عقدة الحضارة وإلهام التاريخ صلاح سالم

عقدة الحضارة وإلهام التاريخ

فكرة (صراع الحضارات) هل تدحض أو تؤيد فكرة التقدم, التي جاءتنا من عصر التنوير?

تبدو حركة التاريخ العام وضمنه التاريخ الثقافي أقرب إلى التقدم منها إلى أي مفهوم آخر إذا فهمنا معنى التقدم في مجاله الواسع الذي يسمح بالاطراد الزماني, والمكاني ولم نحصره في حلقة ضيقة أو تجربة تاريخية واحدة (دولة/حضارة) فما انهزم التقدم مرة لدى أمة إلا وكان ينتصر في أخرى معاصرة تجاورها في المكان, أو لاحقة تتلوها في الزمان.

وفي هذا السياق يمكن لنا مد عمل هذا المفهوم - إن صح - إلى أفكار وظواهر فرعية شتى تندرج في إطار التاريخ الثقافي خصوصًِا والعام طبعا. وضمنها تأتي العلاقة بين الإسلام والغرب, والتي لا تعدو كونها علاقة تثاقف مزدوجة الأوجه والسياق تتطور نحو الأرقى في خط طويل صاعد لم يتوقف رغم بعض الانقطاعات, ورغم كل ما  يثار الآن من هواجس تغذي العداء والتناقض. ففي هذا الإطار - التقدمي الصاعد - ثمة عوامل جذب وتعاون, وثمة عوامل قطيعة وتنافر, غير أن عوامل الجذب في كل مرحلة تاريخية تبدو أعمق مما كانت في سابقتها, كما أن عوامل القطيعة والتنافر تبدو في كل مرحلة من المراحل أوهى وأبسط من سابقتها, وهذا هو معنى التقدم الصاعد في هذه العلاقة.

ولا يتنافى مع هذا الفهم اعترافنا بوجود لحظات تأزم تبدو صدامية على نحو يفوق السياق التاريخي الممتد فيما قبلها على منوال ما كان مثلا إبان الحروب الصليبية, أو الهجمة الاستعمارية, وأخيرًا فوبيا الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر, فما يحفظ لفهمنا التقدمي صدقيته هو أن كلا من هذه اللحظات تبدو أقل تعقيدا من سالفتها, وليس بالضرورة من السياق الطبيعي السابق عليها, أي أن كلا منها تبدو - كعقدة - أقل عمقا وتعقيدا من العقدة السابقة عليها رغم كونها أكثر تعقيدا من السياق الطبيعي الذي نشأت فيه, إذ يمكن الكشف عن نزعة تبسيطية في جوهرها تمتد بين العقد الثلاث المتوالية تاريخيًا.

عقد تاريخية

فمثلا تتضمن العقدة الأولى الممتدة في لحظة الحروب الصليبية مزيجًا من التناقض الديني, إذ هي تنطلق باسم الصليب نحو أرض الهلال ولو على المستوى التبريري, كما أنها تتضمن وفي الأساس أهدافًا عملية سياسية من قبيل السيطرة والتحكم وبناء المجد للعروش الأوربية الحاكمة, وخاصة في الممالك الصاعدة آنذاك, إضافة إلى الهدف الاقتصادي حيث الطمع في الموارد العربية وخاصة القدس أو أورشليم, التي ذاع عنها في أوربا كونها الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا فضلاً عن كونها الأرض المقدسة.

بينما تتضمن العقدة الثانية الممتدة في لحظة الهجمة الاستعمارية تعقيدًا أقل, إذ جاءت في سياق تاريخي أوربي تجاوز مركزية الدين الذي بقي حبيس الكنيسة وصدور المتدينين يثير الأشواق ويحرّك المشاعر دون أن يحفز السياسات أو يوجّه الجيوش, إلى مركزية الدولة القومية التي تحفز هذه, وتوجه تلك, بل صار يناقض الدين على مستوى الوعي الفلسفي, خاصة في مرحلة الوضعية بشتى تياراتها التي إن لم ترفض الدين نهائيًا كمكون ميتافيزيقي, فإنها على الأقل تزيحه عن مركز وعيها, بينما ظل الدافعان السياسي والاقتصادي حيث الطموح إلى السيطرة والازدهار محرّكين للظاهرة الاستعمارية التي تغطت بأردية كثيفة فكرية وأخلاقية دارت جميعها حول أفكار المركزية الغربية ذات الطبيعة العنصرية الاستعلائية كرسالة الرجل الأبيض في مدينة العالم.أما اللحظة الثالثة (أحداث سبتمبر) التي نعيشها فكرا منذ العقد ونصف العقد, ونعانيها واقعا منذ تدمير برجي مركز التجارة العالمي قبل أكثر من عامين, فهي لاتأخذ الدين, حقيقة, على محمل الصدق وإن تدثرت بغطائه أو رأت في ظواهره السياسية تجليات يمكن توظيفها لها قابلية الحضور ونجاعة التأثير في تحقيق هدفها الحقيقي السياسي/الاستراتيجي في تكتيل الغرب خلف الولايات المتحدة, والتي تضطلع مراكز التفكير الاستراتيجي لديها, وكذلك مثقفوها العضويون, أمثال دانيال بابيس, وروبرت كاجان, وفوكوياما, فضلا عن هنتنجتون, بمهمة البحث في كيفية اغتنامها, من أجل إعادة صياغة النظام العالمي وصبه في هياكل جديدة قانونية وسياسية تعكس التفوق الاستراتيجي الأمريكي, وتضمن إطالة عمره إلى قرن جديد, وهو ما يعني أن جوهر العقدة في هذه اللحظة ليس دينيا سياسيا اقتصاديا, كما كان في الحروب الصليبية, كما أنه لم يعد غربيا مع العالم كله تقريبا كما كان إبان الهجمة الاستعمارية, وإنما يصير أمريكيا هذه المرة وحول الدافعين السياسي - الاستراتيجي, والاقتصادي وهو ما فطن إليه الضمير الأوربي شرق الأطلسي, وهو مافعله أيضا اتحاد الكنائس الإنجيلية بالولايات المتحدة نفسها, ما أظهر الحرب كمحض اختيار أمريكي لا غربي, قومي لا حضاري, نفعي لا قيمي, سياسي لا ديني, وجعل عقدة الصدام في هذه اللحظة الثالثة أخف وطأة من اللحظة الأولى في تركيبها, ومن الثانية في مجالها الجغرافي وهو ما يؤكد على فهمنا العام المتفائل للحركة التاريخية والقائم على مفهوم التقدم بمعناه الواسع والإنساني.

بين التبسيط والتعقيد

ولكن كيف تسير العقد الحضارية نحو التبسيط داخل التاريخ الممتد, بينما يصير العالم في الوقت نفسه إلى التعقيد على مستوى البنية التاريخية حيث ترتبط درجة التقدم الحضاري, بمدى التركيب في البنية التاريخية? بمعنى أوضح كيف تنتج بنية حضارية تزداد رقيًا ومن ثم تركيبًا في التاريخ, عقداً حضارية تزداد بساطة أو تقل تعقيدًا في التاريخ نفسه?

ثمة تناقض ظاهري يزول مع إدراكنا طبيعة المنطق المزدوج للتقدم التاريخي, فهو من ناحية يسير إلى تعقيد على مستوى البنية نتيجة لدوافع معروفة وموضوعية من قبيل الثورات المعرفية المتوالية, والموجات الديمقراطية المتنامية, فهذان المعلمان (العلم والحرية) هما صانعا العالم الحديث في كتله التاريخية, وأنماطه الإنتاجية, وطبقاته الاجتماعية, وهياكله السياسية, وحتى نشاطاته وانشغالاته الفكرية - الفلسفية. وجميعها في تداخلها وتكاملها هي ما تحرك جدلية التقدم والتخلف إذ تمثل الركائز الصانعة لعالمنا الحديث, وهي تزداد تعقيدا كلما ابتعدت عن تلك الركائز التقليدية التي صنعت العوالم القديمة كالعقيدة الدينية, والانتماء العرقي, والتكوين البيولوجي كالقوة البدنية والمواصفات الجسمانية, أو حتى على صعيد البيئة الطبيعية كالمناخ.

التركيب التاريخي

وهو من ناحية أخرى يصير إلى تبسيط على مستوى الأهداف التاريخية, التي تثير التناقض والصراع بين الجماعات البشرية وهو تبسيط ناجم عن التغير نفسه في ركائز صناعة العالم, أو في البنية التاريخية, إذ مع الانتقال من ركائز أولية فطرية إلى حديثة, يتم الانتقال تدريجيا على صعيد الصراع التاريخي من أهداف مثالية ذات طابع إطلاقي, وجوهر ميتافيزيقي كالانتصار لله, أو إعلاء شأن الجماعة الإنسانية (التي قد تكون قبيلة), إلى أهداف عملية سياسية واقتصادية واستراتيجية ذات طابع نسبي, إذ تقوم على تبادل أو حتى احتكار المصالح والمنافع ومن ثم يمكن التفاوض حولها والمساومة عليها والوصول إلى حلول وسط بشأنها, فهذه الحلول هي ما يجعل العقد الحضارية الدافعة إلى الصدام أكثر بساطة وأقل تعقيدا في كل لحظة عنها في اللحظة السابقة, فالبساطة هذه تكاد تكون المعادل الموضوعي لمدى تعقد التركيب التاريخي الذي تسقط بتزايده مركزية الانتماءات الأولية للدين والعرق والطائفة والأسر الحاكمة والتي لا يمكن التفاوض بشأنها أو المساومة حولها أو بصددها, دونما إحداث شروخ في مكونات الهوية, أو جرح للمشاعر الدينية, أو إهانة للكرامة العائلية النابعة من الدم أو حتى من العناية الإلهية, بينما تنمو في المقابل مركزية الانتماءات الحديثة للطبقة الاجتماعية والحزب السياسي, وللهويات الواسعة كالوطن والأمة والإنسانية, مما يزيد من مساحة التوافق إذ يزيل بعض أعقد أسباب التناقض, ويبقى بعضها الآخر قابلا للحلول الوسط إذ صارت تدور حول الأهداف العملية والنسبية السياسية والاقتصادية.

 

صلاح سالم