جمال العربية

جمال العربية

أحمد السقاف: عروبة و(نبض) وشعر

لا أظن شاعرا كويتيا معاصرا ارتبط وجدانه بنبض الوجدان العربي القومي, وتوهّجت كلماته بحرارة الانتماء, والاتكاء إلى يقين الأصالة, مثل الشاعر والكاتب العروبي أحمد السقاف, عبر مسيرة شعرية مديدة وحافلة, شارك فيها أبناء جيله: أحمد العدواني وعبدالله أحمد حسين الرومي وعبدالمحسن الرشيد وفاضل خلف وغيرهم.

أتيح لي أن أراه لأول مرة في القاهرة عام 1963, قبل أن أسافر للعمل في إذاعة الكويت معارا إلى وزارة الإعلام ومعي زميلي المخرج الإذاعي إسلام فارس. كان السقاف يقنعنا بالسفر وأهمية الدور القومي الذي يجسّده, وحلمه الإعلامي والتنويري بالنسبة للدور الذي تقوم به الكويت في عهد أميرها العظيم وقائد مسيرة نهضتها عبدالله السالم الصباح.

كان السقاف في ذلك الحين وكيل وزارة الإعلام وقطبها المركزي في التخطيط والتوجيه والمتابعة والحركة الدائبة, وكانت لقاءاتنا المستمرة معه, تكشف لنا عن مكوناته الثقافية التراثية الراسخة, وعن معدنه المتكئ إلى الأصالة وعروبة الهوية, وعن وجدانه الشعري المرهف الذي بدأنا نطالع إبداعاته على صفحات مجلة (العربي) وسائر المجلات الكويتية. وسعدت كثيرا وازددت اطمئنانا ووثوقا باكتشافي لروح الشاعر فيه ووعيه العميق بهموم الوطن والأمة, ومتطلبات المستمع والمشاهد الكويتي العربي, من الثقافة والإبداع والفنون. كان الرجل يحمل - كما حمل قرينه في مسيرة التنوير الكويتية أحمد العدواني - رؤية حضارية, وكان يجسّد هذه الرؤية في كلماته وفي مواقفه, خاصة في شعره, المتوهج النبرة, الواخز في غير قسوة بهدف الإيقاظ والتنبيه والتحذير الساخر - أحيانا - من عبث العابثين ومروق المارقين, الشاجب - في غير تردد - لكل صنوف الطغيان والطغاة, المبشر - في تفاؤل وثقة - بغد أفضل وأجمل وأشمل.

وسرعان ما عرفت أن أحمد السقاف من مواليد عام 1919, وأن دراسته كانت في كلية الحقوق, عمل في التعليم أول الأمر, ثم أصبح وكيلا لوزارة الإعلام, فعضواً منتدباً للهيئة العامة للجنوب والخليج العربي بوزارة الخارجية الكويتية. وله, بالإضافة إلى شعره, عدد من المؤلفات من بينها: المقتضب في معرفة لغة العرب, أنا عائد من جنوب الجزيرة العربية, في العروبة والقومية.

كان أول لقاء لي بشعره, من خلال قصيدة عنوانها: أعدّ الحقيبة, عامرة باللفتات الإنسانية الصغيرة التي لا ينتبه إليها كثير من الناس, فالمسافر أعدّ حقيبته, قبل أن تعرف شريكة الحياة, وعندما فاجأها مبتسما بأن السّفرة قد حانت, تصبح القصيدة كلها على لسان الشريكة الوفية التي تبوح بما كان مكنونا من المحبة وتوقع الشوق وانهمار الحنين, وبخاصة أن الهوى الذي انعقدت بينهما عروته الوثقى قديم وقوي, حار ودائم.

يقول أحمد السقاف:

أعدّ الحقيبةَ, ثم ابتسمْ وأسكرَ رُوحي بحلْو النغمْ
وقال طربتُ إلى سفرةٍ أزورُ بها مِصْرَ أمْ الهرمْ
فقلت له ما أمرَّ الفراقَ ولكن متى شئت يحلو الألمْ
وودّعته في المطار ودمعي يريد التدفقَ لولا الشّممْ
وطارَ, فطارَ فؤادي عليه وعدتُ أجّررُ منّي القدمْ
وحاولتُ أكتُم حزني, ولكنْ فشلتُ, ولم يبْقَ لي ما أكتتمْ
وكمْ من ليالٍ سهرتُ, أناجي له صورةً دونها بدْرُ تِمّْ
أقولُ له إنني في عذابٍ ومن فرطِ شوقي له لم أَنمْ
وإني أعيشُ بسجنٍ صغيرٍ وجسميَ من غيرِ روحٍ ودمْ
وإن الذي كنت ألقاهُ حلواً تغيّر في ناظري واصطدمْ
فما نُزْهتي غير تضييع وقتٍ وما وحدتي غيرُ تجميع همّْ
وفي كلّ فجرٍ أخطُّ كتاباً أُحمّله ما يُطيقُ القَلمْ
ولما أتانيَ منه جوابٌ يؤكد لي شوقَهُ بالقَسَمْ
ويعلنُ عن عودةٍ في القريبِ ويعربُ عن حُبّه والندمْ
مسحْتُ جراحي وقلتُ يعيشُ هوًى بيننا موغلٌ في القِدمْ


هذه القصيدة نموذج دالّ لشعر السقاف: التلقائية والشفافية والمعجم الشعري والاتجاه الواضح المباشر إلى الهدف, وسهولة التأتي. هو شعر لا يتطلب جهدا أو مشقة, لا في كتابته ولا في قراءته, لكنه يمثل اللغة الميسورة المتاحة لكل قارئ, والشعرية التي لا تداور ولا تناور, لا تصطنع ولا تتكلف, وإنما تترك نفسها على سجيّتها, وتعطي ما لديها في تدفق وانثيال.

ومن بين شعر السقاف كله, هناك لوحة شعرية بديعة, رسمها الشاعر بالكلمة والصورة الشعرية, في رحلة له إلى اليمن, حين استوقفه على بعض الربوات هناك عصفور أصفر اللون, يتقافز في حرية وخفة ورشاقة, ويسبح في الفضاء الممتد, ويعلن بزقزقاته عن نشوته وفرحه, إنه تجسيد لمعنى الحرية, المفتقد عند الإنسان العربي, ومعنى المغامرة والانطلاق إلى المجهول الذي لا يقدم عليه معظم الناس, قنوعا بما هم فيه, لا يغادرونه ولا يرغبون في تغييره. والشاعر هنا يفتَنُّ في أدق التفاصيل, يصوغ منها ومن ألوانها لوحته الشعرية الفاتنة, وهو على بساطته المعهودة, ووداعته السمحة, يرقب ويتأمل ويكتب.

يقول أحمد السقاف في قصيدته (يا طير, يا عصفور, يا أصفر):

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ ما لي إلى غيرك لا أنظرُ
يهْنيكَ ما يسْبي وما يسْحَرُ ومنظرٌ يُزرى به منظرُ


يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ



***

يا طيرُ أعشاشُكَ فيها العجبْ لم تَر عيني مثْلَها في الحِقبْ
كم غرضاً راعيْتُ كم من سببْ وكم عذابٍ ذُقْتُ, كم من تَعبْ


يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

في آخر الأغصانً شيّدْتَها كالمهْدِ للأفرُخِ أعددْتَها
تهزُّها الريحُ كما رُمْتَها أتقنْتَ مبْناها وأحكمْتَها

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

السهلُ بالخضرةِ ما أروعهْ والأفق المُمطر ما أوْسَعه
وكلّ وادٍ أرضهْ مُمرعَه والرزقُ ميسورٌ فعشْ في دَعةْ

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

اللهَ للزقزقةِ الناعمهْ من أفرخٍ عاريةٍ جاثمهْ
تُحسُّ بالأطعمةِ القادمهْ تجلبها في نشوةٍ حالمهْ

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

تقضي النهارَ الحلْوَ بين الجنانْ تسْعى بروح مُفعمٍ بالحنانْ
لم تدْرِ شيئا عن صروف الزمانْ والليل تقضيه بعشّ الأمان

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

انظرْ إلى الورقاءِ ذات النّواحْ تبكي على عُشٍّ ذرتْه الرياحْ
وأفرخٍ ضاعت قُبيْلِ الصباحْ لا أرجلٌ تحملُها لا جناحْ

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

لو أتقنتَ مثْلكَ ذاك البناء واحتملتْ مثْلكَ بعْضَ العناءْ
لكان فيما شيّدتْهُ النّجاءْ فالعمل المُتْقَنُ سرُّ البقاء

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

يا طيرُ حدّثني عن الأقدمينْ عن حِمْيرٍ, عن سبأٍ, عن (معين)
وعن حضارات السّنين السّنين فأنت قصّاصٌ دقيقٌ أمين

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

لا تحْزننْ يا طيرُ للذكرياتْ فكلُّ ما ولّى تولّى وفاتْ
فالقوم قد هبّوا فما من سباتْ والمجدُ - إن جدّوا - قريبٌ وآتْ

يا طيرُ, يا عصفورُ, يا أصفرُ!



***

ربما ندرك الآن لماذا اختار الدكتور سليمان الشطي والدكتور خليفة الوقيان بحسّهما الإبداعي والنقدي هذه القصيدة بالذات لتمثل شعر أحمد السقاف في دائرة الشعر الكويتي ضمن المشروع الضخم الذي أنجزته مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري وحمل هذا العنوان: مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين, وجاء الدور على شعر الكويت ضمن المجلد الرابع من هذه المختارات التي صدرت منذ عامين.

وقد يكون من المفيد أن أُلحق بهذه القصيدة الجميلة, المقدمة النثرية التي كتبها الشاعر لقصيدته - التي نشرت لأول مرة في مجلة (العربي) عدد أبريل عام 1967 - ويقول فيها:

(في سهول اليمن وأوديتها, يثير اهتمام المرء عصفور أصفر يبني أعشاشه بإتقان لا مثيل له, في أطراف أغصان الشجر, ويحكم ربطها بهذه الأطراف, فتتدلّى, ويحسبها الرائي من بُعد ثمارا يانعة لتلك الأشجار. وهي تهتزّ إذا ما داعبها الهواء, فتستريح الأفرخ وتنام كما ينام الطفل في المهد, وقد أثار هذا العصفور قريحة الشاعر حين زار اليمن في الصيف الماضي, متفقدا منشآت الكويت هناك, فناجاه بهذه القصيدة).

نختتم هذه المختارات من شعر أحمد السقاف, بنبضة حارة تتوهج بوطنيته وانتمائه وغيرته وهو يتحدث عن الكويت وشعْبها ومواقفها في تأييد القضايا العربية ودعمها:

تأبى المروءةُ أن نحْظى بوارفةٍ من الحياةِ, تُميتُ الروحَ والشِّيما
فكلُّ شبرٍ من الأوطان نغسلهُ بألف نهرٍ لدى الجُلى تُسيلُ دما
أفدي الكويت تراباً ملؤهُ شممٌ وما تعشقتُ إلا العزَّ والشّمما
صددْتُ عنها قريضى عاتباً زمنا والقلبُ فيها يُعاني الوجدَ والسَّقَما
حتى تبدّتْ كما ترجو أصالتُها بطولة تصفع التشكيكَ والتُّهمَا
هي الكويت محالٌ أن يُزيّفها نفْطٌ, تفنَّن في تزييفِه القلما
وفي الكويت رجولاتٌ تفيضُ نديً لدى العطاءِ وترعى العهْدَ والذًّمما
ولم أجد وثبةً تسمو مكانتُها كوثبةِ الحقَّ تروي الصارمَ الخذما
ولم أجدْ ساعةً أدعى إلى كرمٍ كساعةٍ نحن فيها توجبُ الكرما
فبوركت دعوةٌ للبذل ناجحةٌ وبارك اللهُ قوْماً في النّدى قمما!


بارك الله في عمر الشاعر والكاتب والمفكّر, وفي عطائه الموصول بقضايا وطنه وهموم أمته وعروبة عقله ووجدانه.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات