمل أو تحقيق للذات الأمر الذي يسبب لها الإحباط والمرارة.

ومن الناحية السلبية: فإن المشكلات النفسية في هذه السن قد تتزايد خصوصا فيما يتعلق بأعراض القلق,. فقد بينت الدراسات أن نسبة القلق فيما بين سن 55و64 سنة تتزايد فتصل إلى ضعف نسبة القلق في الفترة ما بين سن 25و34. وتتضاعف أيضا نسبة القلق بين النساء فتصل إلى ضعف مثيلاتها بين الذكور ويبدو أن من أسباب زيادة القلق في هذه السن الإحساس الزائد بالمسئولية والاستقلال, فضلا عن الضغوط التي تتراكم على الأفراد فيما يتعلق بالعمل والأسرة والطموحات الشخصية والإحباطات الناجمة عن تحقيق الذات.

واجبات التجاوز

من المؤكد أن أزمات مرحلة الرشد والتي تتمثل الجوانب السلبية فيها في القلق والاكتئاب والإحساس بعدم السعادة يمكن أن تتضاءل إلى حد كبير إذا ما قبل الأشخاص بالأمر الواقع وهو أنهم يتقدمون في العمر. على أن الكثيرين لا يقبلون بالأمر الواقع, وخصوصا هؤلاء الذين كانوا يتمتعون بالشهرة والمجد أو الجاذبية والثروة من خلال نشاطاتهم الرياضية أو الفنية وصغر سنهم, وما تتركه هذه السن من جاذبية حيال الآخرين, ومثل هؤلاء الأشخاص قد يصعب عليهم في الواقع مواجهة أزمات النمو التي تفرضها هذه المرحلة, ما لم يستطيعوا تغيير أفكارهم عن أنفسهم, والبحث عن مصادر أخرى للمتعة والسعادة.

وأجرى توماي دراسة على 150 من العاملين في الوظائف الفنية العالية واستطاع أن يحدد أربعة واجبات رئيسية في هذه السن كي يصبح بالإمكان تجاوز أزماته:

1- تحقيق نجاح مهني أو عمل ليس من أجل الثروة فقط, بل من أجل تحقيق الذات والاحترام الشخصي, وبالرغم من أن هذا ضروري بالنسبة للرجال بشكل خاص فإنه ينطبق أيضا على النساء العاملات.

2- نجاح الحياة الزوجية: في هذه المرحلة يصل عدد المتزوجين إلى 90%, ومن المؤكد أن الحصول على القرين المناسب والعلاقات الزوجية الصحيحة والأطفال من العوامل التي تترك إحساسا بالنجاح والرضا في هذه المرحلة.

3- التوافق مع الواقع: إن التوقعات الحالمة السابقة تتحول إلى توافق مع الواقع. ومن مطالب النمو في مرحلة منتصف العمر التوفيق بين الأفكار والمثاليات والأهداف المرسومة من جهة, والواقع باحتمالاته المحدودة والمحكومة بمبادئ ليس باستطاعتنا دائما تغييرها من جهة أخرى.

4- التغلب على رتابة الحياة والخوف من التغيير: قد يتم ذلك بنجاح إذا تمكن الشخص من العثور على مصادر جديدة تسمح له بالتغيير والحرية دون أن تهدد إحساسه بالأمن الاقتصادي والنفسي.

ونذكر في مطالب الحياة السوية في هذه المرحلة ما يلي:

- تقبل التغييرات الجسمية التي تحدث في هذه المرحلة والتوافق معها.

- توسيع الخبرات العقلية المعرفية بأكبر قدر مستطاع.

- تربية الأطفال والمراهقين والقيام بعملية التنشئة والتطبيع الاجماعي لهم.

- التطبيع والاندماج الاجتماعي.

- ممارسة المهنة وتحقيق التوافق المهني.

- تكوين مستوى اقتصادي مناسب ومستقر والمحافظة عليه.

- ممارسة الحقوق المدنية وتحمل المسئولية الاجتماعية والوطنية.

- إيجاد وتكوين روابط اجتماعية تتفق مع الحياة الجديدة.

- تكوين وتنمية الهوايات المناسبة لهذه المرحلة.

- تقبل وجود الوالدين والشيوخ ومعاملتهم معاملة طيبة.

- تكوين فلسفة عملية للحياة.

- تحقيق الاتزان الانفعالي.

إعادة التنظيم

نستخلص مما سبق أن مرحلة الرشد ليست مرحلة دون تغييرات ولكن هذه التغييرات لا تتصف بالتطور الدائم الذي يحدث في الطفولة والمراهقة, فالراشد ليس فقط كائنا ثابتا قادرا على التكيف مستخدما القوة التي اكتسبها خلال مراحل النمو السابقة, ولكن حياة الراشد تتصف أيضا بالنمو من حيث قدرته على التعلم من الخبرات العاطفية وإعادة التنظيم تحت تأثير الأحداث, هذا من جهة, ومن جهة أخرى مواجهة الصعوبات في المستقبل وخصوصا صعوبات سني الشيخوخة.

 

مريم سليم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات