الاستيطان العربي في الغرب يوسف الشاروني

الاستيطان العربي في الغرب

طرد الصهيونيون - ومن ورائهم مؤيدوهم في الغرب - العرب والمسلمين من فلسطين بآحاد الملايين, فدخل العرب والمسلمون - من فلسطين وغير فلسطين - دول الغرب: أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وحتى أستراليا, بعشرات الملايين, حتى أصبحنا نسمع أصواتا حمقاء مذعورة من هذه اللعبة التي أعجبتهم بدايتها ولا يعجبهم ما ترتب عليها.

في كتابها الصادر حديثا (صرخة وسط الصمت), وفي حديث لها لصحيفة (فرانس سوار) بتاريخ 11 مايو 2003 أعلنت النجمة الفرنسية بريجيت باردو ثورتها على انتشار الإسلام في فرنسا, وقالت إن المحتلين المسلمين نجحوا اليوم فيما سبق أن فشلوا فيه. تشير بذلك إلى موقعة تور - بواتييه أو بلاط الشهداء عام 723م حين رد شارل مارتل الجيوش الإسلامية إلى ما وراء جبال البرانس الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا بعد أن كانت قد احتلت ساحل فرنسا الجنوبي أربعين عامًا. وكان المؤرخ الفرنسي درايبر قد عبر عمّا أوشك أن يتحقق وقتئذ قائلا: إن الهلال طرفه يمس البسفور, وطرفه الآخر, بوغاز جبل طارق, وهو على وشك أن يلتقي طرفاه ليصبح بدرًا يملأ أوربا. (فيليب فان نس ميَر, التاريخ العام للكليات والمدارس العالمية, الترجمة العربية نشرتها المطبعة الأمريكية, بيروت, ط1, د.ت.ص 222).

ذلك أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة توافدت أفواج المهاجرين من أنحاء العالم العربي وبعض الأقطار الإسلامية على أوربا والولايات المتحدة الأمريكية (خصوصا في ظل مؤشرات الطرد من بلادنا, واستمرار عوامل الجذب على الضفة الأخرى. وأسباب الطرد في بلادنا يلخصها عنوان الأزمة, وهي مقسمة بالتساوي بين الضغوط السياسية والاقتصادية, (فهمي هويدي, الأهرام, 20 فبراير 2001).

أما المذعور الثاني, فهو الكاردينال جاكومو بيفي كبير أساقفة بولونيا حين أعلن أمام نحو 300 من رجال الدين المسيحي في سبتمبر عام 2000, إن الهوية الإيطالية مهددة بسبب تزايد أعداد المهاجرين المسلمين في إيطاليا, وطالب بإيقاف تأشيرات دخول مهاجرين جدد منهم, منبها إلى أن الديانات لا تنادي جميعها بالتعايش بين الناس في إشارة واضحة إلى الدين الإسلامي طبقا لفهمه, ثم يوضح رأيه محذّرًا: إما أن تعود أوربا إلى مسيحيتها وإما ستصبح قارة مسلمة (الأهرام الدولي, 23 سبتمبر, ص9), ثم تساءل: كيف ستتصرفون أمام يوم الجمعة المقدس, وكيف ستواجهون تعدد الزوجات والتمييز بين الرجل والمرأة, ومشكلة أصولية المسلمين الذين يعتبرون الدين والسياسة شيئًا واحدًا. ثم وجّه نصيحته إلى المسئولين الإيطاليين قائلا: احسبوا حساباتكم جيدًا. وقد انضمّ إلى رأيه هذا أحد أعضاء البرلمان عن رابطة الشمال, وآخر من حزب الوسط المسيحي الديمقراطي معلنين أن ما أطلقا عليه (الغزو الإسلامي) يمثل تعديا على الهوية الدينية والثقافية الإيطالية. أما الأسقف فرانشيسكو جويا المسئول عن الهجرة في دولة الفاتيكان, فقد أعلن أن عدد المسلمين في إيطاليا وصل إلى أكثر من 1,28مليون, وأن الإحصاءات الرسمية تفيد بتزايد أعداد الإيطاليين الذين يعتنقون الإسلام سنويا. ثم طالب بضرورة العمل على تيسير اندماج الجالية الإسلامية في المجتمع الإيطالي مع عدم الخلط بين الإسلام والأصولية الإسلامية, وهو ما وصفه بأنه خطأ قاتل.

كما صرح وزير الداخلية الإيطالي بأن زعيمًا إسلاميًا مرموقًا لخص الموقف قائلا: (سنغزوكم بفضل قوانينكم الديمقراطية, وسنهيمن عليكم بقوانيننا الدينية). وأنذر وزير الداخلية الإيطالي بأن شبح غزو إسلامي صامت يلوح لأوربا, فآلاف المجاهدين الذين حاربوا في أفغانستان والبوسنة يقيمون في إيطاليا, كما أثبتت التحقيقات وجود علاقات بين الإسلاميين في إيطاليا, وشبكات الإرهاب الدولي. وانضم إلى هذا الفريق القاضي الإيطالي استيفانو دامبروزو, فأعلن أن ما أطلق عليه اسم (الإرهاب الإسلامي) ظاهرة تضرب بجذورها بشكل يتجدد باستمرار. (الأهرام, 8 أبريل, 2001).

وفي شهر نوفمبر عام 2000 قامت رابطة الشمال بقيادة امبرتو بوسي بتنظيم مظاهرة رفع فيها المتظاهرون لافتات كبيرة مكتوبا عليها (حتى لا يغطي ظل المئذنة على برج الكنيسة) معترضين على موافقة فيراري عمدة مدينة لودي الصغيرة بالشمال, وأحد أعضاء تحالف اليسار الحاكم, على المضي قُدمًا في بناء مسجد بالمدينة, وبعدها بأيام نظمت رابطة الشمال المعارضة مظاهرة أخرى - وللسبب نفسه - في مدينة ميلانو. وتأييدًا لمظاهرات الرابطة شن الصحفي جوفاني سارت فوري في مقاله الأسبوعي بصحيفة (كويري ديللا سيرا) هجومًا على هجرة المسلمين تحت عنوان (الإسلاميون ونحن الإيطاليين) لخّص فيه طلبات المجلس الإسلامي الإيطالي من الحكومة الإيطالية للتوصل إلى اتفاق أسوة بالجاليات الدينية الأخرى (اليهودية والبوذية وشهود يَهْوَه) وهذه المطالب هي:

- حق المرأة المسلمة في التصوير بالحجاب في كل المستندات الإيطالية.

- منح المسلمين إجازة مدفوعة الأجر خلال موسم الحج.

- اعتبار يوم الجمعة وعيدي (الفطر والأضحى) إجازة رسمية.

- الاعتراف بالزواج الإسلامي (تعدد الزوجات) وحق المشاركة في صلاة الظهر اليومية.

ويعلق الكاتب في النهاية قائلاً: على الإيطاليين أن يعرفوا ماذا ينتظرهم: إذا وافقوا على هذه المطالب فلا غبار عليهم, أما إذا رفضوا فلا يحق لأحد أن يتهمهم بالعنصرية.

للمهاجرين أكثر من وجه

المنطق يقول إن من يهاجر إلى دول الغرب, من المفروض أنه يهاجر إلى منطقة يحقق فيها حريته أو طموحاته العلمية أو الاقتصادية التي لا يحققها في وطنه, أي أن المهجر يحقق له ما يفتقده في بلده الأصلي, وهذا هو دافعه المفترض إلى تحمّله مشاق الهجرة والغربة. ولئن كان بعض مهاجري العرب والمسلمين يندمجون مع سكان بلد المهجر, ويذوبون فيه بنشأة الأجيال التالية فيه وزواجهم من مواطنيه وتشرب لغته وعاداته وتقاليده, وانقطاع الصلة بينهم وبين الوطن الأم لآبائهم وأجدادهم, فإن آخرين يرون أنهم هاجروا إلى بلاد الكفر, حيث يجب أن يعلنوا الحرب المقدسة, وهذا هو ما دفع وزير داخلية إيطاليا جوسبي بيزانو إلى أن يصرّح: إننا على استعداد للتحاور مع الإسلام المعتدل وهو التيار الغالب بين المسلمين في إيطاليا, لكننا سنقف ضد الإسلام المتطرف الذي يتخذ من الحرب المقدسة وإشاعة الإرهاب والفزع بين المواطنين أساسًا لوجوده, لذلك لابد من تحرير المساجد الإيطالية من دعاة العنف ومَن يبحثون عن مجندين في حربهم المقدسة (الأهرام, 3 يونيو 2003). وطالب بضرورة حماية الأهداف الإيطالية الحسّاسة التي تصل إلى 8 آلاف هدف.

ثم يشير وزير الداخلية الإيطالية إلى الشاب الإنجليزي الجنسية الباكستاني الأصل الذي فجّر نفسه في تل أبيب, فيقول إنه حَدثٌ يمثل منعطفا دراميا في تاريخ المجتمعات التي تعيش في الغرب, لأن هذا الشاب أمضى سنواته العشرين الأخيرة في ظل رغد العيش والثقافة البريطانية, ورغم ذلك فإن تكوين شخصيته في أوربا لم يحل بينه وبين اعتناقه ثقافة الاستشهاد. لهذا يقلقني المقاتلون الإسلاميون العائدون من مناطق الصراعات المسلحة والشباب القادم من شمال إفريقيا وعلى استعداد للقيام بأي شيء وكل شيء.

وتشير آخر الإحصاءات الرسمية (يونيو 2003) إلى أن عدد المسلمين في إيطاليا يصل إلى أكثر من مليون وربع مليون مسلم أغلبهم من المهاجرين العرب والإفريقيين, فالإسلام بذلك أصبح الديانة الثانية بعد الكاثوليكية في إيطاليا, وعدد أماكن العبادة 214 مسجدًا وزاوية.

وللمقاومة أكثر من أسلوب

وتحجيمًا لهذا النفوذ المتزايد للجالية الإسلامية في فرنسا, فقد أوردت الأنباء أن حكومة شيراك الحالية (السماء, 2فبراير2003) تدرس مقترحات تقضي بالسماح للدولة بتمويل إقامة المساجد لتقطع الطريق على سيطرة دول أجنبية (المقصود دول عربية معينة) على هذه المساجد, ولضمان الإشراف المباشر من الحكومة الفرنسية على نشاطها ومنع العناصر المتطرفة من استغلالها. وعلى سبيل المثال تكلف المسجد الكبير في ليونز ثلاثة ملايين دولار تولته السعودية بنسبة 90%, وبمقتضى قانون عام 1905 ممنوع على الحكومة الفرنسية بناء منشآت دينية, لكن الحكومة الحالية تسعى لإلغاء هذا القانون لتمنح المسلمين بعض الأراضي مجانًا أو بإيجار رمزي تمكينا لهم من إقامة المساجد. وقد شجع وزير الداخلية الفرنسي نيكولاس ساركوزي زعماء المسلمين على عقد سلسلة اجتماعات أفضت إلى اختيار المجلس الإسلامي الفرنسي الذي استقبل الرئيس الفرنسي جاك شيراك أعضاءه في مستهل عام 2003, معربًا عن أمله في أن يكون للمواطنين المسلمين الحقوق والواجبات نفسها مثل بقية المواطنين الفرنسيين, ويضم المجلس الإسلامي الفرنسي 16 عضوًا يمثلون جميع الاتجاهات ابتداء من ذوي الميول الغربية إلى المعادين للغرب, وفي الوقت نفسه فإن الشرطة الفرنسية تراقب معظم المساجد التي تتردد عليها العناصر المتطرفة.

وفي 24 مارس 2001 كان قد أُعلن عن تأسيس حزب سياسي للأقلية المسلمة في فرنسا هو حزب (فرنسا المتعددة) برئاسة توفيق المتلوني - من أصل تونسي - تخلله الإعلان عن تشكيل 24 لجنة. ومهمته مد الجسور بين المهاجرين والتعرف على مشاكلهم, وإبلاغها إلى الرأي العام الفرنسي, ومما يثير الالتفات أن توفيق المتلوني أعلن أنه تلقى تهديدات عدة خاصة من الجماعات الصهيونية, وأن أستاذه برنار الوزير السابق في حكومة شيراك حُذف حذفا - على حد تعبيره - من المشاركة السياسية في فرنسا فور صدور كتابه (الهجرة فرصة لفرنسا) والذي كشف فيه عن مدى تقبل المجتمع الفرنسي للمهاجرين المسيحيين واليهود, في حين لا يتقبّل المهاجرين المسلمين (القاهرة, 12 يونيو 2001).

وفي ديسمبر عام 2003 أوصت لجنة خبراء فرنسيين مفوّضة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك شخصيًا بضرورة حظر ارتداء الحجاب والقبعة اليهودية والصلبان كبيرة الحجم في المدارس, بغرض الحفاظ على الهوية العلمانية لفرنسا. وقد صدر القانون بالفعل.

وفي بريطانيا يبلغ عدد المسلمين مليوني نسمة من إجمالي عدد السكان البالغ 60 مليونًا, أقاموا 1500 مسجد, ولهم في البرلمان نائب ونائبة هما: اللورد أحمد والليدي أودين من أصل باكستاني (وهكذا عشنا وشفنا لورد اسمه أحمد). ومواكبة لهذا الواقع السكاني الجديد طوّرت الحكومة البريطانية من نُظُمها لتسمح للمسلمين بأداء الصلوات الخمس في أماكن مخصصة لذلك بمكاتب الحكومة تشجيعًا للبريطانيين من أصول عرقية للعمل في المكاتب والوزارات الحكومية.

ألوان الطيف

وفي أمريكا سبعة ملايين مسلم سواء من المهاجرين من الدول الإسلامية, لاسيما دول الشرق الأوسط, أو ممن يعتنقون الإسلام من بين الأمريكيين أنفسهم, لاسيما الأقليات التي لا تشعر بمساواتها مع الأكثرية مثل الزنوج. وفي إحصاء عام 2001 أنهم أقاموا 1209 مساجد, وبذلك أصبح لهم وجودهم على الخريطة الدينية والسياسية والاجتماعية, مما دفع رؤساء الولايات المتحدة منذ بداية الألفية الثالثة إلى توجيه كلمة للمسلمين في بداية شهر رمضان ونهايته, بل إن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت أقامت في شهر رمضان عام 2000 مأدبة إفطار دعت إليها زعماء المنظمات الإسلامية. وفي افتتاح الدورة البرلمانية للكونجرس الأمريكي عام 2000 قُرئت آيات من سورة الفاتحة بجوار آيات من الإنجيل, كما خصصت الولايات المتحدة الأمريكية من ذلك العام - ولأول مرة - عددًا من رحلات الطيران المباشرة لنقل الحجاج الأمريكيين من نيويورك إلى المملكة العربية السعودية, وأصدرت هيئة البريد الأمريكية أول طابع بريد إسلامي في شهر سبتمبر 2001 وذلك في سلسلة الطوابع التذكارية التي تصدرها احتفالاً بأعياد طوائف مختلفة, ويحمل الطابع كتابة عربية ذات صيغة إسلامية.

وفي رمضان عام 2003 دعا الرئيس الأمريكي جورج بوش زعماء المسلمين في الولايات المتحدة إلى حفل إفطار في البيت الأبيض.

كما نجح مكتب العلاقات الإسلامية الأمريكي بولاية أوهايو بالتعاون مع المنظمات الإسلامية والعربية في إقناع مجلس مدينة جاهاتا بالولاية بإنزال العلم الإسرائيلي بعد رفعه ليوم واحد بساحة الأعلام في المدينة, وذلك خلال شهر أبريل 2001 باعتبار أن هذا العَلَم يمثل رمز الظلم الذي يعانيه الفلسطينيون بسبب الاحتلال الإسرائيلي, مما يشير إلى البدايات المبكرة للضغوط السياسية للمسلمين الأمريكيين التي بدأت تتنامى بتنامي وتضاعف زيادتهم السكانية التي تعود في جانب كبير منها إلى نزوح المهاجرين واللاجئين العرب إلى الغرب, فرارًا وبحثا عن ملجأ آمن بسبب الهزيمة العسكرية للدول العربية على يد إسرائيل عام 1967 (جين إي سميث رئيسة تحرير مجلة العالم الإسلامي, وطني, أول ديسمبر 2002).

وفي مجال الشد والجذب بين التنامي الإسلامي العربي في أمريكا والسلطات, قضت إحدى المحاكم في ولاية فلوريدا بضرورة نزع المرأة المسلمة النقاب عن وجهها من أجل التقاط صورة لاستخراج رخصة قيادة سيارة موضحة أن ذلك لا يؤثر في الحريات الدينية بطريقة تخالف الدستور (الأهرام, 8 يونيو 2003).

وفي كندا كشف الإحصاء السكاني الذي نشرته الأهرام في 29 مايو 2003 عن تزايد أعداد المسلمين في كندا بشكل ملحوظ خلال السنوات العشر الأخيرة, حيث بلغت نسبة زيادتهم في تلك الفترة 129% ليصل عددهم إلى نحو 600 ألف نسمة, مما يجعل الإسلام أسرع الأديان انتشارًا, وأصبح المسلمون يشكّلون نحو 2% من مجموع عدد السكان.

وفي مقاطعة كيوبك - أكبر المقاطعات الكندية - تبدو لعبة الكراسي الموسيقية السكانية واضحة, فقد زاد عدد المسلمين بها على 141 ألف نسمة بينما انخفضت أعداد اليهود بنسبة 8% حيث بلغ عددهم 190 ألف نسمة. وعلقت الدكتورة شيما خان رئيسة مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية في كندا (كير - كان) على نتائج الإحصاء بأن العقد الأخير شهد قفزة إيجابية في مستوى نشاط المسلمين السياسي وفي الحياة العامة الكندية, وأن المستقبل سيشهد دورًا أكبر للمسلمين في كندا في الحياة العامة إذا وضعنا في الاعتبار أن المجتمع المسلم في كندا هو مجتمع شاب نصف المسلمين به تقل أعمارهم عن 28 عامًا - (الأهرام 21/29 مايو 2003).

وليس أدل على تنامي تأثير الوجود العربي في كندا من أنه أصبح يقف معرقلا التوغل الصهيوني في خلايا المجتمع الكندي. مثال ذلك ما وقع في جامعة كنكورديا, و20% من إجمالي طلبتها من العرب, فقد كان من المتعارف عليه ألا يجرؤ أحد على انتقاد السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني إلا من اعتبر نفسه شهيدًا ينتظر النفي من المجتمع والإقالة من العمل والمطاردة. لكن المظاهرات اندلعت في تلك الجامعة بحيث منعت نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل الأسبق من إلقاء محاضرة له يوم 9 سبتمبر 2002.

لوحة بانورامية لمشاهدة أخيرة

تلك لوحة بانورامية للعبة الكراسي الموسيقية السكانية بين ما يُطلَق عليها دول العالم الثالث, وما يُطلَق عليها دول الغرب, بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث احتاجت أوربا إلى أيدي دول العالم الثالث, لتشارك في إعادة ما دمرته الحرب, وعلى إثر إنشاء الدولة الإسرائيلية (1948م) التي تدفق عليها يهود العالم في فلسطين, بعد طرد أبنائها الذين هاجر آحاد الملايين منهم إلى الغرب, وبصحبتهم أفواج أخرى من عرب الشرق الأوسط, هجروا المنطقة بسبب ما نتج عن وجود الجسم الغريب في الجسد العربي من عدم استقرار سياسي واقتصادي. وأعترف أنني لم أضف إلى قطع هذه اللوحة جديدًا, بل كل ما فعلته هو تجميع قطع اللعبة المتناثرة بجوار بعضها لتقديم لوحة متكاملة. المعروف - كما تُعلمنا مدرسة الجشطلت الألمانية - أن المجموع فيه أكثر من أفراده, فالغابة ليست مجرد مجموعة أشجار مفردة, والمجتمع الإنساني ليس مجرد أفراد من البشر, وهكذا فإنني أزعم أن تجميع هذه القطع أو الوقائع التي نتابعها جميعًا عن طريق الإعلام أو المعرفة الشخصية نبه إلى أن هذه اللعبة توضح أن العرب لن يكون مصيرهم أبدًا مصير الهنود الحمر كما يتنبأ بعض المتشائمين أو يتمنى بعض الشامتين. ذلك أن الواقع الحضاري والسكاني في الألفية الثالثة بعد الميلاد, مختلف عن واقع الهنود الحمر حين غزاهم الأوربيون في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي (1492م), فهم أولاً جزء من العالم الإسلامي الذي يكوّن خلفية لهم, ومن المستحيل إبادتهم, ثم إن وسائل الانتقال والاتصال المعاصر لم يكن لها مثيل منذ خمسة قرون, فهم ليسوا معزولين محاصرين. وإذا كان الغرب قد أقام دولة إسرائيلية بالعنف, فإن العرب في المقابل - وكأحد ردود الفعل - قاموا بغزو صامت وفي عقر دار هؤلاء الذين طردوهم من ديارهم وأقلقوا استقرار المنطقة كلها. وفي ضوء التنامي السكاني الإسلامي العربي في الغرب بسبب الهجرة والخصوبة الإنجابية من ناحية, وتراجع النمو السكاني بين مواطني دول الغرب من ناحية أخرى, بالإضافة إلى الشد والجذب بين هؤلاء الوافدين ومواطني دول المهجر, يمكن التنبؤ أنهم لن يظلوا مجرد قوى عاملة من الدرجة الثانية, كما كان زنوج أمريكا - ولو أن هؤلاء وصلوا أخيرًا إلى قيادات عسكرية وسياسية وثقافية. ولن يذوبوا أو يندمجوا - على نحو ما رأينا - كما ذابت واندمجت هجرات أخرى, بل سيصبحوا بحلول الألفية الرابعة على أكثر تقدير - وعندما يشاركون في مراكز الأعصاب بالإعلام والمال - قوة ضاغطة لا تقل تأثيرًا, إن لم تزد, عن تأثير الضغط الصهيوني الحالي في القرار الغربي, مما يعني انقلابًا في مسار اللعبة, وهو أمر ليس من باب التفاؤل العربي, ولا هو مستغرَب, فمن يقرأ التاريخ والماضي يستشف احتمالات المستقبل.

 

يوسف الشاروني