المجتمع المدني: القوة العالمية الثالثة أحمد أبوزيد

المجتمع المدني: القوة العالمية الثالثة

مع تزايد مكتسبات المجتمع المدني, تثار أسئلة حول أحقية البعض في الحديث باسمه, والمستقبل الذي ينتظره.

اكتسب المجتمع المدني في السنوات الأخيرة أهمية كبرى في مجال السياسات الدولية وبخاصة بعد الأحداث العنيفة والتظاهرات الصاخبة التي صاحبت انعقاد بعض المؤتمرات الدولية حول الأوضاع الاقتصادية في العالم كما حدث في سياتل وغيرها من المدن. ومع أنه لا يكاد يوجد شك حول الدور المهم الذي يضطلع به المجتمع المدني في الدول المتقدمة أو الدور الذي يمكن أن يقوم به في التعريف بأصول ومبادئ الديمقراطية التي يجب أن تسود مجتمعات العالم الثالث, فإن ثمة بعض التساؤلات إن لم يكن الشكوك حول مدى أحقية كثير من المؤسسات المدنية في الادعاء بأنها تتكلم باسم المجتمع المدني, وتزعم أنها تمثل شرائح أو فئات معينة من الناس, وتعطي نفسها الحق في الدفاع عن مصالحهم والمطالبة بحقوقهم, إلا أن هذه التساؤلات والشكوك لا تمنع من أن المجتمع المدني يحقق وبصفة مطردة مكاسب متزايدة في مجال توجيه السياسات العالمية, وأن آراء ومواقف مؤسساته تؤخذ في الاعتبار بشكل صريح أو مستتر أثناء مناقشة القوانين والتشريعات والاتفاقات الدولية, وذلك على الرغم من أن المجتمع الدولي ليس في ظاهره على الأقل سوى مجرد شبكة من العلاقات والروابط والارتباطات غير الرسمية التي أفلحت في أن تؤلف كيانا مستقلا ومتمايزا عن النظم الحكومية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى المهيمنة على سياسات واقتصاديات العالم.

المجتمع المدني والديمقراطية

ويبدو أن فكرة المجتمع المدني كما تكلم عنها ألكسيس دو توكفيل منذ قرنين في عمله الشهير (الديمقراطية في أمريكا) أصابها بمرور الزمن شئ من التراجع نتيجة لتغير الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم. وكان دو توكفيل يعتبر المجتمع المدني الذي يقوم على مشاركة المواطنين بطريقة فعالة في تكوين جماعات طوعية تهدف إلى تحقيق الصالح العام هو العلامة المميزة والبارزة في التجربة الأمريكية. ولكن لم يلبث الاهتمام بإحياء الفكرة والمفهوم أن عاد بعد الحرب العالمية الثانية, وبلغ ذلك الاهتمام ذروته ابتداء من التسعينيات نتيجة لازدياد الاتجاه نحو الديمقراطية وتمرد الشعوب على الحكومات الديكتاتورية ونظم الحكم الشمولي بكل ما ينطوي عليه من طغيان وفساد. بل إن فقدان الثقة في بعض الحكومات الديمقراطية, والشعور بالإحباط العام إزاء الأحزاب في العالم الغربي بما في ذلك أمريكا ذاتها, والتمرد على ابتزاز الشركات الكبرى وأصحاب رءوس الأموال الضخمة لاستغلالها الطبقات والشعوب الفقيرة, أسهمت هي أيضا في إثارة الاهتمام من جديد بالمجتمع المدني ومؤسساته كأداة للتجديد الاجتماعي. وساعد على انتشار هذا الشعور في كل أنحاء العالم الثورة المعلوماتية التي أتاحت الفرصة لتوافق وتقارب الآراء وأضفت بالتالي على المواطنين والأهالي في كل أنحاء العالم قوة وفاعلية لم يكونوا يتمتعون بهما من قبل حتى في المجتمعات المتقدمة. فالمجتمع المدني على هذا الأساس هو تصور أو مفهوم أكبر وأوسع وأعمق من الدولة, ويرتكز على أسس أخلاقية وإنسانية أسبق في وجودها على قيام الدولة كتنظيم سياسي.

ولقد حققت مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة في المنظمات الأهلية غير الحكومية كثيرا من النتائج الباهرة في عدد من المجالات الحيوية التي لها صلة مباشرة بحياة الإنسان, مثل مشكلات البيئة وحقوق الإنسان وبخاصة فيما يتعلق بالتمييز العرقي وحقوق الأقليات ووضع المرأة وحماية المستهلك والتصدي للفساد وغيرها. ولكن هذا لا يعني أن المجتمع المدني مرادف للجمعيات الأهلية أو اللاحكومية العاملة في هذه المجالات وحدها, فالمفهوم أوسع من هذا بكثير ويشمل - كما يرى الكثيرون - كل التنظيمات والمؤسسات المستقلة عن الدولة بما في ذلك الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات العمالية والمهنية بل والنوادي الرياضية والاجتماعية واتحادات الطلاب والمؤسسات الثقافية والأكاديمية والتنظيمات الدينية والحركات الاجتماعية, مما يدل على مدى اتساع وتنوع الأنشطة والخدمات التي يقوم بها المجتمع المدني والدور الذي يؤديه للارتقاء بأعضاء المجتمع والجنس البشري بوجه عام, وذلك فضلا عن دوره في ممارسة الضغوط على الدولة للاهتمام بتلك الأمور إلى جانب المطالبة باسم الشعوب بالمشاركة في اتخاذ القرار وتنفيذه تحقيقا لمبادئ الديمقراطية وأصول الحكم الديمقراطي. فأنشطة المجتمع المدني أنشطة طوعية تختلف من هذه الناحية اختلافا جوهريا عن أنشطة الحكومات, كما أنها تختلف عن الأنشطة الاقتصادية والمالية المتعلقة بأخلاقيات السوق لأنها تبحث وراء الخير والصالح العام وليس وراء الربح المادي, ولذا فكثيرا ما يشار إلى المجتمع المدني بأنه (القطاع الثالث) (Third Sector).

ومع أن النظام الديمقراطي يساعد أو على الأقل قد يشجع مؤسسات المجتمع المدني على أداء رسالتها على الوجه الأكمل فليس من الضروري أن يؤدي وجود الديمقراطية في أي دولة إلى قيام مجتمع مدني قوي في تلك الدولة. فلقد عرفت الديمقراطية طريقها إلى اليابان منذ أكثر من نصف قرن ومع ذلك فإن إنجازات المجتمع المدني فيها تعتبر (ضعيفة) في بعض المجالات التي يعطيها المجتمع الغربي كثيرا من اهتمامه ويأخذها في مقدمة أولوياته مثل مشكلة البيئة ووضع المرأة. بل وكثيرا ما تكون المشاركة الشعبية الطوعية في بعض الدول الليبرالية المتقدمة مثل فرنسا أقل من المتوقع بكثير, إذ تتضاءل فيها إسهامات المجتمع المدني بالمقارنة بما تقدمه أجهزة الدولة من خدمات للأهالي في مختلف جوانب الحياة وتأخذ في عين الاعتبار كثيرا من احتياجات الفرد العادي وتعمل على الاستجابة لمتطلباته, وهو وضع يختلف عن الحال في الولايات المتحدة حيث تضطلع المؤسسات الشعبية واللاحكومية بكثير من المسئوليات في مجال الخدمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يفترض أن تقوم بها الأجهزة الرسمية. كذلك ليس من الضروري أن يكون استقلال المجتمع المدني ومؤسساته عن الدولة وأجهزتها ومعارضته لسياسة الدولة في بعض المواقف دليلا على ضعف الدولة أو مؤشرا على رغبة المجتمع المدني القضاء على هيبتها وبخاصة أمام المحافل الدولية كما يزعم أعداء المجتمع المدني الذين يرون في نجاحه تهديدا لمصالحهم الشخصية والخاصة. وهذه على أي حال أفكار متطرفة ليس هناك ما يؤيدها من واقع الأحداث. بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك تماما بمعنى أن الدول الديمقراطية تشجع في العادة على قيام وازدهار مؤسسات المجتمع المدني التي تساعد بطريقتها الخاصة في تنفيذ سياسة الدولة في المجالات الاجتماعية والثقافية.

مستقبل محفوف بالمخاوف

ولكن الأمر يبدو مختلفا عن ذلك تماما في رأي بعض الباحثين في شئون المجتمع المدني والمهتمين بما سوف يكون عليه الوضع في المستقبل, خاصة أن هناك بعض الدلائل التي تؤخذ كمؤشرات على تراجع المجتمع المدني في الدول الغربية ذاتها, بما في ذلك أمريكا ذات التاريخ الطويل في مؤازرة مؤسسات المجتمع المدني وتشجيع المشاركة الشعبية على كل المستويات وفي كل المجالات كعلامة مميزة للديمقراطية الأمريكية والمجتمع الأمريكي المفتوح. ويرد هؤلاء الباحثون المتشككون حول مستقبل المجتمع المدني تخوفهم إلى التغيرات التي طرأت على موقف الحكومة الأمريكية من كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية التي كانت تعتبر أمورا عادية ومألوفة ومباحة في الحياة اليومية, وتدخل الحكومة المتزايد في ملاحقة أصحاب الفكر المتحرر أو المناوئ للسياسة الأمريكية الرسمية, وحجب كثير من المعلومات التي تعتقد أنها في غير صالح كبار المسئولين وأصحاب القرار وتقلص أنشطة القطاعات الطوعية عما كان عليه الحال حتى عهد غير بعيد, وخفض تمويل الدولة للجمعيات الأهلية لممارسة أنشطتها المختلفة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية وهكذا. وقد تكون هذه مجرد مشاعر وانطباعات سريعة لا تستند إلى وقائع وحقائق ملموسة ولكنها انطباعات لها دلالتها بغير شك والأمر يحتاج على أي حال إلى الدراسة. وهذا لا ينفي أن مؤسسات المجتمع المدني في كثير من الدول تعاني شيئا من القصور في أدائها, وأنها كثيرا ما تخرج أو تنحرف عن متابعة وتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها. فكثير من منظمات الشباب تقصر نشاطها الآن على البرامج الترفيهية, متناسية رسالتها الأساسية نحو تكوين أجيال من المواطنين الصالحين القادرين على العمل من أجل الارتفاع بمستواهم الشخصي ومستوى الوطن ثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا, إلى جانب الممارسة السياسية. وكثير أيضا من مؤسسات الإعلام الجماهيري أصبحت أكثر ميلا إلى تقديم البرامج والمعلومات السطحية الهزيلة التي تداعب المشاعر والعواطف والغرائز, بدلا من تقديم برامج جادة عميقة تثير الفكر وتعرض بالتحليل المشكلات الحياتية الكبرى, سواء على المستوى الفردي أم القومي أم العالمي, وتساعد على معرفة ما يدور في العالم من فكر متقدم أو تيارات سياسية متلاطمة ومتناقضة قد يكون لها تأثير مباشر على المجتمع الذي تنتمي إليه هذه المؤسسات ذاتها والأعضاء الذين تتوجه إليهم بالخطاب وذلك على افتراض أن هذه المؤسسات الإعلامية لا تتبع سياسة مرسومة مسبقا تهدف إلى حجب الحقائق أو تزييفها كما هي الحال في مجتمعات العالم الثالث بشكل عام. بل إن المؤسسات العلمية والأكاديمية والجامعية كثيرا ما تنحرف عن المثل العلمية والثقافية العليا التي أنشئت من أجلها وتفضل على ذلك الاكتفاء بإعداد الطلاب والخريجين للحياة المهنية وتغفل وظيفتها الأساسية في تكوين الإنسان المثقف المفكر الواعي لشئون الحياة والقادر على الإسهام بفكره وعلمه فيما يعود على المجتمع بالخير ويدفعه للنمو والتقدم.

المجتمع المدني والدعم الدولي

والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الأحزاب السياسية بل وعن التنظيمات الدينية التي قد تدعو إلى التعصب وكراهية العقائد الأخرى بدلا من أن تحمل رسالة التسامح والسلام. وهذه كلها أمور وأوضاع من شأنها أن تثير الشكوك حول مستقبل المجتمع المدني ومدى قدرته على الصمود على الرغم من كل ما يقال حول ضرورة تفعيل مؤسساته والتغني بمميزاته ودوره في إرساء قواعد الديمقراطية الصحيحة والسليمة. ولكن على الرغم من كل هذه المآخذ فإن الرأي السائد هو أن تعضيد المجتمع المدني والعمل على تقويته وتفعيل أنشطته هي أفضل وسيلة للارتفاع بالأداء الحكومي نفسه, وأنه على الجانب الآخر حيث تتولى المنظمات غير الحكومية بعض المهام التي تعتبر من صميم عمل الجهاز الحكومي, فإن هذه المنظمات تحقق من النجاح ما لا تستطيع تحقيقه تلك الأجهزة الحكومية ولذا فإن أنشطة المجتمع المدني تتكامل ولا تتعارض مع وظيفة الدولة من حيث العمل على المحافظة على الأمن الاجتماعي والتنمية السياسية والتقدم الثقافي والازدهار الاقتصادي واحترام آدمية المواطنين.

وعلى ذلك فإنه بصرف النظر عما يثيره من شكوك أعداء ومناوئو المجتمع المدني الذين يرون فيه تهديدا لمصالحهم الخاصة, وبصرف النظر أيضا عما يعتري بعض المنظمات غير الحكومية وبعض مؤسسات المجتمع المدني من قصور وانحراف عن الهدف, فإن الدعوة إلى تقوية هذا المجتمع تلقى كثيرا من الترحيب والتأييد, ليس فقط من جماهير الشعب العريضة في مختلف دول العالم, ولكن أيضا من بعض المؤسسات الدولية بل وكذلك من بعض الشركات الكبرى التي قد تتعارض مصالحها الاقتصادية الخاصة مع المبادئ والقيم التي ينادي بها المجتمع المدني. فالبنك الدولي على سبيل المثال طلب في عام 1999 من مجموعة العمل الخاصة بالجمعيات الطوعية أن تعيد النظر في تقييم الدور الذي تضطلع به هذه الجمعيات, باعتبارها إحدى قنوات العمل التي تقوم بتنفيذ رسالة المجتمع المدني في كثير من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية التي قد تعجز الدولة عن القيام بها على الوجه الأكمل. كما طلب البنك الدولي من تلك المجموعة دراسة أفضل الطرق لتطوير العلاقة بين البنك والمجتمع المدني مع تحديد الدور المستقبلي الذي يمكن أن يقوم به البنك في مجال التعاون مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية وخطوات تنفيذ هذا التعاون. وكثيرا ما تلجأ المؤسسات والشركات الكبرى في أمريكا بالذات إلى تكليف بعض موظفيها والعاملين فيها بالمشاركة مع المنظمات غير الحكومية في تنفيذ وتطوير وتنمية مشروعاتها الاجتماعية والاقتصادية التي تهدف إلى الارتفاع بمستوى الأهالي وتقديم الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية أو حتى توعيتهم وتعريفهم بحقوقهم السياسية وتحقيق مطالبهم الاقتصادية. ويعتبر ذلك مؤشرا مهما على إيمان قطاع الأعمال برسالة ودور المجتمع المدني, بالرغم من أن هذه الرسالة تتعارض مع أهداف ذلك القطاع من تحقيق أكبر قدر ممكن من المكسب المادي وإعطاء الأولوية المطلقة لمصالحه الخاصة. وهذه وغيرها أمثلة على ارتفاع الأصوات التي تنادي بضرورة نبذ نمط التفكير الذي يشايع ويؤيد فكرة الحكومة التي تعمل بمعزل عن جماعة المواطنين, كما تشير إلى ازدياد الاتجاه نحو المشاركة في التنظيمات المدنية على كل المستويات وأنه يجب النظر إلى المجتمع المدني كمشارك أو شريك وليس كبديل عن الأجهزة الحكومية.

وقد ظهرت حول ذلك في السنوات الأخيرة كتابات كثيرة لعل من أهمها كتاب لاثنين من المفكرين الأمريكيين هما ديفيد أوزبورن David Osborn وتيد جابلر Ted Gaebler بعنوان طريف هو (إعادة اختراع أمريكا) وقد ظهر الكتاب عام 1992 ولقي رواجا هائلا. وقد ناشد المؤلفان في هذا الكتاب الجهاز الحكومي بأن يعمل على تشجيع الشراكة مع المنظمات اللاحكومية في مجال الخدمات المختلفة بدلا من أن تتولى هذه المهمة البيروقراطيات الحكومية العاجزة. وهذا ما دفع بيتر دروكر إلى المناداة عام 1994 بضرورة قيام قطاع اجتماعي جديد ومستقل وقائم بذاته مكون من منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية وغيرها من المؤسسات غير الربحية لكي تتولى تقديم الخدمات الاجتماعية التي كانت تعتبر من مهام الأجهزة العامة إلى جانب تعريفها الأهالي, بحقوقهم السياسية والحث على المطالبة بها وأن من الخير للحكومات في الدول المختلفة وبخاصة الدول الديمقراطية أن تسترشد دائما بآراء مؤسسات المجتمع المدني المعبرة عن آمال الجماهير بدلا من أن تعمل على الالتفاف حولها كما يحدث الآن, مما يدفع هذه الجماهير المطالبة بحقوقها إلى اتخاذ وسائل وأساليب تعطل مسيرة التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي, كما حدث في ريودي جانيرو وسياتل وغيرهما.

ولقد أصبح من الواضح الآن أن مصير العالم لم يعد رهينة الصراع بين قوتين عظميين كما كان عليه الحال حتى انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد كانت (هزيمة) منظمة التجارة العالمية في سياتل مؤشرا واضحا على قيام قوة عالمية ثالثة لها القدرة على التصدي لنفوذ وهيمنة قادة العالم السياسيين والاقتصاديين والحد من هذا النفوذ وتلك الهيمنة, بحيث اضطرت المنظمة إلى التراجع وإلى أن يأخذ المؤتمر في الاعتبار مطالب الطبقات والشعوب الفقيرة التي تعبر عنها المنظمات غير الحكومية. وهذه القوة الثالثة هي المجتمع المدني الذي بدأ يوحد صفوفه على مستوى العالم ويتخذ بذلك طابعا عالميا تتكتل تحته المنظمات والمؤسسات والجمعيات والاتحادات وكل التنظيمات غير الحكومية في كل أنحاء العالم بحيث ظهر تعبير جديد يعبر عن واقع الحال وهو المجتمع المدني الكوكبي Global Civil Society. وهكذا نجد أنه بعد أن كان العالم تتحكم فيه قوتان سياسيتان عظميان هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي أصبح - على ما يقوله نيكانور بيرلاس Nicanor Perlas - رئيس مركز التنمية البديلة - في مقال نشره في المجلة الألمانية (INFO3) بعنوان (المجتمع المدني - القوة الكوكبية الثالثة - انهيار مخطط منظمة التجارة العالمية في سياتل) توجهه الآن ثلاث قوى هي: المصالح الاقتصادية الكبرى والحكومات القوية والمجتمع المدني الكوكبي.

أساليب مبتكرة وفاعلة

وقد عمدت منظمات المجتمع المدني الكوكبي في تنظيم علاقاتها وتوحيد مواقفها وحملاتها منذ عام 1998 إلى الاعتماد على شبكات الإنترنت وكان لذلك أثره في تجميع الصفوف بحيث شارك في مسيرات الاحتجاج الجماعي ضد منظمة التجارة العالمية أثناء مؤتمر سياتل خمسون ألف ناشط من مختلف دول العالم وكان يقف وراءهم بغير شك ملايين من الناشطين الآخرين الذين لم يتمكنوا من الذهاب بأنفسهم إلى مقر انعقاد المؤتمر. والجديد والمهم هنا هو الأسلوب المبتكر في التواصل وتبادل الأخبار والمعلومات من خلال الإنترنت, فقد ساعد ذلك على تنظيم تلك الحركة الجبارة التي استطاعت فرض ذاتها على المجتمع الدولي والحصول على الاعتراف بوجودها وفاعليتها كقوة مؤثرة في الأحداث العالمية فضلا عن المكاسب التي حققتها للجماعات التي تتكلم باسمها وتدافع عن حقوقها, كما أنها نجحت في أن تهدم الحواجز التي كانت تقف سدا منيعا أمام مشاركة ملايين البشر في اتخاذ القرار المؤثر في حياتهم, وكان هذا كله بشيرا بانتهاء العهد الذي كانت تتم فيه المناقشات والمفاوضات حول المعاهدات والاتفاقيات الدولية خلف الأبواب المغلقة - حسب التعبير السائد - وأن المشاركة الشعبية من خلال مؤسسات المجتمع المدني أصبحت حقيقة واقعة لا مفر من التسليم بوجودها والاعتراف بقدرتها على توحيد الأمور.

فعصر المعلومات يهيئ الفرصة إذن لقيام مجتمع مدني عالمي أو كوكبي يمثل ملايين البشر الذين ينتمون إلى عدد كبير جدا من المنظمات والمؤسسات والجمعيات غير الحكومية ذات الطابع العالمي والعابرة لكل الحدود الدولية والإقليمية. ويذهب بعض التقديرات المبدئية إلى أنه يوجد في الوقت الحالي ما يزيد على عشرين ألف مؤسسة من هذه المؤسسات المدنية العالمية وذلك فضلا عن عشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف من المؤسسات والمنظمات الأهلية الوطنية أو القومية المنتشرة في كل دول العالم وتؤلف كلها الآن - وبفضل الاستعانة بالشبكات الإلكترونية الدولية (الإنترنت) في تحقيق التواصل والتشاور فيما بينها - قوة فعالة جديدة ذات إمكانات ومسئوليات ضخمة, ولم تعد تقنع في إبداء الرأي بتنظيم مسيرات الاحتجاج أو حتى بمناقشة المشكلات المطروحة في المحافل الدولية, وإنما سيكون لها القدرة بل والحق في طلب المشاركة في إعداد (جدول الأعمال) الذي سوف تناقشه تلك المحافل - أي أن الدول والحكومات والشركات الكبرى وأصحاب رءوس الأموال لن ينفردوا بعد الآن في اتخاذ القرارات المؤثرة في حياة المجتمع الإنساني كما كان عليه الحال طيلة العقود بل والعصور الطويلة الماضية.

ويبدو أن القادة السياسيين والاقتصاديين في الدول الكبرى وفي المنظمات العالمية المهيمنة أصبحوا الآن أمام أحد أمرين لا ثالث لهما ; فإما أن يتقبلوا المجتمع المدني الكوكبي بكل متطلباته ويعملوا على تنفيذ ما هو معقول ومشروع منها بعد التفاوض والاتفاق وبما يحقق (الصالح العام) للجنس البشري - أيا ما يكون معنى الصالح العام هنا - وإما أن يتجاهلوا هذا المجتمع المدني الكوكبي ويسقطوا من اعتبارهم ما يتقدم به من مطالب ومشروعات وما يعرضه من آراء وفي ذلك خطورة كبرى على بقائهم هم أنفسهم وعلى استمرار منظماتهم ومؤسساتهم الدولية الكبرى في الوجود.

 

أحمد أبوزيد