صديقان وفتاة ميتة... (قصة) محمد الشاذلي

صديقان وفتاة ميتة... (قصة)

عندما جلسنا في مقهى (الحرافيش) كانت بيننا فتاة طيبة ميتة...كانت (سهير) القادمة من مدينة المحلة الكبرى لتدرس الإعلام في القاهرة مبهورة بكل شيء, حتى أسفلت طرق العاصمة التي نلعنها بالنهار, ونمدح ليلها لأننا ببساطة نحسّ أننا نملكها, وأن هذا الليل كثيرًا ما وفّر لنا متعا لا حدود لها. كنت أنا وهو نفعل كل شيء أو لا نتورع عن فعل شيء, وأعجب كلانا بالقادمة البكر المتعطّشة للحياة, والتي تملك جمالاً مميزًا ممزوجًا بدهشة حيرتنا نحن الذين لم نعد نندهش, كانت اكتشافًا مشتركًا, ولكن الفرق الوحيد أنه تعرّف بها قبلي بوقت كاف لأن تتبعه على قناعة تامة, وعندما حان الوقت لأتعرّف عليها نصحها بالابتعاد عني كلية, وأفاض في تشويه صورتي, ليس عن كراهية, وإنما اتقاءً لخطر محتمل, وكان علي أن أنتظر ثلاث سنوات لكي تقترب مني (سهير) في مصادفة نادرة في مركز الأبحاث الذي أعمل به, منفتحة تجاهي بالقدر الذي يفيد بأنها تركته إلى الأبد, ولم تعد تنظر إلى الآخرين عبر نافذته, وشرحت لي فخ الخداع الذي تلقفها تلك السنوات. لم تلعن حظها وإنما بدت أكثر قناعة بأنها صادفت ما هو مقدّر لها, ووجدت نفسي أمام فتاة خبيرة بمعنى أنها بدأت تعرف, ولكن لم تفارقها الطيبة ولم تتراجع دهشتها, واندفاعاتها تغيرت, لم تعد تضع نظارة طبية سميكة, وقالت لي إنها أجرت جراحة قشط ليزر لعلاج قصر نظرها الفادح, وأنها قد تعود للنظارة, وقالت لي إنها تشعر في بعض الأوقات وكأن حبات رمل تحت جفونها, خصوصا عند الاستيقاظ, لم تعد ضفائرها كذلك متدلية في عذوبة على صدرها النافر, جلسنا أنا وهو ندخن الشيشة, كنا متقابلين وألمح من ورائه على الجدار لوحة نحاسية لنجيب محفوظ, وتحدّثنا عن كل شيء إلا عنها, كانت (سهير) بيننا تلح على الذاكرة المشتركة, إذ بدأ يحوم حول الاستقرار العائلي لكلينا والذي أخذنا من السهر والمغامرة. لم أتجاوب لأني كنت غارقًا في هذه الذكريات على صدى فرقة صغيرة تغني لصباح فخري, فكنا ما بين الأغاني ننصت مجبرين, ونهز الرءوس لنستجمع تفاصيل تعيننا, كنت أود معرفة المدى الذي وصل إليه في نقد الذات, إذا ما تحدثت معه عن إجهاض (سهير) لحملها منه, والذي شجعتها عليه زميلة في بيت المغتربات, ولكنني لاحظت نفسي أكثر تسامحًا من أي وقت, لقد كنت أجرأ معها إذ سألتها مباشرة عمّا سمعته من كثيرين, وردت بأن أحدا لم يواجهها بالمسألة, وهي تعرف أن الأمر ليس سرّا, ولكن غابت أشياء في حكيها تركتها تمر وكنت كأني على نهر واثقًا من إتياني له في أي وقت, وهو ما لم يحدث, لأنها أصبحت أكثر ارتباطًا بآخرين, فقط أسمع عن أنها شوهدت في أماكن, وتعمل في أماكن, ثم ماتت في حادث سيارة أجرة إذ اصطحبت شابا يعمل محاسبا في بنك تشبث بخطبتها من أهلها, واصطدمت السيارة بسيارة نقل في طريق مصر إسكندرية الزراعي, ولم أعرف سببا لحزني البالغ, كنت لو أتيت على ذكرها سأسأله عن تلقيه لخبر مصرعها, وعن الشاب المحاسب الذي مات معها أو بعدها بأيام متأثرا بجراحه, أما هي فكانت متدفقة بالكلام, هذا استمر, ولا تكذب ولا تصد أحدا عنها, والذي تغير هو اعتدال لسانها من دون لكنة, كأنها أصبحت قاهرية المولد والنشأة, وكانت في سنوات ابتعادها الثلاث, ثم عندما أصبحنا نلتقي كثيرا, ولكن من دون نظام, نستكمل أحاديث وقصصا, فهناك دائما قناة سرية للمعلومات والأقاويل المتناثرة عنها تصب عندي, وتشعرني بالأسف لمسار حياتها المتعب, كما عرفت باستمرار ما يمر بي, لم يكن فهمي لمتعة الحياة في أي وقت مرتبطا بالفجيعة والخسارة, ويبدو أنها تواصلت مع ذلك بشكل ما, ومتى قلت لها كنت أود صداقتها ردت بأنها - الآن - تمنت لو حدث ذلك. كثيرا ما يرتفع صوت الغناء بشكل مزعج ليفرض الصمت التام ويعيدني إلى ما رُوي لي عن أن الناس عطّلوا الطريق لإخراج المصابين من سيارة الأجرة المكتظة, وأن (سهير) كانت على قيد الحياة, ولكنها كانت تنزف بغزارة, وأنها مدت يدها إلى حقيبتها الصغيرة وأخرجت هاتفها المحمول وأعطته لأحدهم وأملت عليه رقم أمها, وأنها نظرت إلى الدم المنبثق من رأسها قبل أن تميل على جانبها الأيمن, أنظر إليه في (الحرافيش) الآن لا باعتباره مسئولا عن موتها رغم أن ذاكرتي لم تسعفني إلا به عندما علمت بالحادث, فذلك أصبح بعيدًا جدًا, ولكن لأن بي رغبة في الحديث عنها معه ولو لمرة واحدة, ولكن عندما هممنا بالانصراف لم يكن لهذه الرغبة وجود, فما أعرفه عنها يظل كافيا, أما رأيي فيما فعله إذا أطل فقد يكون كافيا بدوره ليمنع لقاءاتنا المتباعدة وربما دار في ذهنه الأمر نفسه, فلقد اكتشفت أن لا شيء يمكنه الحفاظ على ما بيننا أكثر من التفاصيل المبهمة لحياتها وموتها.

 

محمد الشاذلي