التفاتة أخرى إلى الشرق.. درس من الهند سليمان إبراهيم العسكري

التفاتة أخرى إلى الشرق.. درس من الهند

كانت نتائج الانتخابات الهندية الأخيرة التي فاز فيها حزب المؤتمر بقيادة سونيا غاندي, مفاجأة لم يتوقعها عالم تسوده التناحرات العرقية والدينية وتنظيرات التعصب. لكن هذه المفاجأة لم تكن إلاّ محصلة لمشوار ثقافي هندي طويل وصبور, وهو درس بليغ للبشرية, نحن أحوج ما نكون إلى استيعابه.

  • الانتخابات الهندية الأخيرة جاءت لمحة ذكاء روحي من فقراء الهند ضد التعصب وضد الساسة اللاعبين بنيران الطائفية والعرقية
  • التنمية البشرية في الهند اعتمدت منهج الانفتاح على علوم العصر والوعي بخصوصية الذات فأنجزت نموذجًا جيدًا للعالم الثالث
  • تعليم جيد وديمقراطية مثابرة وفلسفة للتعايش.. ثلاث ركائز كانت مقدمات لما جاءت به الانتخابات الهندية التي فاجأت العالم

يبدو أن الرحالة العرب المبكرين كانوا أكثر حصافة منا في عمق انتباههم للهند, إذ راحوا يستكشفون جوانب الحياة فيها, ويستخرجون من رحلاتهم ما يزيد من عمق الصلة بالهند وثقافتها ومدهشاتها, فعل ذلك المسعودي واليعقوبي والمقدسي وابن حوقل وابن بطوطة, وكان البيروني عالم الرياضيات أحد أكثر من عكفوا على دراسة تاريخ الهند وعادات أهلها. لقد بيّن هؤلاء الرواد حقيقة الهند كمعبر وجسر إلى الشرق كله, ثم مضى علينا حين من ضعف الاستبصار بأهمية هذه الدولة الكبيرة, وإذ بها تفجّر مفاجأة تلفتنا, ليس فقط لكونها معبرًا أو جسرًا إلى الشرق, بل معبر وجسر إلى الحياة والحيوية في عالم اليوم المليء بالتعقيدات والتحديات, في مواجهة الأمم الأقل تقدمًا والأكثر فقرًا, مقارنة بعالم الشمال الغني والمدجج بأحدث معطيات المعرفة العلمية ومفرزاتها التكنولوجية.

مفاجأة العالم

ما حدث في الانتخابات الهندية الأخيرة كان مفاجأة بكل المقاييس, ومفاجأة من النوع العالمي الثقيل, ليس في ساحة السياسة فقط, بل أهم من ذلك في ساحة الثقافات والعلاقات بين البشر على مستوى الإنسانية المعاصرة في لحظتها الراهنة.

فبينما العالم يموج بالصراعات المسلحة وغير المسلحة, وبينما المنظرون العالميون يغرقون كوكب الأرض بالنظريات الاستئصالية من نوع (صراع الحضارات) و(نهاية التاريخ), والتكريس لعالم يغلي بالتعصب, والتعصب المضاد من كل نوع. في هذا العالم الذي يلعب سياسيوه بدهاء على أوتار الطائفية والعرقية وكراهية الآخر, أي آخر, لتحصيل مكاسب انتخابية واقتصادية تبدأ من أدنى المستويات المحلية, وتتصاعد حتى مستوى الأمم, بل مستوى عبور القارات, ومستوى الكوكب.

في هذا العالم الراهن, وفي لحظة حاضره الملتبس هذه, يرى العالم عبر شاشات المحطات التلفزيونية الفضائية أفيال الهند وهي تحمل على ظهورها أجهزة الكمبيوتر التي ستستخدم في اقتراع رقمي - في معظمه - لاختيار حكومة هندية عبر الانتخابات التشريعية في أكبر ديمقراطيات آسيا والعالم. ثم تكون النتيجة صاعقة, تطيح بكل ألعاب التنظير الاستئصالي, والغزل العرقي والطائفي المتعصب, ومفاهيم التنمية المتعامية عن الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والروحية للشعوب. وتفجر الهند قنبلتها الديمقراطية الرائعة, إذ تقرر الأغلبية من فقراء الهند اختيار حزب لا يلعب على أوتار الطائفية والعرقية, وهو حزب المؤتمر, والذي تقوده امرأة غربية المنشأ هي سونيا غاندي, ثم تتوالى التداعيات, فيختار حزب المؤتمر الفائز - في انتخابات لاشك في ديمقراطيتها - رئيسا للوزراء من أقلية طائفية هي السيخ.

فكأن الهند تقول عبر ديمقراطيتها: إن المواطنة هي الأساس, وكفاءة العمل هي مناط الاختيار. أما التنابذ العرقي والطائفي فهو طريق الشيطان الذي لم يثبت أنه قدم خيرًا للبشر, خاصة الفقراء منهم, وغير الفاسدين.

ثلاث ركائز

لم تكن هذه القنبلة الديمقراطية الهندية الرائعة إلا ثمرة لمقدمات لا تقل عنها روعة, وإن كانت تمضي في طريقها الطويلة دون ضوضاء ولا دوي.

وهذه المقدمات التي أنجزتها الهند, والتي أوصلت مواطنها البسيط إلى أن يدلي بصوته بكل هذا القدر من الوعي والمسئولية, تتمثل في ركائز عديدة منها: التعليم الجيد, والمثابرة الديمقراطية, وتجذر فكرة التعايش بين أبناء الأمة على اختلاف مللهم ونحلهم.

ولعله يكون مفيدًا قبل أن نتتبع هذه المقدمات, أن نلقي نظرة عامة على الهند التي نعتتها بعض الاجتهادات بأنها (دولة الألفية الثالثة), ومعطيات هذه النظرة هي ما يتوافر بين يدي من يريد عبر شبكة الإنترنت, وهي معلومات متاحة لكن المهم هو أن نقرأها قراءة تفسيرية ترى ما وراء وما حول الأرقام والنسب. ومن الطبيعي إزاء ما سنراه من أرقام وحقائق, كثيرها مدهش, أن نجد أنفسنا مضطرين إلى التعليق برأي هنا, ووجهة نظر هناك. إن الهند- على غير ما يظن كثيرون - غنية بمواردها الطبيعية, حيث تتنوع الطبيعة فيها من الصحراء الجرداء إلى الغابات الاستوائية, وبها العديد من الأنهار التي تنبع من الجبال الشمالية. وتعتبر الأرض والمياه من أهم الموارد الطبيعية في الهند حيث إن 54.3 في المائة من أراضيها قابلة للزراعة, وهي غنية بمصادر المياه العذبة, وتغطي الغابات نحو 21.6 في المائة من مساحتها.

ويمثل قطاع الزراعة بما فيه الغابات والصيد 27.7 في المائة من الناتج الحلي, ويعمل به نحو 67 في المائة من القوى العاملة (تقديرات 1995).

وأهم المحصولات الزراعية هي قصب السكر, والأرز والقمح والقطن والجوت والخضراوات والتوابل.

ويسهم قطاع الصناعة بنسبة 26.3 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي, ويعمل به نحو 13 في المائة من القوى العاملة. والهند غنية بالثروة المعدنية حيث يوجد بها الفحم والحديد الخام والنحاس والبترول والغاز الطبيعي والرصاص والذهب والفضة والزنك. وأهم المصنوعات هي الغزل والنسج والحديد والصلب والآلات ومعدات النقل والأسمدة وتكرير البترول والكيماويات وأجهزة الكمبيوتر.

ويساهم قطاع الخدمات بنحو 46 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي, ويعمل به نحو 20 في المائة من القوى العاملة.

وأهم صادرات الهند هي: الأحجار الكريمة والحلي والآلات الهندسية والمنسوجات القطنية والمنتجات البحرية والجلود والشاي والفواكه والخضراوات والأدوات الكهربائية.

وأهم وارداتها: البترول ومنتجاته, الكيماويات غير العضوية, الحديد والصلب, الأسمدة, والبلاستيك. وأهم الدول التي تتبادل معها التجارة هي الولايات المتحدة, اليابان, ألمانيا, والسعودية وبريطانيا وبلجيكا وروسيا.

والهند مقسمة إلى 28 ولاية وسبع مناطق اتحادية بما فيها العاصمة نيودلهي وكبرى المدن هي مومبي ودلهي ومدراس وحيدر أباد.

لقد نجحت الهند في تحقيق الاكتفاء الذاتي لنفسها من الحبوب مثل القمح والذرة والأرز, وهي مأثرة تضافر فيها العلم مع الإدارة الوطنية والرغبة في استقلال حقيقي يصون كرامتها, ويحدد نقطة البدء في تنمية حقيقية. وعن ذلك يقول كريستوفر جافرلو في دورية العالم الديبلوماسي: (استند نموذج التنمية بواسطة الاستغناء عن الواردات الذي وضع موضع التنفيذ في الهند على يد جواهر لال نهرو في خمسينيات القرن الماضي, على ركائز أربع هي التخطيط المركزي المشجع للصناعة وقطاع عام واسع وضوابط جمركية ونظام رُخص إدارية نظمت بواسطتها الدولة زيادة القدرة الإنتاجية وتنويعها في الشركات الخاصة. وقد ساعدت هذه السياسة في تشكل قاعدة اقتصادية ظلت محمية من المنافسة الدولية. كما أنها ساهمت في نشوء طبقة وسطى واسعة من الموظفين وفي احتواء أشكال التفاوت بين المناطق بفضل سياسة إصلاح فعلية).

ولم تخضع الهند لقبضة الشركات متعددة الجنسية. ففي إمكان المستثمرين الأجانب الأفراد امتلاك نسبة 100 في المائة من الشركة في مجال الفنادق وقطاع الأدوية والبنى التحتية (النقل والطاقة) و51 في المائة على الأقل من الشركات العاملة في مجال السيارات وما بين 49 و100 في المائة في قطاع الاتصالات وما بين 20 و40 في المائة في القطاع المصرفي. غير أن الاستثمارات الدولية المباشرة (74 مليار دولار) هي أدنى بعشر مرات من مجمل تلك المتحققة في الصين (420 مليار دولار).

وبالطبع, فإن هناك عددًا من الشركات متعددة الجنسية في الهند, ولا ترى فيها إلا (دولة ورشة) حيث يمكنها أن تصدر منها المنتجات التي اكتسبت قدرة تنافسية بسبب رخص اليد العاملة, على غرار شركة صناعة السيارات الكورية هيونداي. لكن هذه الدولة الشاسعة تبقى ضعيفة في التحاقها بالتجارة العالمية, فصناعة النسج لاتزال تمثل 30 في المائة من صادراتها, والصناعة الغذائية 15 في المائة. وفي كل الأحوال ارتفعت صادرات المواد الكيميائية من 6.2 في المائة في 1980 إلى 14.7 في المائة عام 2001, وهذا مما يدل على قدرة الهند على تقليد (وحتى على قرصنة) التكنولوجيات الأجنبية, كما أن المعلوماتية تطورت أكثر, فالهند بتحقيقها نسبة 20 في المائة من الصادرات العالمية في هذا المجال, هي البائع الأول لخدمات تكنولوجيا المعلوماتية أمام إيرلندا والولايات المتحدة, وقد بلغ معدل نمو هذه الصادرات في العام 2002 نسبة 30 في المائة.

ساهمت إصلاحات تسعينيات القرن الماضي في تنشيط حركة النمو في الهند, فقد ارتفع معدل متوسط النمو من 3.6 في المائة بين عامي 1951 و1979 إلى 5.5 في المائة في ثمانينيات القرن الماضي وإلى 6.5 في المائة خلال العقد التالي. ومنذ 1996 أصبحت الهند, بعد الصين, الدولة الآسيوية ذات معدل النمو الأكبر (5.5 مقابل 7.6 في المائة).

وتشير معظم التحقيقات التي أنجزت منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي إلى أن الفقر يميل إلى التراجع بأرقام ملحوظة, فنسبة السكان التي لاتزال تعيش تحت عتبة الفقر رسميا, تراجعت من 41 في المائة عام 1992 إلى 25 في المائة عام 2003, غير أن البلاد لاتزال تحوي العدد الأكبر من الفقراء في العالم (430 مليون شخص يعيشون فيها بأقل من دولار واحد في اليوم وهذا باعتراف البنك الدولي), لكن هذه الإشارة إذا ما وضعناها في السياق الثقافي والاجتماعي قد لا تكون موجعة بالقدر الذي تعنيه لو كانت في إطار حديث عن مجتمع غربي ما.

تعليم جيد وحرية

أما عن التعليم, وهو الإنجاز الوطني الأهم في هند المليار إنسان فهو: إجباري حتى سن 14 سنة, حيث إن مدة التعليم الإجباري ثماني سنوات. وبلغت تكلفة التعليم 3.2 في المائة من الناتج الإجمالي القومي (تقديرات 1996), وطبقا لتقديرات 1997 بلغ عدد التلاميذ 47 تلميذًا لكل معلم, وفي عام 2001 بلغت نسبة المتعلمين في الهند نحو 73 في المائة. وبجانب التعليم الحكومي يوجد تعليم خاص في جميع مستويات التعليم من الابتدائي حتى الجامعي. وفي عام 1996 بلغ عدد المقيدين في سنوات التعليم قبل الجامعي نحو 170 مليون تلميذ, في حين بلغ عدد المقيدين في التعليم العالي نحو ستة ملايين طالب.

وبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في الهند عام 2001 نحو 5.5 مليون, ومن المتوقع أن يصل هذا العدد إلى نحو 25 مليونا عام 2005. وعدد أجهزة الحاسبات لكل ألف شخص بلغت 0.32 طبقا لتقديرات 2002.

وكانت الهند عشية استقلالها تعاني مشكلة أمية خطيرة بلغت نسبتها رسميا في 1951 نحو 83 في المائة مقارنة بنسبة 94 في المائة في 1901. لذا, فقد أخذت الحكومة على عاتقها التقليل من هذه النسبة التي يمكن أن تقف حائلا أمام تنفيذ عملية التنمية, ونجحت في جهودها تلك إلى حد كبير حيث انخفضت نسبة الأمية إلى 72.7 في المائة عام 1960/1961 و65.5 في المائة عام 1970, ثم إلى 47.8 في المائة عام 1990/1991.

وتعتبر الصحافة الهندية تقليديا من بين الصحافة الأكثر حرية في آسيا, حيث تمتعت منذ حصول الهند على استقلالها وباستثناء فترة الطوارئ الممتدة بين 1975 و1977 بقسط وافر من الحرية يعكسه ذلك الرقم الهائل من الصحف والمجلات المنشورة بـ 93 لغة ولهجة, حيث تجاوز عددها نحو 35 ألفًا في عام 1993. والواقع أن تمتع الصحافة بحريتها يتسق مع إيمان زعماء الهند بدورها حيث اعتبرها نهرو دعامة أساسية للعملية الديمقراطية, وكان من رأيه أن وجود صحافة حرة تماما مع كل ما تتضمنه من أخطار نتيجة للاستخدام الخاطئ لها أفضل من وجود صحافة مراقبة أو منظمة.

لقد اقترنت صورة حرية الصحافة في الهند بصورة نظامها التعليمي, لأن اقتران التعليم الجيد بالحرية شرط من شروط كل إبداع, وهو إبداع حملت أعباءه طبقة متوسطة أفرزها التعليم الجيد والحرية وتقدر بنحو 300 - 400 مليون إنسان شكلوا قاطرة النهوض الهندي في كل المجالات.

كل الزهور تتفتح

وإذا ما أتينا إلى قصة الديمقراطية في الهند, فإننا قد نجد أنفسنا نردد ما قاله الكاتب فهمي هويدي عن أحد مفاصلها الباهرة: (المفاجأة الكبيرة التي رفعت عندي وتيرة الغيظ والحسد, هي أن ذلك البلد الذي خاض أربع حروب ضد باكستان والصين, وتعددت فيه جماعات ومنظمات الإرهاب والتطرف ودعوات الانفصال التي عانت منها البلاد الكثير خلال نصف القرن الفائت, حتى قتلت ثلاثة من قادتها من المهاتما غاندي إلى أنديرا غاندي وابنها راجيف, هذا البلد الذي مازالت تعشش فيه بؤر التطرف والإرهاب حتى الآن, لم تعلن فيه الطوارئ مرة, وما خضع للأحكام العرفية منذ الاستقلال).

إن الهند تأخذ في نظامها الانتخابي بحق الاقتراع العام لجميع المواطنين حيث يتمتع بحق التصويت كل مواطن هندي يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا, بغض النظر عن الدين أو الطبقة أو الجنس أو مكان الميلاد.

وتتصف الانتخابات بالنزاهة لوجود احترام لقواعد اللعبة السياسية فيما بين القوى السياسية جميعًا, فضلا عن أن هذه الانتخابات تجري تحت إشراف لجنة قومية للانتخابات يتمتع رئيسها وأعضاؤها بحصانات وضمانات خاصة تمكنهم من أداء عملهم على الوجه الأكمل, ومن بينها النظر فيما قد يحدث من تجاوزات أو ممارسات غير قانونية خلال العملية الانتخابية.

وتأخذ الهند بنظام التعددية الحزبية, ويشترط لتكوين الحزب حصوله على 3 في المائة من الأصوات كحد أدنى على المستوى القومي أو على المستوى المحلي.

وتعرف الهند العديد من الأحزاب السياسية حيث يوجد بها نحو 20 حزبًا على المستوى القومي منها ستة أحزاب كبرى من أشهرها حزب المؤتمر القومي, وحزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المتطرف (الذي كان سقوطه الأخير على أيدي الفقراء, وأغلبهم من الهندوس), والحزب الشيوعي الهندي وحزب جاناتا دال. كما يوجد بها أكثر من 30 حزبًا على المستوى الإقليمي في مختلف الولايات والمقاطعات. هذا فضلا عن الأحزاب غير الشرعية مثل جبهة تحرير كشمير والجبهة المتحدة لتحرير أسام.

لقد جمعت الهند في تاريخها وحضارتها فسيفساء من الشعوب والأعراق والطوائف الدينية والثقافات, مما يجعلها برغم ما نالها من تقسيم وتقزيم وخلافات دينية وعرقية أصدق مثال على تعدد الحضارات وتعايشها. ولقد بقي مثال التعدد في الهند الواحدة حيا في مخيلة الساسة الهنود الأوائل, لاسيما جواهر لال نهرو وأنديرا غاندي وهو ما تجسّد في سياسة بلادهم وعلاقتها الإقليمية والدولية.

لقد كان من نتيجة الاستعمار الإنجليزي, والجراحات التي خلفها على الكيان الهندي, وما استتبعها من تقسيم وحروب وتداعيات, أن اندفعت الهند نحو زاوية صغيرة من جغرافيا السياسة والحضارة والدين, لكن ذلك لم يكن غير رد فعل عابر بدليل استمرارية الهند الديمقراطية وتجلياتها الأخيرة في آخر انتخابات تشريعية فاجأت العالم, وذكّرت من يتذكر أو يريد أن يتذكّر بنموذج المهاتما غاندي ليس فقط في سلمية الكفاح ضد الدخيل, بل أكثر في سلمية التعايش بين مكونات الأمة الهندية على كثرة وشدة اختلافاتها.

حق المواطنة

هذا (التعايش) الوطني الهندي, هو محصلة تاريخية وجغرافية وروحية لم يهدرها أبناء الهند, بدليل ما حدث في الانتخابات الأخيرة, وصورة الحكم بها حيث رئيس الدولة عالِم مسلم, ورئيس الوزراء مفكر اقتصادي بارع من السيخ, والحزب الحاكم تقوده امرأة من أصول أوربية (إيطالية المنشأ), وهذا الحزب نفسه هو امتداد لفكر المهاتما غاندي الذي دفع حياته ثمنًا لإيمانه بأن المسلمين مكوِّن أساسي من مكونات الأمة الهندية وإن كانت غالبيتها من الهندوس.

إن الهند التي تعد ثانية كبرى الدول من حيث عدد السكان, إذ تبلغ مليارا و29 مليون نسمة بتقديرات 2001, 82% منهم يدينون بالهندوسية, و12% بالإسلام, 2.3% بالمسيحية, و2% من السيخ, و4% بوذيون. وهؤلاء جميعًا تتوزعهم نحو 1000 لغة ولهجة بينها 24 لغة يتحدثها أكثر من مليون إنسان. هذه الهند التي تموج بالتباينات الدينية والعرقية واللغوية, استطاعت أن تجعل من حق المواطَنة نبراسًا للتعايش والتكامل في أمة واحدة, ولاشك أن التعليم الجيد والديمقراطية المثابرة كانتا درعًا حامية لهذه المواطَنة التي لم تنطل عليها ألاعيب الفتن الطائفية والعرقية وغزل التعصب. أمة كبيرة أدركت أنها في حاجة إلى الجدية والجد, ونبذ التهافت المحلي, وإدارة الظهر للشر الكامن في كل اللافتات والتنظيرات الاستئصالية في حلقات التطرف الصغيرة والكبيرة, في الداخل, كما في العالم الواسع.إنه درس هندي بليغ, ولاتزال الهند مكتنزة بدروس بليغة أخرى, فهل من رحالة عرب جدد لاستكشافها.. عبرةً, واعتبارًا?!

 

سليمان إبراهيم العسكري