عن الطعام والحب والغواية جابر عصفور

عن الطعام والحب والغواية

هناك أوجه عديدة للعلاقة بين الجنس والطعام, بعض هذه الأوجه يتخذ طابعا شعبيا لا يخلو من الطرافة, أو لا يخلو من التهويمات التي هي أوهام خالصة وحكايات نمطية تتكرر عبر الثقافات.

لا أزال أذكر الحكايات التي كنت أسمعها في طفولتي عن الخوارق الجسدية للأبطال الشعبيين, وهي خوارق مقترنة بالطعام الذي يلتهمه هؤلاء الأبطال, الذي يعجز غيرهم عن التهامه, خصوصًا من حيث كمّه المهول الذي ترجع إليه بعض أسرار القوة الخارقة التي ظل هؤلاء الأبطال يتميزون بها في التصورات الشعبية. وقد اقترنت صورة عنترة العبسي في ذهني - منذ ذلك التاريخ البعيد - بقدرته على أن يلتهم شاة بأكملها في الوجبة الواحدة, ويضيف إليها من الفواكه والشراب ما تعجز ناقة عن حمله. وكانت المبالغة في خوارق عنترة في الأكل هي الوجه الآخر - في الخيال الشعبي لطفولتي - من قدرته الجنسية التي كانت - بدورها - الوجه الآخر من فحولته الشعرية التي لم تنفصل عن تفوقه الجسدي على أقرانه من الأبطال.

ولم تكن هذه القدرة خاصة بعنترة وحده, فقد خلق الخيال الشعبي نماذج عديدة منها, ولكنها ظلت في كل مرة مقترنة بعلاقة المجاورة التي وصلت بين القدرة الفائقة على التهام الطعام والقدرة الاستثنائية في الجنس التي هي الوجه الآخر من القوة الجسدية. وبقدر ما كان الطعام هو الوقود الذي يتحول إلى طاقة استثنائية في الفحول, على مستوى الممارسة في مجالاتها المتعددة, كانت العلاقة بين الجنس (من حيث هو ممارسة جسدية لا تخلو من أبعاد روحية) والطعام علاقة أقرب إلى معنى السببية الذي يجعل من الطعام سببا, ومن الجنس نتيجة تلازمها نتائج موازية, تتأكد بها دلالات الفحولة في مجالاتها المتباينة, ولا مانع بالطبع من أن ينقلب وضع طرفي علاقة السببية, فيحلّ كل منهما محلّ غيره, مفضيا إلى قرينه الذي لا ينفصل عنه بأكثر من معنى.

المعدة طريق الغواية

ويبدو أن هذا التلازم هو الأصل الذي جعل غواية النساء للرجال - في الموروث الشعبي المكتوب, أو الذي لايزال يتداول شفاهيا - قرينة أنواع الطعام التي تتيحها المرأة لمن تهواه, أو تعمل على غوايته بمباهج الطعام التي تفضي إلى مباهج أخرى. وتقترن هذه المباهج الأخرى اقترانا شرطيا بأنواع الطعام, خصوصا الأنواع التي تهيج الطاقات النائمة وتوقظها, أو تقضي على الخمول, أو تؤجج النيران في العروق, فتتخلق الفحولة التي تغدو حالا متغيرًا بتغير مصادر الطاقة التي هي أنواع الطعام المعروفة بتأثيرها في تحريك الشهوة, ومنذ عهد غير قريب, ونحن نسمع ونقرأ أن أسرع طريق إلى قلب الرجل هو معدته. وهو قول لا معنى له - في هذا السياق - سوى الإشارة الدلالية المراوغة التي تجمع بين الطعام والجنس في علاقة السبب والنتيجة. وحتى لو استبدلنا بكلمة الجنس كلمة الحب, أو المحبة, فمعنى الاستمالة يظل قائما في مدى علاقة الرجل بالمرأة التي تضيف إليها دلالات الطعام مغزى لا سبيل إلى إنكاره. ولذلك امتلأت حكايات (ألف ليلة وليلة) بمشاهد الطعام التي تجمع ما بين الحبيبين, أو مآدب الطعام التي تعدّها حبيبات مشتاقات, أو طامعات في وصال الرجال الذين أصبحوا مناط الرغبة لأسباب عديدة.

وليس من الغريب - والأمر كذلك - أن تجمع كلمة الفحولة في دلالاتها أنواعا لافتة من الاقترانات, فالفحولة الشعرية ترجع - في أصل اشتقاقها اللغوي - إلى فحل الإبل الذي يتميز على غيره في القوة التي تفرض هيمنته السلطوية على الأدنى منه في القوة بين الذكور, كما تفرض هيمنته الذكورية على الإناث اللائي يقعن في مداره, وينجذبن إليه بسبب فحولته.

وقد استعارت اللغة العربية من صفات الذكورة الفائقة معاني الفحولة التي اقترنت في رمزيتها بالإشارة إلى تجليات الفعل الجنسي الذي يبدأ من الفرد, ويمتد ليشمل الطبيعة والكائنات, مؤكدا علاقات التوالد التي يتكثر بها الوجود, والتي تنطوي على تجسيد الازدهار, وذلك بالفحولة التي تخص بها اللغة المتفوقين في فاعلية التولّد التي تجمع أصناف الذكر الحيواني أو النباتي. وهي الأصناف التي يتميز أفرادها على غيرهم تميز الفحل على الحِقاق. ومنذ القديم, يشير تراثنا اللغوي إلى (فحولة الشعراء) الذين يتميزون على غيرهم إبداعيا, لكن بالمعنى الذي يصل الإبداع بالجنس كما يحدث في الدلالة المضمرة التي تؤكدها حكاية علقمة الفحل في العصر الجاهلي. وهي الحكاية التي قرنت فحولته بالتفوق على امرئ القيس شعريا, ومن ثم جنسيا, وذلك على النحو الذي جذب إليه زوجة امرئ القيس التي هجرت زوجها بسببه, الأمر الذي أضاف إلى لقبه صفة (الفحل).

ومن الطبيعي أن ترتبط معاني الفحولة بالتميّز الإبداعي والتميز الجنسي, وذلك بالقدر الذي تقترن به القصيدة بوجه خاص والعملية الإبداعية بوجه عام بالأنوثة التي تغدو مناط الرغبة من ناحية, وفاعلا للرغبة من ناحية مقابلة, لكن من المنظور الذي يصل هذه الفاعلية بلازم من أهم لوازمها, وهو الطعام الذي يقترن في دلالات المراودة بمعنى الطعم الذي يجتذب الفحل إلى أنثاه المستعدة بكل ما لذّ وطاب من طعام وشراب وطيب. وهي الثلاثية التي لا تخلو من تبادل في المواضع, فكل منها يحل محل غيره في دلالة الاجتذاب, فالشراب مغرٍ كالطعام من المنظور نفسه, والطيب يضفي على الطعام والشراب سحره, ويتكامل معهما في مدى المراودة التي يزيدها الطيب حضورا.

صفات ذكورية

ولاتزال كلمة (الفحولة) في سياقاتها الدلالية في لغتنا العربية - المقابل الموازي للكلمة الأجنبية Machismo رغم اختلاف اللوازم الدلالية المحيطة بكل كلمة على حدة في سياقاتها الثقافية الخاصة. وبوجه عام فإن كلمة الماتشزمو (Machismo) تشير إلى نمط سلوكي في ثقافة أمريكا اللاتينية. وفي إطار دلالات هذا النمط, تقترن الفحولة بأعراف الرجولة, التي تؤكد كبرياء الذكر وقدراته الاقتحامية في العلاقات الاجتماعية والسياسية.

والملامح الأساسية للماتشزمو هي التقحم والاقتحام والإصرار والعجرفة في العلاقة بين الرجل والرجل, ويوازيها العُجْب والخيلاء والجرأة في العلاقة بين الرجل والمرأة. والماتشو (Macho) هو الرجل الذي يزهو بقوته وشجاعته وثقته بنفسه وجرأته وقوته الجسدية أو الجنسية. ويمكن تتبع تجليات الماتشو وأصول النزعة الماتشوزمية في ثقافات أمريكا اللاتينية, حيث يبرز الكبرياء الإسباني إحساسا متميزا بالشرف والكرامة, ويبرز الموازي الهندي - لاتيني النظرة القدرية إلى الحياة والتعبير الذاتي الانفعالي. وقد استعارت صورة الرجل الماتشو (الفحل) في الأدب الغربي بعض ملامحها من الأدوار التي قامت بها شخصية دون جوان, حيث تقترن صفات البطل الغازي المغامر والبطل الثوري بصفات التوحّد التي تعزل هذا البطل عن غيره وتميزه في الوقت نفسه.

ولا أريد أن أتطرق إلى تفاصيل البطل الماتشو في ثقافة أمريكا اللاتينية, فهي تفاصيل لا تنفصل عن السياقات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تضفي على الماتشو ملامح غير موجودة في تراثنا الثقافي, ولكن يبقى التميز الجسدي الذي هو قرين التميز الجنسي.

وكلاهما القاسم المشترك الذي يجعل من (الماتشو) موازيا يقابل (الفحل) في تراثنا, خصوصا من المنظور الذي يصل بين القدرات الاستثنائية في القوة الجسدية والجنسية وألوان الطعام الذي يغدو بمنزلة الوقود الحيوي لهذه القدرات. ولذلك تبدو العلاقة وثيقة بين تركيز ثقافات أمريكا اللاتينية على الطعام من حيث صلته بالجنس, وما يوازي هذا التركيز في الثقافة العربية, ابتداء من العصر الجاهلي.

معنى الحياة

ويذكر قراء الشعر العربي أبيات طرفة بن العبد الشهيرة التي جعلها الدارسون مبادئ الشخصية الوجودية البارزة في العصر الجاهلي, خصوصا في شعر طرفة الذي أكّد لنا أنه لولا ثلاثة أشياء ما كان للحياة نفسها معنى أو قيمة. وهي الأشياء التي يصفها بقوله:

ولولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى وجَدِّك لم أحفل متي قام عُودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرّي إذا نادى المضاف مجنّبا كسيد الغضا نبهته المتورّد
وتقصير يوم الدجن والدجن مُعجب ببهكنة تحت الخباء المعمّد


والأبيات التي أكتبها من الذاكرة واضحة الدلالة في تأكيدها القوة الجسدية التي يتجلى عنفوانها في نجدة المستغيث, الملهوف, وذلك في علاقة الفارس بكل من يستجير به, حيث يتاح للفارس إعلان فروسيته التي هي كشف عن قدراته الجسدية الاستثنائية وقدرات حصانه في الوقت نفسه. وإلى جانب هذا التأكيد, ولا ينفصل عنه, هناك الشراب الذي يسبق لوم العاذل, والذي يزبد كلما أضيف إليه الماء, فيختلط اللون البني الغامق بلون الزبد الذي يعلوه, والشراب دال يبرز على مستوى حضوره لوازمه الغائبة التي لا تنفصل عنه, فلا شراب دون طعام, حتى لو كان من قبيل النقل. ولا ينفصل تجاوب الحضور (الشراب) والغياب (الأكل) عن اللازمة التي لا تغيب في الأبيات, بل تحضر كالزاوية المهة التي يكتمل بها مثلث مبدأ الرغبة, أعني المرأة السمينة التي تدل صفاتها على ما تأكله, وعلى رفاهيتها في الوقت نفسه, فهي امرأة تأكل ما يجعلها شهية للأكل, وما يجعل منها - على مستوى تبادل علاقات الحضور والغياب والدوال الرمزية - بديلا عن الأكل وموازيا له في الوقت نفسه, خصوصا من منظور مراوغة الاستعارات التي تجعل من سمنة المرأة كناية عن الأكل, ومن سمنتها حافزا على الالتهام, ومن اقترانها بالشراب ما يبعث على الحبور الذي تختفي به عتمة الدجن, وهي كلمة تقترن بمعنى اليوم الغائم الممطر, ومعنى السواد, الحُمّى التي ترتفع فيها درجة الحرارة. وإذا كانت دلالة الغيوم الممطرة تقترن بمعاني خصوبة الأرض التي تظل في شوق إلى المطر لتجود بزرعها, في المدى الذي يظل يؤكد انسراب الجنس في دلالات المطر الهابط على الأرض, أو المخترق الأرض,فإذا السواد قرين لون الليل من ناحية وخصوبة الأرض التي تجود بثمرها الغزير من ناحية مقابلة. وكلتا الدلالتين لا تنفصلان عن معنى الخصوبة الذي لا يخلو من إشارة إلى الحرارة التي تصل إلى أقصاها في حضور الحُمّى.

ولا أريد أن أسرف كثيرا في قراءة المعاني المضمرة في أبيات طرفة بن العبد, فهي أبيات حمَّالة لدلالات تستحق قراءة خاصة, جديدة, في سياق معلقتها, الأهم - في هذا السياق - هو تأكيد التلازم بين لوازم الطعام (الشراب) والجنس في الأبيات, وذلك من المنظور الذي يردّ دال الأول (الشراب) على الثاني (البهكنة) في تجاوب الدلالة التي تجعل من الجنس نوعا من الالتهام, ومن الأكل نوعا من اللذة التي تكتمل بغيرها من اللذات التي تحققها الفحولة في حضورها الوجودي الطاغي. ولولا هذا الحضور الوجودي ما تحدَّث طرفة في المعلقة عن الموت الذي يحيط بنا كما يحيط الحبل بعنق الناقة, والذي ينفي أي فارق زائف بيننا على أساس من الثروة أو العرق. فقبر البخيل بماله كقبر الفقير أو قبر الذي مضى في بطالة غوايته. وإذا لم يكن الإنسان قادرا على دفع الموت, أو التحكم في مصيره المقدور, فلتكن الحياة التي يحياها جماعا من المتع التي تحقق حضوره الإنساني في الوجود وبالوجود. وما الشراب (في علاقته بالطعام) والمرأة والفروسية سوى مجالات ثلاثة تتحقق بها - لدى الشاعر طرفة - درجة متميزة من إنسانية الإنسان, ويكتمل بها حضوره الإبداعي الذي هو احتجاج على الموت, ومقاومة للعدم بنقيضه الوجودي الذي يستدعي الترابطات الدلالية لمعنى الفحولة.

الموت والمتعة

هل نقول إن الربط بين الطعام والجنس - من هذا المنظور - هو نوع من النزوع الأبيقوري الذي يدفع الموت بالمتعة في الحياة? إن الأمر ممكن, وإمكاناته تؤدي إلى تداعي أنواع التضاد التي يواجه بها (الإيروس) - في الدلالة على الجنس المقترن بالحياة, أو توالد الحياة, في الحضارة الغربية - (الثاناتوس) في الدلالة على الموت في الحضارة نفسها. وقد كان اليونانيون يدلون بكلمة (إيروس) على الحب وإله الحب, فهو الأصل الذي تحوّل إلى آمور أو كيوبيد عند الرومان. وقد أظهرته تجلياته المتأخرة فتى مليحا معصوب العينين. يحمل نوعين من السهام, الأول من الذهب, ويجلب المحبة, والثاني من الرصاص, ويجلب نقيض المحبة, وقد ظل إيروس على تتابع تجلياته وتعدد مسمياته الرمز الأول الدال على الحب في كل أحواله. كما أنه ظل, من ناحية مقابلة, وبما انطوى عليه من دلالات بهيجة, قرين فرحة الحياة في عرامتها وازدهار طزاجتها ونضرتها, ومن ثم نقيض الموت الذي هو العدم. ولذلك استخدم سيجموند فرويد دلالة الإيروس ليؤدي بها معنى رغبات الحياة مقابل رغبات الموت: (الثاناتوس), وهو المعنى الذي يقترن بتكثيف الحياة من خلال تجميع المادة الحية المفتّتة إلى جزئيات في وحدات أكثر امتدادا ودواما. وذلك هو التعبير الحيوي عن رغبة الوجود التي صاغها الشعراء والفلاسفة في إبداعاتهم التي قاوموا بها العدم.

الحضور الإنساني

مؤكد أن معنى النّهم السطحي الفج الذي لا يمايز بين الإنسان والحيوان موجود من بعض تجليات العلاقة بين الجنس والطعام, في تراثنا العربي, وفي غير تراثنا العربي, خصوصا حين يتحول فعل الالتهام في كل منهما إلى فعل, غريزي خالص, لا علاقة له بالمعاني الكبرى لحضور الإنسان في الوجود, حتى في مدى المتعة بالدلالة الأبيقورية, نسبة إلى الفيلسوف أبيقور الذي أعلى من شأن الحواس في نظرية المعرفة, وقرن الحضور الإنساني بمذهب اللذة, خصوصا حين جعل المتعة هي الغاية النهائية لوجودنا ذاته, والأصل الذي تقاس به فضائل الحضور الإنساني, ويتجلى معنى النهم السطحي الفج الذي أشير إليه في بعض حكايات (ألف ليلة وليلة) أو غيرها من مجموعات الحكايات الشعبية, حيث يتحول الطعام إلى مجرد مثير لفحولة بعض الفقراء من الحمّالين أو العبيد لإشباع غرائز ثريات يبحثن عن إشباع رخيص, أو يتحول الطعام إلى مصدر لطاقة أثرياء يفرغون رغبتهم في إماء طائعات خانعات.

ولكن ليست الحكايات الشعبية كلها من هذا القبيل الفج, فكثير من مشاهد (ألف ليلة وليلة) تؤدي فيها دلالات الاقتران بين الطعام والجنس معاني الحب الذي يعلو على معنى الغريزة البهيمي, ويدخل بنا في أفق روض ماطر من حضور الرغبة, ويبدو أن النفزاوي قصد إلى معنى من معاني هذا الأفق عندما صاغ كتابه الشهير (الروض العاطر). وهو لم يكن في ذلك وحده, فكتاب (رجوع الشيخ إلى صباه) الشهير هو كتاب في علاج أشكال العقم الجنسي التي تنغّص على الإنسان اكتمال حضوره الحيوي, ولذلك يمتلئ الكتاب بأوصاف المأكولات التي تتحول إلى أدوية للعلاج, حسب طبائع الأجساد التي تتجاوب عناصرها مع ألوان الطعوم التي تثير فيها الحركة, ولا يكتفي (رجوع الشيخ) بالوصفات المأخوذة من مزروعات وعطارة عصره فحسب, بل يضيف إليها وصفات معنوية توازي الوصفات الحسيّة, وتشتمل الأخيرة على حكايات تثير الرغبة وتبعثها على الحركة, وذلك في المدى الذي يتجاوب فيه الحسّي والمعنوي ليحقق بعض معاني الحضور الحيوي للإنسان.

إختفاء العاطفة

وليست كل كتب الجنس التي عرفها المسلمون من النوع الطبي الذي يقترن بعلاج العقم الجنسي كما في حال (رجوع الشيخ إلى صباه), أعني أن هناك عددًا كبيرًا من الكتب المؤلفة خصيصًا للإلهاء الجنسي, وهي كتب تنطوي على استهانة مضمرة بالجنس, وإنزال له إلى الدرك الأدنى الذي لا يتمايز فيه الإنسان عن البهيمة. ولذلك تختفي الأبعاد العاطفية المقترنة بالحب من هذه الكتب, ويتم التركيز على الفحولة بمعناها الحيواني الذي يجعل من الطعام نفسه قوتا للرغبة الحيوانية التي تبحث عن الإشباع بكل سبيل وعندئذ, تتحول العلاقة بين الطعام والجنس إلى آلية إلهاء وتسلية لا تخلو من إيحاءات طبقية, وفي تقديري أن هذا النوع من الكتب كان يؤلف خصيصا للفئات الإجتماعية التي عرفتها المدن العربية, والتي امتلكت من الثراء ما أتاح لها من صنوف اللهو الكثير, وما جعلها باحثة عن كتابات تشبع رغباتها الحسية التي جمعت ما بين نهم الطعام ونهم الجنس على السواء, وبقدر ما احتاجت هذه الطوائف إلى معارف جنسية عدة, في مدى النهم الذي يقترن بالفراغ والثروة, احتاجت بالقدر نفسه إلى وصفات الطعام التي تثير العروق الخامدة, وتحرّك الشهوات التي هيمنت على العقول والأفئدة.

وأتصور أن هذا النوع من الكتب أو الكتابات لم ينحدر بمفاهيم الجنس إلى الدرك الأسفل من المهانة فحسب, بل أضاف إلى ذلك احتقارا مضمرًا للمرأة, فالمرأة في حكايات هذه الكتب أو الكتابات هي وعاء لتفريغ الشهوة, ولا قيمة لها أو عقل إلا في كونها هذا الوعاء.

ولذلك فالإسراف في وصف تفاصيلها الحسية أمر طبيعي, مقترن بزخرفة الوعاء الذي تفرغ فيه الشهوات, ولا غرابة في أن تكون الصور الملازمة للمرأة في هذا النوع من الكتب أو الكتابات صورًا شائهة في الأغلب الأعم.

واللافت للانتباه, حقا, أن الكثيرين من القرّاء لايزالون يُقبلون على هذه الكتب والكتابات التي لاتزال ممنوعة رقابيا في الأغلب الأعم, في الأقطار العربية, فكل ممنوع مرغوب, وطباعة هذه الكتب وتوزيعها مصدر ثراء لبعض الناشرين الذين تخصّصوا في نشر هذا النوع من الكتب. وبقدر ما يكشف مدى انتشار هذه الكتب والكتابات عن مشكلات كبت جنسي منتشرة على امتداد الأقطار العربية, وعن نظرة شائهة إلى الجنس لاتزال قائمة, فإنها تستجيب إلى ما تنطوي عليه الثقافات التقليدية من نظرة دونية إلى المرأة بوجه عام, وإلى الجنس بوجه خاص.

الانتصار للمرأة

ولحسن الحظ, لم تكن هذه الكتب والكتابات هي النوع الوحيد في تراثنا العربي, خصوصا في مدى التمييز ضد المرأة وإشباع النظرة المستهينة بها والمهينة لها. فقد وجدت في مواجهتها كتابات مناقضة, أخذت على عاتقها الانتصار للمرأة, وتقديم نموذج مخالف, نموذج يعمر بالفضائل, ويغتني بالمعرفة, ولا يرى في الحب جنسا خالصا, بل محبة يتكامل فيها الحسّي والمعنوي, الجسدي والروحي, وإذا كانت حكايات (ألف ليلة وليلة) قد تولّدت بسبب الثورة التي انتابت شهريار عندما اكتشف خيانة امرأته التي أكّدتها خيانة امرأة أخيه, فانتهى إلى الحكم بأن المرأة عموما ميّالة بطبعها إلى الخيانة. وأنها أصل الإثم والشر, فقرر الانتقام من عموم الجنس, وظل يتزوج كل ليلة امرأة ليفرغ فيها شهوته الحيوانية المقترنة بفحولته التي تستدعي لوازمها. وظل كذلك إلى أن ضجّت المدينة من أفعال شهريار المنتقم الذي أصبح سيفه مصلتا على رقاب كل البنات.

وقد تولّدت شهرزاد في حكايات (ألف ليلة وليلة) لتواجه الاندفاع الحيواني في شهريار, وتنقذ رقاب بنات مدينتها من سيف الجلاد الذي ظل مشرّعا ينتظر المزيد. وتصوغ الليالي من شهرزاد النموذج المضاد القادر بالمعرفة والحكمة على ترويض حيوانية شهريار المندفع في فعل انتقامه الأعمى, وفعل نهمه الحيواني لإشباع الغريزة التي استبدلت بالإيروس الثاناتوس. ولذلك تصف (ألف ليلة وليلة) شهرزاد بأنها قرأت ودرست واطّلعت على علوم العرب والعجم, وأتقنت معارف الأوّلين والآخرين, وهي صفات تنقلها من باب وعاء تفريغ الشهوة إلى وعاء الحكمة الذي تفيض معرفته على من حوله, فيسهم في تغييرهم ونقلهم من حال إلى حال. وهذا ما حدث, فبواسطة الحكايات التي كانت تمثيلات لقيم ومبادئ عالية, استطاعت شهرزاد ترويض الجانب الحيواني من شهريار, ساعية إلى تغليب الجانب الإنساني في حضوره, فاستبدلت فيه بالحيوان الفحل, الذي لا عقل له, الإنسان المتأصّل في مغزى الحكايات المتكررة, والمتنوعة, والمراوغة, والتعليمية في الوقت نفسه. وليلة بعد أخرى, تتسرب الدلالات إلى صورته الإنسية, ويتحول الفحل الحيواني إلى عقل يستبدل بنهم الغريزة الصرف, نهم المعرفة التي تكمل المعنوي بالحسي, وتمزج الجسدي بالروحي, فيرتقي الوعي, ويبتعد الموت المشرع في سيف السياف, ويقهر الحب - في الحكايات - الموت الذي جاءت به الخيانة.

 

جابر عصفور