أرقام

أرقام

(شابلن) قال لكم!

قل لي: (أين تعمل).... أقل لك ما نوع المجتمع الذي تنتمي إليه, وما درجة تقدمه, ذلك أن خريطة العمل, وكما يقول التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للأمم كانت دائما انعكاسا لحال هذا المجتمع أو ذاك.

قديما كان العمل اليدوي هو السائد, وكان العمل الذهني هو الأقل.

وقديما كانت الزراعة والقليل من العمل الحرفي, فلما جاءت الآلة وجاءت الأشكال الحديثة من الطاقة عرف الإنسان عصر الصناعة, وعصر البخار, وعصر الآلة.

ولفترة غير قصيرة, كان الاقتصاد يعتمد على ساقين بالدرجة الأولى هما الزراعة والصناعة, رغم وجود أوجه أخرى للنشاط, وكنا نقول إنه كلما زاد الاعتماد على الصناعة كان ذلك دليلا على تقدم المجتمع, كما كان ذلك طريقا لوفرة اقتصادية ودخل أكبر... و... في الحالتين: حال الاقتصاد الزراعي, وحال الاقتصاد الصناعي كان إنتاج السلع هو المستهدف, ابتداء من وجبة غذاء إلى مائدة طعام وصاروخ يدخل الحرب أو طائرة تختصر المسافات.

كانت السلع, وكان الانتاج المادي هو الشغل الشاغل الذي تحرص عليه الأمم وتفاخر به... كما كان ذلك الإنتاج هو الذي يفتح باب الرزق وسوق العمل واسعا, كما كان كل تطور فيه يعني انقلابا اجتماعيا واقتصاديا, وهو ما عبر عنه - على سبيل المثال - الفنان العالمي شارلي شابلن الذي أجاد تصوير أثر الآلة على الإنسان وكيف قاومت الطبقة العاملة في كثير من الأحيان ذلك الغول (الأوتوماتيكي) الذي يختزل العمل البشري ويزيد من البطالة ليضع في المصنع آلة صمّاء تغني عن الكثير من العمال, ولو أن شابلن قد عاد لقال شيئا مختلفا. لقد كانت هناك وباستمرار قضية التطور لكن الجديد والمثير وطوال نصف قرن مضى هو اتساع ما يسمى اقتصاد الخدمات, ورغم أنه لم يبدأ من الصفر فإن تزايد أهميته النسبية كان نقطة فارقة في تاريخ البشرية حتى بتنا نسأل: أيّ نوع من الحياة, وأيّ قدر أكبر من هناء العيش يوفره ذلك النمط الذي يستهلك فيه الإنسان - بل وينتج - قدرا أكبر من خدمات الصحة والتعليم والسياحة وتجارة المال, بينما تتراجع مساحة ما ينتجه من سلع مادية صناعية وزراعية.

وبطبيعة الحال, فإن استهلاك الكرة الأرضية والتي باتت تضم ما يزيد على ستة مليارات من البشر, لم يتراجع في جانبه المادي, فحاجة الإنسان إلى الطعام تتزايد, وحاجته إلى إنتاج زراعي ورعوي تشهد الشيء نفسه, بل إن رغد العيش يضعنا أمام طريق لا نهاية له فيما يتعلق بالسلع المصنوعة والتي يبحث فيها الإنسان - كما تبحث مؤسسات الصناعة - عن الجديد دائما.

ما الذي جرى إذن?.... هذا ما تتوقف أمامه أرقام منظمة العمل الدولية في تقريرها عن سوق العمل (2001-2002).

أين نعمل?

في علم الاقتصاد, كان السؤال تاريخيا حول الإنتاج والاستهلاك, فنمط الإنتاج يحدد نمط الاستهلاك, كما أن العكس صحيح لأن الطلب (الاستهلاك) قد يخلق العرض ويحفزه.

ولكن, وقريبا من هذه الدائرة فإن هناك مؤشرا آخر حول نوع الاقتصاد ونوع المجتمع ومستوى تقدمه, أعني: مؤشر العمل, أو اتجاهات سوق العمل, وهل تكون النسبة الأكبر لمن يعملون في الزراعة أم الصناعة أم الخدمات?

في تقرير منظمة العمل الدولية ما يضعنا أمام قانون يقول (إنه كلما زاد تقدم المجتمع زادت الأهمية النسبية للخدمات بل إنها تصبح هي النسبة الطاغية), هكذا تقول الأرقام.

في بلاد مثل هولندا والنرويج والسويد وسويسرا, وهي بلاد متقدمة ومحدودة أو متوسطة من الناحية السكانية أصبح المشتغلون بالخدمات يمثلون أكثر من سبعين في المائة من سوق العمل... بينما تقف النسبة عند حدود السبعين في المائة في دول مثل: كندا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية, وتهبط إلى (65) في المائة في كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان, وهي دول ذات ثقل سكاني كبير.

في الوقت نفسه, فقد أصبح نصيب الاشتغال بالزراعة في البلدان الصناعية أقل من خمسة في المائة من عدد المشتغلين, وهي نسبة تهبط إلى أقل من (2) في المائة في فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.

أما المشتغلون بالصناعة فهم في تراجع مستمر. كان نسبتهم (34) بالمائة في ألمانيا عام (1980) فأصبحت النسبة (24) في المائة عام (2000) وكانت النسبة في الولايات المتحدة (22) في المائة عام (1980) فباتت (15) في المائة عام (2000)...و... هكذا في مختلف الدول الصناعية, وكان التراجع لصالح قطاع الخدمات.

وخلال الحقبتين الأخيرتين من القرن العشرين لحقت دول آسيوية عدة بهذا النمط من التطور, فبات المشتغلون بالخدمات هم الأغلبية الكاسحة حتى أنهم أصبحوا يمثلون ثلاثة أرباع سوق العمل في تايلاند وثلثيه تقريبا في كوريا وهونج كونج وما يزيد على الثلث في الفلبين.

وبشكل عام كان نصيب المشتغلين بالزراعة في آسيا في تراجع, بينما كان نصيب عمال الخدمات في تزايد... و... على العكس كانت الظاهرة في أمريكا اللاتينية التي تراجع فيها عمال الصناعة وزادت نسبة عمال الزراعة كما يقول تقرير منظمة العمل.

أيضا, وكما تشير الأرقام فإنه بينما كان النمط السائد في الدول الشيوعية السابقة هو أن التصنيع أهم مجال للاستخدام, فإن السنوات الأخيرة قد شهدت تطورا مهما فأصبح المشتغلون بالخدمات يحتلون نسبة تتراوح بين (80 و90) في المائة من سوق العمل, أي أنها مجتمعات تأكل بالكاد, أو تعيش على التبادل بين سلع زراعية ونباتية تنتجها (مثل الأخشاب) وسلع صناعية تستوردها, مع تخلف شديد في قطاع الخدمات والذي اتسع ليشمل, صناعة المال, وصناعة السياحة, والتعليم والصحة والترفيه والبحث العلمي, إلى آخر ما يدخل في هذا الباب.

.. العالم يتطور

في محاولة للتفسير والبحث عن الدلالات, وبالرغم من أن ثلث العالم من الفقراء فقرا مدقعا فإننا لابد أن نرصد كيف حدثت التحولات التي تشير إلى أن العالم - أو أجزاء كبيرة منه - في حال تطور دائم.

نعم, انكمش الاشتغال بالزراعة لكن الإنتاج الزراعي لم ينكمش ذلك أن الزراعة باتت - في كثير من أنحاء العالم - صناعة كبرى, يقل فيها عدد الرجال, وتزيد فيها الآلات: زرعا وحرثا وحصدا.

أيضا, فإن عدد المشتغلين بالصناعة في تراجع مستمر بسبب التقدم التكنولوجي والاعتماد على العقول الإلكترونية.. و... بينما كان اتساع الطبقة العاملة الصناعية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أداة تحول اجتماعي نشأ معه نفوذ النقابات والأحزاب العمالية ونشأت معه الأفكار الاشتراكية والماركسية, بينما كان ذلك هو الوضع, فقد أصبحنا أمام التحول الكبير: العامل الزراعي يقترب من العامل الصناعي, والعامل الصناعي يصبح فنيا وخبيرا لا ينقصه غير مكتب صغير ليصبح بيروقراطيا من ذوي الياقات البيضاء. إنه عالم الأزرار تتغير معه بنية الطبقة العاملة وتوجهاتها.

وهكذا حدثت التطورات التي جعلت الانتاج السلعي, زراعيا أو صناعيا ليس بحاجةإلى عمالة كثيفة, بينما اتسع اقتصاد الخدمات والاقتصاد المعرفي فاستوعب المزيد والمزيد, ولم يكن ذلك مجرد تعبير عن التطور التكنولوجي فقط, لكنه كان أيضا تعبيرا عن التطور في مستوى المعيشة وما يستهلكه الفرد من خدمات, وهو ما نلمسه إذا حاولنا تحليل ميزانية الأسرة التي يحتل فيها الغذاء النسبة الأعلى في المجتمعات الفقيرة, بينما تحتل بنود أخرى هذه النسبة في مجتمعات الوفرة, وهي بنود مستحدثة مثلما هو الحال من الانفاق على الاتصالات والخدمات الإعلامية والمعرفية والكمبيوتر والمستوى الرفيع من الخدمة الصحية والتعليمية, بل إن هناك مؤشر السياحة في العالم وتفضيل الكثيرين ممن تجاوز الستين من العمر للتقاعد والتمتع بالحياة الشخصية ومشاهدة العالم والتجوال بين أنحائه.

أيضا, وحين نتحدث عن سوق الخدمات, فلابد أن نتوقف أمام ذلك التحول من اقتصاد سلعي إلى اقتصاد رمزي, ومن أسواق محلية إلى أسواق عالمية تتحكم فيها (البورصات) ويجري التعامل فيها بإشارة تليفونية أو أمر على شبكة (الإنترنت).

إننا أمام عالم جديد يبدو فيه الإنسان كأنه يستهلك أكثر مما ينتج وإن قال رجال الاقتصاد إن العكس هو الصحيح, فمهما استهلك الإنسان من خدمات, فلابد أن يكون الإنتاج هو الأكثر, ذلك أن الانتاج (سلعيا أو خدميا) هو مصدر الدخل, والقضية - كما يقول الاقتصاديون - أنه مع التقدم الكبير زادت إنتاجية المشتغل وزاد دخله بالضرورة, فأصبح قادرا على أن يستهلك أكثر, ولكن لأن استهلاكه من السلع الزراعية والصناعية محدود بالضرورة, فإن التزايد يحدث على الجبهة الأخرى, جبهة الخدمات وتحسين مستوى المعيشة والانتقال من عالم الحاجات الأساسية إلى عالم الرفاهية والعيش الرغد.

ويبقى سؤال مهم: هل يأتي هذا التطور في توجهات الاقتصاد وسوق العمل لصالح عمالة أكثر أم عمالة أقل?... وهل يساعد اندفاع الإنسان لاستهلاك خدمات أوفر على مواجهة مشكلة البطالة التي باتت تؤرق الجميع?

لقد قتل التطور التقني والعلمي الكثير من فرص العمل وكان ذلك عنصرا رئيسيا في الاتجاه نحو العولمة والتي يجد فيها الكبار - ومن خلال الحدود المفتوحة ـ فرصا أوسع في الأسواق الخارجية.

ولكن, وفي الوقت نفسه, فإن مشكلة التشغيل ظلت تؤرق الجميع فعاد الاهتمام بالصناعات الصغيرة والعمل اليدوي والحرفي, وزاد الاهتمام - كما قلنا - باقتصاد خدمات يستوعب نسبة أكبر من اليد العاملة وطرحت منظمات دولية, بينها منظمة العمل الدولي أهمية اختيار نمط للتنمية قادر على توليد فرص عمل, فالهدف لم يعد كما يقودنا الاقتصاد الرأسمالي: زيادة الربح من أجل زيادة التراكم وزيادة الاستثمار, كما أن الهدف لم يعد كما كان يوما نقل الاقتصاد من حال إلى حال بمعنى الاعتماد على الصناعة, لكن الهدف الآن, ودون إغفال العوامل الاجتماعية والاقتصادية الأخرى هو التشغيل شبه الكامل للطاقات البشرية في المجتمع. الإنسان أولا فهو الهدف في البداية والنهاية.

هل نزيد حجم كعكة الإنتاج والاستهلاك معا لنحقق هذه المعادلة? يبدو أن ذلك هو الحل, ويبدو أن يوما سوف يأتي ليعمل فيه الإنسان يوما أو يومين كل أسبوع, ويكفيه ذلك ليغطي حاجاته ويعيش عيشة طيبة.

أعود للبداية (قل لي أين تعمل... وماذا تعمل, أقل لك في أي نوع من المجتمعات تعيش)!

والمقولة صحيحة سواء كنا نتحدث عن مجتمعات الوفرة أو مجتمعات الندرة, المجتمعات الصناعية المتقدمة أو المجتمعات الزراعية المتخلفة, فمازالت المرأة في بعض المجتمعات الإفريقية تقضي نصف أيام كل شهر في جمع الأحطاب وما تقدمه لها الغابة من خير وأسباب حياة!

... ورقم

النفط والبحر!

حلم السلام مازال بعيدا... بعيدا.

كنا نظن ومع انتهاء الحرب الباردة ومع تراجع ميزانيات التسلح أن العالم أمام حقبة أخرى يزيد فيها البناء وتتراجع سياسات الفناء.

وكنا نظن أن الصراع السلمي, علميا واقتصاديا, سوف يحل مكان الصراعات المسلحة, ولكن هاهي المشاهدات اليومية, وهاهي أرقام المنظمات الدولية تقول غير ذلك.

في تقرير لمنظمة العمل الدولية حول النزاعات المسلحة وآثارها أن العالم قد شهد في العقود الخمسة التالية للحرب العالمية الثانية مائة وستين نزاعا مسلحا, وكان (25) بالمائة منها في الشرق الأوسط, بينما كان عدد الضحايا عشرين مليون قتيل. استمرت الحرب في موزمبيق (22) عاما ومات مليون بالتمام والكمال. واستمرت النزاعات المسلحة في جواتيمالا (35) عاما, فتم تدمير أربعمائة قرية تدميرا كاملا, وفي حرب البوسنة جرى تهجير مليوني شخص, وفي الحرب اللبنانية انتقل ثلث السكان إلى حال فقر مدقع.

ويسجل المعهد الفرنسي لعلم الحرب والذي تأسس عام (1945) أنه خلال ستين عاما تنحصر بين عامي (1914و1974), حدث (124) نزاعا مسلحا في مناطق النفط.

وحين أعلنت الولايات المتحدة حربها على أفغانستان تحت راية الحرب ضد الإرهاب قالت إنها حرب مفتوحة زمنيا وجغرافيا, قد تمتد إلى عشر سنوات, وقد تصيب دولا كثيرة, حتى أنه يمكن اعتبار حرب العراق هي المرحلة الثانية من الحرب العالمية التي شرعت فيها واشنطن.

إنه موت السياسة والعقل, واللجوء للقوة, فهل نحن أمام عالم جديد... أم أنها عودة للوراء?

ويبقى السؤال: لماذا الشرق الأوسط والذي لم يعرف سلاما منذ الحرب العالمية الثانية?

وقد يكون الجواب: لأن هناك ثروة لا تحرسها قوة. وقد يكون الجواب لأن هناك قوة يدركها الآخرون ولا يدركها أهل المنطقة وهي قوة الموقع, فهنا فقط يكون قلب العالم وعلى أرضنا تتجمع الشرايين البرية والبحرية مرورا من الشمال للجنوب ومن الشرق إلى الغرب.

هكذا عرف الإنجليز قديما حين ذهبوا إلى الهند, وهكذا عرفت الولايات المتحدة وهي تبسط جناحها على البحار والمحيطات والممرات المائية ابتداء من مضيق جبل طارق إلى مضيقي باب المندب وهرمز.

وهكذا أصبحت كلمة السر ووقود الحرب: النفط... والبحر.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات