حلم المشروع الثقافي العربي قاسم عبده قاسم

حلم المشروع الثقافي العربي

إن العرب يبدون حاليا عدة قبائل تائهة يسلكون طرقًا ودروبًا مختلفة, بل متصادمة أحيانا. كما أن العرب - على الرغم من تفرقهم وتشرذمهم - يشتركون في أمر واحد هو أنهم يعيشون حالا من الاستهلاك السياسي والاقتصادي والثقافي.

من الناحية السياسية (يستهلك) العرب المشروعات السياسية التي يضعها الآخرون لصياغة الحاضر والمستقبل لهذا البلد أو ذاك من بلاد العرب. كما أنهم يستهلكون ما ينتجه الآخرون على المستوى الاقتصادي: سواء من البضائع أو (الوصفات) الجاهزة (لتحرير) الاقتصاد, فضلا عن النظريات والتوجهات الاقتصادية.

أما على المشروع الثقافي, فإن الأمر يستدعي طرح عدد من الأسئلة المشروعة حول (المشروع الثقافي العربي).

السؤال الأول يتعلق بوجود (كل عربي) يقوم على أساسه (المشروع الثقافي العربي) وهل هناك شعور بوجود هذا الكل العربي في وجدان الإنسان العربي في أي جزء من العالم العربي?

إن الإجابة عن هذا السؤال تتطرق بالضرورة إلى استعراض ما جرى خلال العقود الثلاثة الماضية على أقل تقدير, ومدى تأثير ما جرى على الإيمان بـ(الكل العربي) أو حتى مجرد الإحساس بوجود هذا الكل العربي.

فقد كانت هزيمة يونيو 1967م صدمة نفسية مؤلمة للعرب, بيد أنها لم تفرق العرب وإنما زادت من تآزرهم لمواجهة الكارثة, وكان مؤتمر الخرطوم أبرز عناوين التضامن العربي, كما كان مؤتمر القاهرة 1970 لرأب الصدع الذي حدث بين الثورة الفلسطينية والملك حسين لصالح المقاومة العربية ضد الصهيونية والمطامع والخطط الأمريكية هو آخر عناوين التضامن العربي. ثم مات جمال عبدالناصر وهو في وداع آخر الحكام العرب المغادرين بعد نهاية المؤتمر. ثم جرى ما جرى حتى قامت حرب أكتوبر سنة 1973م, والتي كانت إنجازاً عسكرياً مشرقاً للقوات العربية في مصر وسوريا, ولكن نتائجها السياسية كانت هزيمة بكل المقاييس, وتمثل أخطر هذه النتائج في تدمير التضامن العربي, وضرب فكرة (الكل العربي) ضرية مؤلمة أسهمت فيها كل الأطراف.

السؤال الثاني يتعلق بالبيئة الثقافية العربية التي يزدهر فيها المشروع الثقافي العربي, فهل هناك بيئة ثقافية عربية حقاً?

للبيئة الثقافية شروط موضوعية تتمثل في طابع عام مشترك لهذه البيئة, وفي المقومات الأساسية التي تقوم عليها هذه البيئة, فضلا عن الناتج الثقافي المتمايز لهذه البيئة الثقافية.

والطابع العام المشترك للبيئة الثقافية في العالم العربي يتمثل, حتى الآن, في عناصر تنتمي إلى الماضي أكثر مما تنتمي إلى الحاضر والمستقبل. فاللغة العربية بكل ما تحمله من تراث التطور الثقافي للمنطقة العربية, وبكل ما تمثله من مفاهيم وقيم وأفكار, هي العنصر الأشد وضوحاً في الطابع العام المشترك للبيئة الثقافية العربية. بيد أن هذه اللغة تحمل تراث الماضي وتعكس حقائق زمن مضى وربما يكون الجانب الديني هو الذي يحفظ هذه اللغة من أن تنهار أمام اللهجات المحلية بصورة متزايدة, كما أن مفرداتها تزداد محلية بمرور الوقت. وليست هناك جهود كافية لجعل  اللغة العربية لغة للعلم بجوانبه الفيزيقية والرياضية والطبية في العالم العربي, بل إن الجهود العربية لم تتفق على الحد الأدنى من معالم سياسة عربية لتعريب العلم. ومن ناحية أخرى, اقتصرت اللغة العربية على الجوانب الاجتماعية والإنسانية من العلم.

النظام التعليمي العربي

كذلك, فإن الأجيال الجديدة من أبناء الوطن العربي يقبلون بشكل متزايد على التعلم باللغات الأجنبية لأسباب اجتماعية واقتصادية ونفسية متعددة, والكثير منهم في حال خصام مع اللغة العربية تتصاعد يوماً بعد يوم.

ولعل أهم مقومات البيئة الثقافية في أي مجتمع هي تلك التي تتمثل في النظام التعليمي, والمواهب المختلفة, والرعاية التي يوفرها المجتمع للموهوبين والمبدعين من أبنائه, وعندما ننتقل إلى الحديث عن البيئة العربية الثقافية نجد أن نظم التعليم في العالم العربي نظم مختلفة في بنيتها وتوجهاتها بحيث لا يمكن الحديث عن نظام تعليمي عربي, أو حتى عن ملامح عامة مشتركة في نظم التعليم في البلاد العربية. وأهمية النظام التعليمي في تكوين البيئة الثقافية تتمثل في أنه يزرع نظاماً من القيم والأفكار والتوجهات الثقافية في سنوات التكوين الأولى لتلاميذ المدارس: فضلا عن أنه يمكن أن يرسخ قيم الإبداع أو يكبتها ويقضي عليها.

وبداية ليس ثمة نظام تعليمي واحد في البلاد العربية بحيث يمكن أن يزرع توجهاً عاماً أو يخلق أرضية ثقافية مشتركة, بل إن ما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية (ولأسباب عدة كانت الثروة البترولية من أهمها) أدت نظم التعليم المختلفة في البلاد العربية إلى تكريس القطرية والانعزالية بشكل مخيف, فالتواريخ المحلية - مهما كانت حداثتها وسطحيتها - جرى تضخيمها والاحتفاء بها على حساب الانتماء العربي العام من ناحية, كما صارت نوعا من الدعاية الفجة للحكام الجالسين على كراسي الحكم من ناحية أخرى (وهنا ينبغي أن ننتبه الى أن ما فعله صدام حسين في المناهج الدراسية لم يكن حالة شاذة أو فريدة في العالم العربي) وعلى المستوى الأكبر حافظت كتلة من بلاد العرب على روابطها الأوربية الفرنكفونية, على حين انبهرت كتلة أخرى بالتعليم الأمريكي انبهاراً انصب على الشكل دون المضمون, وبقيت بلاد مثل مصر حائرة بين اتجاهات وتجارب تعليمية شتى كانت نتيجتها النهائية ذلك التردّي البائس في مستويات التعليم. وما نريد قوله, باختصار, في هذه النقطة أنه لا يوجد نظام تعليمي مشترك في العالم العربي بحيث يكون أرضية عامة لمشروع ثقافي عربي.

فإذا انتقلنا إلى المواهب باعتبارها من مقومات أي مشروع ثقافي, فإن حال المواهب العربية تدعو إلى الأسى حقاً. فالموهبة شيء خاص يتمتع به الشخص الموهوب, بيد أن الموهبة التي لا تلقى الرعاية والعناية, والتي لا تصقلها الدراسة والمتابعة, تضيع في غياهب الحياة ومشكلاتها. والعرب, شأنهم شأن غيرهم من خلق الله, فيهم عدد من الموهوبين الذين يمكن أن يكونوا ثروة هذه الأمة وروّادها في النهضة (في الآداب والفنون, وفي العلوم البحتة, في الطب والعمارة, وفي الفنون الجميلة, وفي جميع نواحي الحياة), ولكن الإبداع لا يلقى الرعاية الواجبة في ظل بيئة ثقافية وعلمية تتسبب في (نفي الأفضل).

ثقافة رمادية

ومن ناحية أخرى, فإن الرقابة الصارمة على الكلمة المكتوبة والصورة والكلمة المسموعة, والأفلام تكاد تغطي أكثر من أربعة أخماس العالم العربي, ومن المدهش أن عددا من الدول لايزال يتشدد في مثل هذه الأمور الرقابية على الرغم من التطور الهائل في وسائل الحصول على المعلومات. ولذلك فإن حال الخوف أفرزت, بشكل عام, نوعا من الثقافة الرمادية المترددة التي تؤثر السلامة, وقد أدى ذلك, إلى جانب أسباب أخرى عدة, إلى فشل المثقفين العرب في قيادة بلادهم حتى على المستوى القطري, وربما كان أفضل ما أمكنهم الوصول إليه هو العمل في خدمة هذا النظام السياسي أو ذاك.

والبيئة الثقافية تستوجب الحوار والاعتراف بالآخر, وجوداً ورأياً وممارسة, ولكن الحاصل أن الحوار والاعتراف بالآخر قد اختفيا من العالم العربي أو كادا, فالحرية السياسية تفرز بالضرورة حرية فكرية وتثري البيئة الثقافية. وهو أمر تفتقر إليه الحياة العربية. وصارت الخنادق الثقافية والأسلاك الشائكة الثقافية من أهم سمات جبهة الحرب الثقافية, وبات من المعتاد أن تكال الاتهامات من شتى الأنواع وعلى كل الاتجاهات, واختفت تلك المعارك الفكرية النظيفة التي عرفتها حياتنا الثقافية في النصف الأول من القرن العشرين, وحتى ستينيات هذا القرن على أقل تقدير.

والناظر في حجم التآمرات الثقافية على مسئول في جهاز ثقافي, أو مبدع, أو كاتب, أو مفكر, أو تيار فكري, خلال السنوات الأخيرة سوف يلاحظ بحزن وأسى مدى اختلاط أساليب من ينسبون أنفسهم إلى العمل الثقافي بأساليب من ينتسبون بالفعل إلى الأجهزة الأمنية.

ومن المؤلم أن البيئة الثقافية العربية بكل سلبياتها, التي ذكرنا بعضها, وبحالتها الراهنة لا يمكن أن تكون بيئة راعية لمشروع ثقافي عربي.

السؤال الثالث: يتعلق بالإنتاج الثقافي العربي ومدى صلاحيته لأن يكون أساساً لمشروع ثقافي عربي, فهل نحن ننتج النتاج الثقافي العربي الذي يصلح أن يكون زاداً لمثل هذا المشروع?!

ليس المقصود بالإنتاج الثقافي هنا ما ينتجه المثقفون بشكل مادي أو كمي سواء في فنون القول (مثل الرواية والقصيدة والقصة القصيرة والمسرحية... وما إلى ذلك) أو في فنون الشكل (التصوير - النحت, الرسم) أو في فنون التمثيل على اختلافها, إذ إن هذا الانتاج في حد ذاته ليس هو المهم, وإنما الأهم هو أنه يتم في إطار اتجاهات ومدارس فكرية, وفلسفات ونظريات تعبر عن تيارات ثقافية - اجتماعية من جهة, كما تنبئ عن تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية جرت على مجتعاتهم من جهة ثانية, فضلا عن أنها تحمل المصطلحات والتعريفات والمفاهيم المعبرة عن ذلك كله من جهة ثالثة فهل يمكن أن نقول إن الإنتاج الثقافي العربي يتم في سياق عربي يعبر عن هذا كله?

السؤال الرابع: عن طبيعة الثقافة, هل الثقافة فعل شعبي? أم هي عمل حكومي?

الثقافة فعل شعبي

الثقافة بطبيعتها فعل شعبي, فهي في كل تجلياتها تعبير عن فكر ورؤى ومواقف, ومصالح مختلف طبقات المجتمع. وهي من ناحية أخرى, نظام قيمي وأخلاقي لضبط حركة الأفراد والجماعات داخل المجتمع, كما أنها محصلة لمجمل النتاج الفكري والفني المعبر عن هذا كله. ولذلك فإن الثقافة فعل شعبي متعدد المستويات ومتعدد النتاج أيضا. ففي التيار الثقافي العام لأي مجتمع تصب الروافد الثقافية الفرعية. وهنا يطرح السؤال نفسه عمّا إذا كان من المناسب ترك حركة الروافد الثقافية الفرعية, والتيار الثقافي العام, تنساب مثل الأنهار دونما محاولة من الإنسان لضبط حركتها والإفادة منها, وبعبارة أخرى يقول السؤال إذا كانت الثقافة فعلاً شعبياً فهل تترك كما هي, أم ينبغي على المؤسسات الأهلية والحكومية أن ترعاها وتوجهها لخدمة الكل دون أن يتحول هذا إلى رقابة أو عملية قولبة?

إن وجود وزارات مختصة بالعمل الثقافي في بلاد تفخر بنتاجها الثقافي الراقي (مثل فرنسا) يجعلنا نتساءل عن دور المؤسسات الثقافية على المستوى العربي وقدرتها على توجيه العمل الثقافي العربي نحو أرضية مشتركة. فعلى المستوى القطري قامت وزارة الثقافة في عدد قليل من الدول العربية بعمل مشكور في رعاية العمل الثقافي, ولكن مستوى العمل العربي الثقافي لايزال دون مستوى المشروع الثقافي العربي. ومن ناحية أخرى, فإن المؤسسات الأهلية والجوائز التي تم إنشاؤها لدفع العمل الثقافي العربي المشترك مازالت في طور البداية, وربما ما قبل البداية. أما مؤسسات العمل الثقافي العربي الرسمي, ومنها ما هو تابع لجامعة الدول العربية, فمازالت تتسم بالبيروقراطية من جهة, والبعد عن التواصل الشعبي من جهة ثانية.

ولأن الحكومات تحتكر, بشكل شبه كامل, وسائل نشر الانتاج الثقافي وإذاعته (دور النشر الكبرى, الصحافة, التلفزيون, السينما, شبكة المعلومات), فإن دورها في رعاية العمل الثقافي لايزال أساسياً إلى درجة كبيرة, لكن الأمر الأكثر خطورة هو أن المشروعات الثقافية الخاصة في هذه المجالات تمثل نوعاً من المحرّمات والمحظورات في عيون الحكومات العربية عموماً, وهو ما يقود إلى نتيجة حتمية مؤداها تقليص دور مؤسسات المجتمع المدني في البيئة الثقافية. هذا الموقف يجعل التواصل الثقافي العربي على مستوى الشعوب أمراً بالغ الصعوبة من ناحية, كما يجعل التواصل الثقافي العربي على مستوى المؤسسات مرهوناً بمواقف الحكومات العربية المختلفة من ناحية أخرى, كما يظل التواصل الثقافي العربي فريسة للخصام والمشكلات التي تنشب بصفة شبه مستمرة بين الحكومات العربية.

وقد نتج عن هذا الموقف أن ظلت الممارسات الثقافية العربية ترزح تحت وطأة رقابة عربية على مستويين, رقابة محلية تتراوح في شدتها من دولة عربية إلى دولة عربية أخرى, ومستوى (قومي) يخضع الكتب والأفلام والأعمال التلفزيونية, والندوات والمؤتمرات والمعارض الفنية لرقابة عنيفة في حال انتقالها من بلد عربي إلى بلد عربي غيره. والمثير أن الدول العربية لاتزال تصر - مع هذا - على التظاهر برعاية الثقافة في أشكال مظهرية تجرد الفعل الثقافي من مضمونه ومن فعاليته في معظم الأحوال.

وتبقى الإجابة عن طبيعة الثقافة العربية رهناً بتلك الممارسات التي تحول الثقافة من فعل شعبي إلى عمل حكومي في معظم مناطق العالم العربي.

 

قاسم عبده قاسم