شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

سوريا تقاوم: النصر أو القبر

كان يقف في مهابة أمام الضريح رافعا يديه وهو يقرأ الفاتحة على روح البطل صلاح الدين. ولم يكد ينتهي من قراءة الفاتحة حتى فوجئ بضجة وأقدام متلاحقة بينما مجموعة من الجنود يسرعون إلى الداخل مهددين متوعدين يضربون بكعوب البنادق كل من يقفون حول الضريح آمرين الجميع بالابتعاد, فاتحين المكان لدخول (الجنرال جورو) قائد جيش الفرنسيين المحتل. ووقف القائد المعتدي بكل صلف وعنجهية أمام الضريح دون أن يتورع عن ضرب الشاهد الأيمن لضريح السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي قائلا في شماتة وسخرية:

- إيه صلاح الدين... هاقد عدنا من جديد...!

لقد أراد القائد المستعمر المتعصب أن يعلن بعبارته تلك ثأره من الملك الناصر قاهر الصليبيين, فكان تحديه عاملا من عوامل الاستفزاز زاد نفوس أهل دمشق حنقا وأشعل النار ضراما...!

وخرجت من بين شفتي الفتى الدمشقي مروان ألفاظ مكتومة كاظما غيظه قائلا:

(والله قد عدتم لتحفروا قبوركم أيها المستعمرون الجبناء)!

الثورة ضد الاستعمار

كان عهد الاستعمار الفرنسي في سوريا عهدا مشئوما اصطبغ بالدموع والدماء والمصائب والنكبات. فالجيوش الفرنسية التي جاءت تحت مسمى (الانتداب) واحتلت في الرابع والعشرين من شهر يوليو (تموز) سنة 1920 دمشق العاصمة. لم تدخلها إلا على جثث الكثير من أبنائها الذين استشهدوا في معركة (ميسلون) وكان في مقدمة الشهداء الذين قضوا في تلك المعركة البطل يوسف العظمة وزير الحربية في أول حكومة مستقلة في سوريا بعد جلاء الأتراك عنها.

في ذلك اليوم طوت القوة الغاشمة راية الاستقلال, ولكنها أضرمت في نفس كل سوري جذوة الثأر للوطن المحتل والاستقلال السليب. وعاهد السوريون وطنهم على القتال في سبيل التحرير إلى أن يظفروا بواحد من اثنين: (النصر أو القبر)!

وكان السوريون عند عهدهم, فقد توالت الثورات والاضطرابات ستا وعشرين سنة لم تذق فرنسا خلالها طعم الطمأنينة والاستقرار. فما إن دخلت قواتها دمشق حتى نشبت ثورة شعبية في حوران بالجنوب, ثم قامت مثلها في جبل الزاوية بالشمال لتتبعهما ثورة أخرى في جبال العلويين. وكان أول ما فعلته فرنسا بعد احتلال دمشق أن حاولت إقناع المجاهدين في حوران بالتفاهم والاتفاق. فأوفدت إليهم أول رئيس وزارة أقامها الفرنسيون في سوريا, وقد سافر على قطار خاص مصفّح يرافقه بعض الوزراء في حماية عدد كبير من الجنود الفرنسيين والسنغال. وما إن بلغ القطار محطة (خربة الغزالة) حتى انقضّ عليه المجاهدون ومعهم الفتى مروان فقتلوا رئيس الوزراء وصحبه وأبادوا الجنود. ولم يسلم من ركاب القطار إلا ثلاثة أشخاص, وبقيت الجثث عدة أسابيع ملقاة على الأرض إلى أن تم لجيوش الاحتلال ضرب حوران, وحين بحثوا عن الجثث لنقلها إلى دمشق وحمص لم يجدوا سوى أكوام من عظام وجماجم جمعوها في صناديق احتفلوا بنقلها ودفنها..!!

الفتى مروان

كان اسم الفتى مروان مجهولا عند الجميع. وكان إقدامه وشجاعته مثلا للجميع حتى ولو لم يدركوا حقيقته أو يروه رأي العين. كان كأنه روح المقاومة الوطنية لا يهتم بالإعلان عن نفسه وبأن ظل اسمه يتردد على ألسنة المجاهدين. ولم يعرف عنه شيء إلا يوم أن قام بعملية جريئة قادها بمفرده كانت حديث الناس في كل أنحاء سوريا.

في ذلك الوقت كان الفتى مروان يواصل دراسته لتاريخ أمته, ولفتت نظره قصة العالم الدمشقي الذي استعان به البطل الناصر ليصنع له السائل الحارق الذي حقق من خلاله النصر على قوات الصليبيين وأحرق أبراجهم. ولم ينس الفتى ما صنعه مواطنه سليمان الحلبي حين ضحى بنفسه من أجل أن يقتل الجنرال كليبر قائد الفرنسيين في القاهرة.

وكان لابد أن يتفتق ذهنه عن أمر يستطيع من خلاله أن ينتقم لوطنه من السفاح الفرنسي الأكبر المدعو (بيجان) مدير الأمن العام الفرنسي في دمشق الذي استرسل في اعتقال الرجال والشبان وراح يسوقهم في مجزرته في الاسطبلات حيث يلقون حتفهم بيده الآثمة رميا بالرصاص. لقد كان الجميع ضحايا السفاح بيجان الذي تمكن من نهب ثروات ضخمة أراد أن يهرب بها من سوريا. وعرف الفتى مروان موعد رحيل السفاح على سفينة القيادة الفرنسية, فحمل معه كميات من المواد الناسفة تسلل بها إلى السفينة قبل إبحارها. ولم يكد بيجان يعتلي متن الباخرة, وقد ملأ مخازنها بمسروقاته وثرواته التي نهبها من دمشق حتى نسف الفتى مروان نفسه داخل السفينة, فالتهمتها النيران وقضى السفاح بيجان حرقا وغرقا مع الثروة التي جمعها من دموع الأبرياء ودماء الشهداء.

إذا كان الفتى مروان قد استشهد في هذه العملية التي قضت على السفاح بيجان, فقد كان ذلك بداية جديدة لانفجار بركان الثورة السورية الكبرى التي نشبت في أكتوبر 1925. ومع انفجار الثورة شهدت دمشق معارك دامية في شوارعها بين الشعب الثائر والسلطات المحتلة. وجن جنون المفوض السامي الفرنسي (ساراي) فقصف العاصمة السورية الجميلة بالقنابل المهلكة من المدفعية الفرنسية في الحصون والقلاع المشرفة من جبل قاسيون وهضاب المزة. فهدم أجمل قصور دمشق الأثرية وجعل عاليها سافلها. وانطلق جنود الاحتلال في الأحياء الآمنة يعملون في بيوتها نهبا وسلبا, ويبقرون بطون النساء ويقطعون أثداءهن ويقطعون الأيدي ويرتكبون من الجرائم ما يندى له جبين الانسانية. وفرض الفرنسيون على دمشق وغيرها من المدن الغرامات الثقيلة من مال وسلاح, واضطر المجاهدون إلى التخلي عن العاصمة والحواضر دفعا للانتقام من النساء والأطفال وانتقلوا إلى غوطة دمشق واتخذوا من أشجارها الكثيفة مكامن للثورة تنطلق منها قواتهم لمنازلة جيوش الغزو.

ومنذ ذلك الوقت ولسنوات عدة واجهت القوات الفرنسية هجمات ضارية من المقاومة الشعبية التي راحت تتنادى للرد على الإجرام والإرهاب الظالم الذي تشنه قوات الطغيان على الشعب السوري. وفي كل موقع ومكان راح المجاهدون ينقضّون على المحتل بكل ما يملكون من إمكانات. ولم يخل قط تاريخ المقاومة الشعبية السورية من وقائع وأحداث تحدّث عنها العالم مع استمرار الهزائم التي راحت تنزل بالفرنسيين. وما أكثر الأمثلة لهذه الوقائع التي يحكيها التاريخ.

وهل أروع في سجل التاريخ من (واقعة ميشو)?! فقد جرد الفرنسيون حملة كبيرة بقيادة الجنرال ميشو للقضاء على الثورة الشعبية في مركز قيادتها بجبل الدروز. وزحفت الحملة الباغية من حوران إلى السويداء تعززها المدفعية الثقيلة والدبابات والمصفحات والطائرات. فكمن لها المجاهدون في الطريق, وانقضّوا عليها في موقع يسمى (المزرعة). هنا دارت معركة رهيبة نفذ فيها الثوار الأبطال إلى قلب الحملة فبعثروا صفوفها وأفسدوا خططها وألقوا الرعب والاضطراب في نفوس قوادها وجنودها, ولعب السلاح الأبيض دوره الرئيس في المعركة التي انجلت عن إبادة الحملة الاستعمارية الفرنسية بكاملها, ولقي قائدها الجنرال ميشو مصرعه على أيدي رجال المقاومة. وغنم المجاهدون أسلحتها الوفيرة. وأحدثت الهزيمة ضجة كبرى في صحف فرنسا وفي مجلسها الوطني حتى صارت (معركة ميشو) مضرب الأمثال في بطولة السوريين وعنوان الخزي والعار في تاريخ فرنسا العسكري في سوريا.

انتصارات المقاومة

كانت معركة ميشو حافزا على اندلاع نار الثورات في مختلف المناطق السورية. فقامت ثورة في مدينة حماة بقيادة فوزي القاوقجي الذي كان ضابطا في الجيش الفرنسي فأعلن تمرّده واحتل قلعة حماة وانضم إليه الكثيرون من أبنائها المجاهدين. وشملت المقاومة الشعبية كل مناطق الجنوب وأكثر المناطق الشمالية والغربية, واضطرت القيادة الفرنسية إلى طلب المزيد من النجدات التي كانت تصل إليها باستمرار, وتوالت المعارك الجبّارة في غوطة دمشق وجبل الدروز وحرمون وحوران وحمص والقلمون وحلب ومنطقة اللاذقية. وسجلت الثورة من آيات البطولة وصور التضحية ما يرفع رءوس أبنائها عاليا.

تلك كانت معركة ميشو وما تبعها.

أما (معركة الجسر) فهي صورة رائعة أخرى من صور المقاومة الشعبية, في تلك المعركة وقفت جيوش فرنسا عاجزة تسعة شهور عن اجتياز جسر صغير يقوم على أحد أنهر دمشق المعروف بـ(نهر تورا). الغريب أن هذا الجسر لم يكن عرضه يزيد على أربعة أمتار. وقد كلف عبور هذا الجسر الجيوش الفرنسية أكثر من عشرة آلاف قتيل وجريح. فقد كان رصاص المجاهدين ينطلق من بين ألوف الأشجار في مدخل دمشق المؤدي إلى غوطتها. فكان الرصاص يصرع الفرنسيين كلما دنوا من الجسر شبرا أو حاولوا اجتيازه. حتى أن قائدا فرنسيا جاء مع النجدات, فلما نظر إلى الجسر لأول مرة استشاط غضبا وثار وزمجر وضرب بقبعته وجه ماء النهر صائحا:

(يا لعار فرنسا أن تعجز جيوشها عن اقتحام هذا الجسر الصغير كل هذه الشهور)!!

وهكذا عاشت القوات الفرنسية طوال سنوات الاحتلال ستا وعشرين سنة تحت الضربات الثقيلة الموجعة للمقاومة الشعبية السورية حتى اضطرت في النهاية في السابع عشر من شهر أبريل 1945 إلى الرحيل بعد أن ذاقت الأمرين من الشعب السوري البطل الذي احتفل بيوم الجلاء الخالد. وكانت الغلبة للحق على الباطل وللإيمان والبطولة على الحديد والنار.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات