حول مسيرة التعليم العالي العربي أمين عبدالله محمود

حول مسيرة التعليم العالي العربي

إن التعليم العالي العربي يعاني أزمة حقيقية تكمن في ما تم تحقيقه من تسارع متزايد في عدد من الجامعات دون أن يتاح لها الوقت الكافي لترسيخ بنيتها المؤسسية وتعميق دورها المعرفي.

تشير الإحصاءات إلى أنه خلال الفترة ما بين 1985 - 1996 تزايد عدد طلبة مؤسسات التعليم العالي بمعدل سنوي يعادل 5% تقريبًا ليصل إلى حوالي 3.1 مليون طالب عام 1996 و3.6 مليون عام 1998. وهذا يعني زيادة في أعداد الطلبة تقدر بـ 9% سنويًا وهي من أعلى النسب في العالم. ومن المتوقع أن يصل عدد طلبة التعليم العالي إلى حوالي 6 ملايين بحدود عام 2010.

وارتفع عدد الجامعات من 10 جامعات في أوائل الخمسينيات إلى 175 في عام 1996, ويقترب العدد حاليًا, أي عام 2004, إلى ما يزيد على 200 جامعة (35% من بينها تقريبًا جامعات خاصة) بالإضافة إلى أكثر من 600 كلية ومعهد جامعي.

ومن الجدير بالذكر, أن النسبة الأكبر من أعداد الطلبة الجامعيين هم في مرحلة البكالوريوس, حيث تصل نسبتهم إلى حوالي 80% من المجموع مقارنة بحوالي 55% في العديد من الدول الصناعية المتقدمة.

ومع هذا النمو المتسارع الكبير, تبقى معدلات الإنفاق السنوي على طالب التعليم العالي متدنية كثيرًا مقارنة بنظيره في الدول المتقدمة حيث يبلغ متوسط هذا الإنفاق حوالي 2500 دولار في حين يصل الإنفاق في جامعات بعض الدول المتقدمة إلى حوالي 4500 دولار.

ومن الجدير بالملاحظة أن حوالي 57% من طلبة التعليم العالي موجودون في 8 بلدان عربية: اليمن, الصومال, السودان, موريتانيا, جيبوتي, مصر, سورية, والمغرب, حيث يتراوح معدل الإنفاق السنوي فيها بين 550 دولارا و1500 دولار علمًا بأن هذه البلدان تضم أكبر وأقدم الجامعات العربية. وهناك 32.5% من طلبة التعليم العالي موجودون في 7 بلدان عربية: فلسطين, العراق, الجزائر, ليبيا, تونس, الأردن ولبنان, يتراوح معدل الإنفاق فيها بين 1750 دولارًا و3100 دولار. أما دول الخليج التي تضم حوالي 10.5% من طلبة التعليم العالي: قطر, البحرين, السعودية, الإمارات, الكويت وعُمان, فإن معدل الإنفاق فيها يتراوح بين 1600دولار و7650 دولارا.

ومن النتائج المباشرة لهذا المعدل المتدني في الإنفاق, تدني مستوى المكتبات الجامعية وافتقارها إلى الكتب والمراجع الحديثة, وافتقار المختبرات العلمية إلى الأجهزة المتطورة, وتكدس الفصول بالأعداد المتزايدة من الطلبة بالإضافة إلى تباعد المسافة بينهم وبين أساتذتهم, وقلة الاحتكاك العلمي الدوري بالمراكز والجامعات المتقدمة وعدم توافر الفرص الكافية لتطوير وتحديث القدرات التدريسية والبحثية لأعضاء هيئة التدريس, ناهيك بمعاناتهم من الانخفاض الحاد في القوة الشرائية لمرتباتهم التي لا تتيح لهم التفرغ الجاد للتعليم والبحث العلمي.

ومن الأمور المقلقة الأخرى تدني عدد الطلبة الملتحقين بالدراسات العلمية بمختلف أنواعها, إذ لا تتجاوز النسبة في أفضل حالاتها حوالي 30% من مجمل عدد الطلبة, في حين تصل نسبة الطلبة الملتحقين بالدراسات النظرية (الإنسانية والاجتماعية والإدارية والقانونية) إلى حوالي 70% أو أكثر. وتتراوح نسبة الطلبة إلى أعضاء هيئة التدريس من حملة شهادة الدكتوراه في هذه التخصصات, بين 1: 17 إلى 1: 41 في الدول الخليجية وبين 1: 21 إلى 1: 223 في بقية الدول العربية. وإذا ما نظرنا إلى المعدل العربي العام لنسبة الطلبة إلى أعضاء هيئة التدريس في مجمل هذه التخصصات فإننا نجده يصل إلى حوالي1: 78 طالبا لكل عضو هيئة تدريس!! وهذا مؤشر على وجود اختلالات خطيرة في نظام التعليم العالي العربي, وإذا لم يتم التصدي لها بكل عزم وجدية, فستؤدي إلى تفاقم هذه المشكلات الأساسية, وقد يصبح من الصعب جدًا, بل من المستحيل, معالجتها, وستكون النتيجة, دومًا, مزيدًا من التخلف والتردي في النوعية.

والأهم من ذلك أن هناك عجزًا واضحًا في توفير الحد الأدني من المستلزمات النوعية لبناء برامج أكاديمية مقبولة والاكتفاء بالتوسع الكمي فيها, دون التركيز على النوعية. مما يعكس قصورًا شديدًا في إدراك مدى حاجة مجتمعات نامية كالمجتمعات العربية إلى المساهمات الفاعلة لهذه البرامج في عملية التنمية.

مؤسسات بيروقراطية

ولا يملك المرء إلا أن يتساءل, كيف يمكن أن يتسنى للمجتمعات العربية أن تواجه تحديات النمو الاقتصادي والاجتماعي دون أن تكون هنالك برامج تدريسية وبحثية فاعلة في هذه التخصصات تمكنها من إطلاق الطاقات الحضارية الإبداعية لطلبتها في الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية وفي اكتشاف ينابيع تراثهم الروحي والحضاري, وأن يتمكنوا من محاورة العالم من موقع الحرية والثقة والمشاركة الحضارية الكاملة?

إن التزايد الأفقي الكمي المتسارع في عدد جامعاتنا أدى إلى تحويل غالبيتها إلى مؤسسات بيروقراطية تعاني الترهل في بنيتها الهيكلية الإدارية, وعاجزة عن استيعاب أي محاولة جادة لتغيير وضعها أو تطويره. وبالتالي, فإنها أصبحت مؤسسات محافظة لا تستطيع مواكبة التطورات التربوية الجديدة والتقنيات العلمية المذهلة.

وإذا ما نظرنا إلى أغلب المناهج الدراسية, وخاصة العلمية والتقنية منها, فإننا نجدها تعاني التبعية شبه المطلقة إلى المصادر الأجنبية - مع بعض التطويع هنا وهناك. فالمناهج والمقررات الدراسية بشكلها العام وبفلسفتها التربوية بعيدة عن واقع المجتمع العربي وما يعانيه من مشاكل خطيرة في الوقت الحاضر, ويسودها الجانب النظري على حساب الارتباط مع الواقع العملي أو المهني. بل الأسوأ من ذلك, أن النمط التدريسي السائد يشجع على حفظ المادة الدراسية من خلال الملزمة المقررة أو الكتاب المنهجي, على حساب التفكير والتعلم من مصادر متعددة وحديثة, أو من خلال البحث والتحليل النقدي الذاتي. إن العملية التدريسية أصبحت تتصف بالجمود وبالتلقيم الميكانيكي, وعدم وجود أي تفاعل إنساني حقيقي بين الأستاذ والطالب, إضافة إلى ضعف الإرشاد الأكاديمي والنفسي, مما أدى إلى وجود عزلة حقيقية بين الهيئة التدريسية والطلبة.

وتفتقر أغلب الجامعات العربية إلى الفلسفة التعليمية الواضحة, بالرغم من وجود أهداف طموحة لها يراها المرء في النشرات الإعلامية والكتب السنوية وغيرها. فهي تتصف بالتكرار وتقديم الباقة الأكاديمية نفسها, وتحاول أن تطرح أكبر عدد ممكن من التخصصات العلمية المرغوبة, دون التركيز على مجالات محددة.

فالقليل منها يركز على البحث العلمي أو الدراسات العليا مثلاً, والقليل منها يتميز بجودة واضحة في تخصصات بعينها. ولابد من الاعتراف بأنه لا يمكن لأي جامعة أن تتميز بكل التخصصات وبكل الأوقات. إن أهم ما يميز شخصية أي جامعة هو مدى ارتباطها بخصائص المكان الذي تعمل فيه والمجتمع المحلي الذي تتعامل معه. إن أغلب الجامعات العربية اليوم تفتقر إلى الخصوصية والتركيز على الربط مع حاجات المجتمع. فالكثير منها يعمل بشكل منعزل عن المحيط المحلي, و(ارتباطها) الوحيد مع المجتمع هو من خلال تقديمها بعض الدورات التدريبية أو دورات (التعليم المستمر).

وينعكس هذا القصور في التفاعل مع المجتمع المحلي من خلال طبيعة البحوث العلمية إن وجدت. فهي في غالبيتها لا تتعامل مع المشاكل الفعلية للمجتمع المحلي وحاجات السوق المحلية, إلا بنسبة محدودة. كما أن قلة الإنفاق على البحث العلمي, وقلة الباحثين أساسًا, وعدم توافر الظروف الملائمة والمستلزمات اللازمة, تزيد من هذه المشكلة.

ومن الملاحظات المهمة أن غالبية الجامعات العربية ينحصر اهتمامها في عملية التدريس فقط ولا يتجاوزها نحو تأسيس مراكز البحوث التي تمثل في جوهرها امتدادًا للنشاط البحثي الأكاديمي نحو المجالات التطبيقية أو التخصصية.

فالعلم المتطور ليس نتاجًا للجامعات والمعاهد العليا فقط وإنما هو - بدرجة أساسية - نتاج مراكز البحوث المتخصصة. فالجامعات عادة - تقدم لطلابها العلم الذي أصبح معروفًا ومستقرًا, وتكتفي الجامعات بما اصطلح على تسميته بالجوانب الأكاديمية, في حين تقدم مراكز البحوث حلولاً للمشكلات, وتقوم بتوصيل نتائج البحوث والتطوير للمؤسسات العاملة في خدمة المجتمع ومنها الجامعة, ولا يحتاج المرء إلى بذل مجهود كبير ليكتشف الأهمية المتدنية التي توليها جامعاتنا العربية في مجملها للبحث العلمي وتطويره.

إنفاق متدن

إن الإنفاق الكلي على البحث العلمي لا يتجاوز 0.15% من الناتج المحلي الإجمالي, وهي نسبة متدنية جدًا, مقارنة بإسرائيل - على سبيل المثال - التي تقتطع من ناتجها المحلي الإجمالي لأغراض البحث العلمي نسبة مئوية تعادل 17 ضعفًا للنسبة المئوية التي يقتطعها العالم العربي من ناتجه المحلي الإجمالي. ومن ناحية أخرى فإن مجمل ما تنفقه الجامعات العربية بمجملها على البحث العلمي لا يزيد على 1/6 منحة التمويل السنوية التي تحصل عليها جامعة بيركلي من حكومة ولاية كاليفورنيا مقابل الخدمات التي تقدمها للولاية.

إننا حقيقة في أمس الحاجة إلى تطوير طريقة تعاملنا مع العلم والمعرفة. فالاهتمام الذي توليه جامعاتنا لا يتعدى في مجمله حتى الآن مرحلة النقل والاقتباس عن الآخرين ولم تتجاوزها بعد إلى مرحلة التحدي الحقيقي التي يتم خلالها انطلاق العقل الإنساني وتحرره من شتى القيود المعيقة, والجري وراء الحقيقة العلمية عن طريق البحث العلمي الجاد.

إن البحث العلمي هو أساس تقدم الأمم والشعوب, ولذا فإن إقامة مراكز بحوث علمية بمختلف أنواعها كفيل بنقل المجتمع - أي مجتمع - من مرحلة الجمود والتخلف إلى مرحلة الحركة والنمو. ويشكل هذا في حد ذاته عامل جذب واستقطاب لأعضاء هيئة التدريس المتميزين.

هل يمكن الإصلاح?

إن الأوضاع السياسية والاجتماعية العربية في مجملها مرتبكة وتعاني أزمات كبيرة وخاصة في بعض الدول مثل العراق وفلسطين والجزائر والسودان. وأن هذه الأوضاع غير المستقرة, إضافة إلى الأزمات الاقتصادية والتناقضات الاجتماعية المختلفة, قد أثرت سلبيا في المسيرة التعليمية في أغلب الدول العربية, وخلقت صعوبات جمة حتى أمام تحقيق أدنى المستويات النوعية المطلوبة.

ومن الطبيعي فإنه في مثل هذه الأوضاع المتأزمة لا يمكن تحقيق أي درجة من التقدم أو التطوير أو الإصلاح في مجالات التعليم إلا بعد مراجعة شاملة وضرورية لبنية هذه الأنظمة السياسية الحاكمة نفسها, وحتى الطريقة التي تتعامل بها مع شعوبها أو مؤسساتها المدنية إن سمح لها بالوجود.

إن أي (إصلاح) لمسيرة التعليم العالي يجب أن تبدأ أولاً باقتناع حقيقي من الحكومات المركزية أو الأنظمة الحاكمة وبدعم ملموس منها, وهذا غير ممكن إلا إذا حصل ضمن تفاعل حقيقي وديمقراطي مع كل فئات الشعب ومؤسساته المدنية والتربوية والثقافية.

إن على الدولة أن تدعم مبدأ استقلالية الجامعات ضمن إطار استراتيجي وطني عام يسمح لها بإدارة جميع شئونها الإدارية والأكاديمية والمالية وفق أنظمتها وأولوياتها الخاصة على أن تخضع للمحاسبة والرقابة النوعية من هيئات مستقلة عن سيطرة الحكومة وضمن نظام شفاف يعتمد نشر المعلومات والإحصاءات الصحيحة والمدققة. إن التعليم العالي في غالبية الدول العربية يعاني السيطرة المركزية للدولة وتدخلها المباشر وغير المباشر في الأنظمة والخطط الدراسية ومعايير الاعتماد والجودة وأسس القبول وغيرها.

ولذا, فإن على الدولة التخفيف من هيمنتها على الجامعات والتخلي عن التدخل المباشر في تعيين أهل المناصب الإدارية فيها باعتماد ما هو معمول به في العديد من الجامعات العالمية بإنشاء (لجان البحث والتقصي) بآلية عادلة لاختيار متولي المناصب الإدارية العليا, والمناصب الأكاديمية بدءًا من رئيس الجامعة وانتهاء برؤساء الأقسام, ولنا في تجارب العالم المتقدم نماذج تحتذى.

ولعل ذلك أيضًا يشكل حافزًا لأصحاب المال في الجامعات الخاصة أن يتوقفوا عن التدخل المباشر في شئونها لإتاحة المجال للأعراف والتقاليد الجامعية أن يتم إرساؤها كما هو معمول به لدى من سبقنا من الدول النامية. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بإيجاد الضوابط القانونية التي تضمن إيجاد علاقة متوازنة بين قوى المال وإدارة الجامعة, والحفاظ على استقلالية القرار الأكاديمي, ووضع التشريعات اللازمة لذلك.

لقد أصبح الآن من أهم أولويات التعليم العالي وضع مقاييس عامة للأداء وضبط الجودة من خلال مؤسسات وهيئات اعتماد وتقويم غير حكومية مستقلة مرخصة أو اتحادات مهنية, تقوم بإجراء عمليات التقويم الشاملة للمناهج الأكاديمية والمهنية, والتنظيمات الإدارية والمالية, والمباني والمرافق الخدمية وغيرها, إضافة إلى تقويم الأداء العلمي من خلال فحص السجلات الخاصة بأداء الطلبة والأساتذة, والزيارات الموقعية, والمقابلات الشخصية وغيرها من الإجراءات اللازمة للتأكد من أن البرامج المطروحة قد حققت المعايير والشروط المطلوبة.

إن إقامة نظام مستقل للتقويم المقارن لجودة البرامج الأكاديمية في الجامعات يخلق ظروفًا تتميز بالفاعلية والنشاط وتشجيع المنافسة الإيجابية بها. كما سيؤدي ذلك بدوره إلى تكامل متطور بين قرارات التمويل الجامعي من ناحية والأولويات الوطنية وأولويات السوق من ناحية أخرى.

مصادر للتمويل

كما سيكون بالإمكان خلق مصادر جديدة لتمويل التعليم العالي (من خلال المنح والهبات) من الحكومة والمؤسسات الصناعية والمتبرعين الأجانب والمؤسسات الخيرية للبرامج التي أثبتت جودتها العالية في الجامعات الحكومية والخاصة. وأنه من الأفضل جذب التمويل الإضافي من أجل البرامج ذات الجودة بدلاً من وضع برامج موازية أو تكميلية أو دولية كما يحدث في بعض الجامعات العربية الحكومية, وهي برامج ذات أغراض وجودة مشكوك بهما. ومن ناحية أخرى, فإنه يترتب على الحكومة أن تتخذ الإجراءات المناسبة لتخفيف القيود والتدخل في شئون الجامعات مما يفتح أمامها حرية أوسع للتنافس إضافة إلى تعزيز إيراداتها بقدراتها الذاتية. ويجب أن تستند هذه الإجراءات بصورة أكبر إلى معايير الجودة وذلك لإرشاد الحكومات في قراراتها بالتمويل. وهكذا يتحول دور الحكومة تدريجيًا من دور المهيمن ومصدر التمويل الرئيسي للجامعات الحكومية إلى دور المنظم الذي يمنح التمويل حسب استحقاقات مدروسة. ويصبح ضبط الجودة في هذه الحالة حجر الزاوية في عملية إصلاح نظام التعليم العالي وتطويره.

غير أن عملية الاعتماد في الدول العربية, تقع ضمن مسئوليات الحكومة المركزية ومن خلال وزارات التعليم العالي تحديدًا. وقد ترتب على ذلك - مع الأسف - عدم شمول الجامعات الحكومية لضوابط الاعتماد وكأنها مؤسسات خارجة عن نطاق القانون. إن تطبيق ضوابط الاعتماد على جميع المؤسسات التعليمية, بغض النظر عن ملكيتها, خاصة كانت أم حكومية, هو ضرورة قصوى للحفاظ على مستوى تعليمي جامعي يضمن على الأقل, تحقيق المستويات العلمية اللازمة لتأهيل الخريجين للعمل في تخصصاتهم المختلفة وخدمة المجتمع بشكل فعال.وليس من الغريب أن نرى أن أغلب الجامعات الخاصة في الدول الغربية, وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية, هي مؤسسات غير ربحية, وأن الأرباح التي قد تحققها تنفق على البحوث والتطوير فيها, بل إنه حتى المؤسسات الربحية, تخضع لمحددات صارمة فيما يخص مواردها المالية إن أرادت أن تحصل على الاعتماد.

إن التجربة العربية في مجال التعليم العالي الخاص, لا تعمل في مثل هذه المنظومة المتكاملة. لأن العديد منها يعمل بمبدأ الربحية دون تحقيق المستويات العلمية المقبولة, وأن الجهات المالكة الخاصة لاتزال تتحكم في أغلب أمور المؤسسة التعليمية, الأكاديمية والإدارية.

التنمية المعرفية

لقد خلقت ظاهرة العولمة حقائق جديدة لا يمكن إهمالها, وفرضت نظام اقتصاد السوق العالمي الذي تخطى الحدود السياسية والجغرافية القائمة, وغيّر مفهوم السيادة القطرية, وخلق نظامًا تنافسيًا شديدًا أساسه التعليم والمعرفة. وفرضت العولمة التعامل المتزايد مع التكنولوجيا المتطورة في شتى مجالات الحياة, ومنها الإنتاج والاتصالات المبنية أساسًا على المهارات المعرفية التي توفرها المؤسسات التعليمية.

وتساهم التكنولوجيا الجديدة في خلق جيل قادر على أن يتعلم ويتعامل مع المعرفة ويستطيع اختيار الملائم منها وتطويعها لمنفعته وتلبية احتياجاته. إن التطور الاقتصادي يعتمد الآن على المعرفة وإنتاجها وتسويقها مما يضع تحديات مهمة وجوهرية أمام السياسات التربوية والتعليمية وأسس التنمية المعرفية الإنسانية.إن هذه التنمية المعرفية تتطلب تخصيص موارد وأعباء مالية هائلة ومتزايدة, وذلك لأنها تعتمد على بنية تحتية ذات تقنيات متطورة ومتنامية ومتغيرة بسرعة. إن هذه الحقيقة ستضع أغلب الدول العربية محدودة الدخل, في مآزق التهميش والفقر المعرفي. ويستطيع المرء الآن أن يلمس مدى التخلف أو ما يسمى بـ (الفجوة المعرفية) التي تعانيها أغلب الدول العربية, بالرجوع إلى تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 الذي يشير بكل صراحة إلى العجز المعرفي الذي تعانيه الدول العربية.

إن التطورات السريعة في تقنيات التعليم العالي, وكنتيجة مباشرة للثورة المعلوماتية, بدأت بإحداث تحوّلات أساسية وبنيوية في أغلب الجامعات في الدول الصناعية المتقدمة. فلقد باشرت هذه الجامعات بالتركيز على نموذج التعلم بدلاً من نموذج التدريس التقليدي والاعتماد المتزايد على أسلوب العلم عن بعد والذي يركز على التعلم التفاعلي الإلكتروني. إن نظام التعلم الإلكتروني يختلف تمامًا عن نظام التدريس الصفي في القاعات, وفق ساعات محددة, وبرنامج محدد زمانيًا ومكانيًا, ونسب حضور وغياب. فهذا النظام الجديد يوفر فرصًا لتعليم أعداد هائلة من الطلبة في أي مكان, ومن قبل أفضل الأساتذة في العالم, وبكلف مالية أقل بكثير من الأنظمة التقليدية. لكن لهذا النظام الجديد معارضين كثيرين أيضًا, فهو يحتاج إلى معايير اعتماد جديدة وضبط النوعية وجودتها. ويدور الآن جدل كثير في الأوساط التربوية الغربية حول هذه المسألة, وكيفية السيطرة على الأمانة العلمية, والاعتراف بالشهادة, وموقع الامتحانات التقليدية التي تتطلب حضور الطالب شخصيًا وغيرها من التحفّظات.

كما أن هذه الثورة في تقنيات وأسلوب التعليم والتعلم خلقت ثقافة أكاديمية جديدة تسمى بنظام التعليم بلا حدود أو Borderless Education وهي فلسفة تربوية جديدة لا تعترف بالحواجز المفتعلة بين مختلف أنواع التعليم (الأساسي) و(الثانوي) و(العالي) و(المهني), بل تزيلها, ولا ترتبط بالمحددات الجغرافية (المكانية) ولا بالوقت.

ويتطور مفهوم الجامعة التقليدي الأحادي إلى مفهوم الجامعة التعددية حيث سينصب التركيز على اكتساب المعرفة من الوسائل الإلكترونية المتعددة, ضمن مؤسسات جامعية تدار بأسلوب الشركات الخاصة. وسيعتمد هذا النظام الجديد على مبدأ التنافس الشديد بين الجامعات على أساس (جودة) البضاعة التعليمية المطروحة في السوق. ومن هذا المنطلق, فإن قوى (السوق التعليمي) سترتبط بديناميكية السوق والمجتمع المحلي والتطوير العلمي والتقني, وأن هذه القوى هي التي ستقرر مَن ينجح ومن لا ينجح في هذه الخدمات التعليمية, وهي التي ستقرر أسلوب التقويم وضبط النوعية والجودة.

أين الجامعات العربية من كل هذا? إن هذه التحديات الكبرى لا يمكن التغاضي عنها بعد الآن. بل يجب الاعتراف بها والتحرّك السريع للتعامل معها, فهي قادمة لا محالة, وتتحمل الجامعات مسئولية كبرى في التصدي لهذه التحديات والاستعداد لها.

 

أمين عبدالله محمود