إلى أن نلتقي لطيف زيتوني

إلى أن نلتقي

في البدء كانت اللغة

في رواية (تلة الزعرور) يروي شكيب خوري حكاية مهندس لبناني مسيحي هاجر إلى الولايات المتحدة هربًا من الحرب, معتقدًا أن ما يجمعه بالأمريكيين قد يخفف عنده الشعور بالغربة. فإذا الاختلاف بين ما تربّى عليه, وما وجده في أمريكا يولّد فيه أقسى آلام الوحدة. هل يعني هذا أن الرابطة الدينية لا تكفي للشعور بالانتماء? يروي أمين نخلة في مقدمته لكتاب (نفسية الرسول العربي) حكاية طبيب لبناني مسيحي مقيم في فرنسا كان يسير على مقربة من جامع باريس حين انطلقت من المئذنة تكبيرة جعلته يحوّل طريقه ويغشى باحة المسجد ويقضي ساعة كأنه في وطنه يصغي. ما الذي أدخل هذا المسيحي العربي إلى المسجد? يفسّر أمين نخلة الأمر بأن الرسول جمع إليه القلوب العربية من كل ديانة بفضل العربية في رسالته, وأننا إذا تابعنا الميل وتركنا الطبع على عنانه, وجدنا اللغة فوق الدين, والعصبية القومية فوق العصبية الطائفية. هذا الرأي يجد صداه في مقدمة أمين الريحاني لكتابه (ملوك العرب) حيث نجد هذه النظرة المنفتحة على الإسلام ورسوله على خلفية: هذا الأسد من عريننا.

وهذه الخلفية حرّكت أقلامًا مسيحية عربية كثيرة إلى مدح الرسول العربي, نذكر قصيدة (محمد) لصلاح لبكي التي مطلعها:

أرسل سلامك في الأنام محمد عظمت مآثمهم, وعزّ المرشدُ
عادوا كأنك لم تكن نور الهدى للعالمين ولم يحن لك موعدُ


ومطوّلة إلياس طعمة (الرؤيا النبوية) التي يقول فيها:

فمَن قومُه قومي أدين بدينه لأني أرى الإسلام روحَ العروبةِ
توسّلتُ بالقربى إليه فلم تضِعْ لدى العربي الهاشميّ شفاعتي


ومن الحوادث المعبّرة ما حصل لأديب الفرزلي حين كان في زيارة ليوغسلافيا في أواخر الستينيات, إذ طلب منه بعض السكان المسلمين هناك, وقد عرفوه عربيًا, أن يؤذن لهم, ولما أبلغهم أنه عربي مسيحي, كرّروا الطلب قائلين إنهم يرغبون في سماع الأذان بلغة الوحي, ومن فم أصحابها, فقد عرفوا أن في اللغة من موسيقى الحروف ما لا يؤديه أعجمي, وأنها ليست وعاء للمعاني, بل قوالب لها.

إن اللغة الأم هي أم, فمنها نستمد تصوّراتنا وأدوات تحليلنا للواقع وما هو أبعد منه, فليست العربية إذن تلك التي نقرأ بها, بل تلك التي نفكر بها أيضًا, وهذا يعني الكثير

 

لطيف زيتوني