قراءة نقدية .. في

أحدث رواية من تأليف إميل حبيبي

في "خرافيته" ، أو سيرته الذاتية رواية: "سرايا بنت الغول"، يضعنا "إميل حبيبي" أمام نص متفرد، أكاد أقول أحسن نصوصه وأمتعها على الإطلاق، سواء من حيث التصور ما قبل الإبداعي لكتابة السيرة الذاتية، أو ما بعده، عندما نلقي أنفسنا في مواجهة النص مباشرة.

إن الغاية التي نهدف إليها مما نسميه التصور ما قبل الإبداعي، تتجسد في العمليات التي سلكها "إميل حبيبي" قبل إنجاز عمله "سرايا بنت الغول".. هذه العمليات تتمثل فيما أتى عليه المؤلف من تركيبات ساقته إلى تنظيم النص/ السيرة، وإضفاء طابع منطقي عليه.. ويمكنني الإشارة بدءاً إلى أن هذا العمل يرتكن إلى:

1- الأسطورة..

2- التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

3- الأدب في كونيته..

فأما الأسطورة، فيكشف عنها توظيف نص أسطورة "سرايا بنت الغول" وقد أورده الروائي مختصراً في المقدمة، وعلى السواء ضمن النص.

فالتاريخ الاجتماعي الاقتصادي والسياسى، يرتبط بالوسط الذي تدور فيه أحداث النص، أي الأرض المحتلة.. وقد اعتمد فيه الكاتب على مجموعة من المراجع والكتب التي تؤرخ لمدن معينة، أو لحدث ما من الأحداث،.. من ثم، يمكنُ الاطلاع على ذلك ضمن النص، أو الاهتداء إليه انطلاقاً من الهوامش المتعددة لهذه السيرة..

أما على المستوى الأدبي فإن هذه السيرة تحفل بأمثلة وشواهد أدبية شعرية حكائية وتراثية، البعض منها عربي، والآخر ينتمي للنص العالمي، وهو ما يبرهن على سعة الاطلاع، وموسوعية المؤلف.

إن ما قبل الإبداعي، يجلو عن لحظة حفر ونبش في الذاكرة، وفي الموروث التراثي القديم والحديث، إذ إنه يضعنا مباشرة أمام مؤلف قادر على التركيب والتوليف لمجموعة من النصوص، وذلك كيما تخدم النص الأساس، أي سيرته ومسيرته، كما يلمح لذلك..

ما بعد الإبداعي

يمثل "ما بعد الإبداعي" لحظة استواء النص واكتماله، وبالتالي وضعه بين يدي القارئ، بهدف قراءته وفك منطق تنظيمه وترتيبه.. والواقع أن هذه السيرة تعمد إلى خرق المألوف والمعتاد في الكتابات السيرية العربية، إذ إن كان الأصل طغيان البعد الموضوعي والواقعي على النص، فإننا نجد "إميل حبيبي" يبني سيرته على تداخل الواقعي والمتخيل.. الواقعي كحياة تمثله، وتحكي سيرته، التي يتوزعها ضمير الغائب، والمتكلم.. والخيالي الذي يستدعي الأسطوري ليصوغ من خلاله لحظة قد لا نعثر عليها في الكتابات الروائية البعيدة عن جنس السيرة ..

لقد جاء بناء النص بناء عربيًا خالصًا، إذا حق القول، باعتبار أن الروائي، وكما المعهود في تجاربه السابقة، قد عمد إلى توظيف الشكل التراثي العربي.. والملاحظ في هذه السيرة نمط الحكي المنبني على جملة القول ومقول القول، حيث يكشف سياق النص عن ضمير الغيبة.. "قال: ....". . أما اللغة الروائية، فإنها تنهل من معجم تراثي سليم، دون أن تُنحي المتداول على مستوى التواصل والتبليغ.. وبإمكاني القول بأن هذه السيرة تؤسس لبنية الجملة العربية الصحيحة، كما تضع اللفظ في مكانه، وكما تنبغي كتابته..

مسألة التجنيس

لعل ما يثير القارئ، وهو يقبل على "سرايا بنت الغول"، مسألة التجنيس.. ذلك أن الروائي ينص على كونها "خرافية"، ويبرر ذلك ضمن المقدمة، مع إشارات مقتضبة وردت في سياق النص..

ف "إميل حبيبي" وما دام بصدد الكتابة عن الواقع الفلسطيني من زاوية ذاتية خالصة، يعمد إلى اعتبار أن في هذا الواقع ذاته، ما يمكن أن يحل كبديل للفظ الرواية، أي خرافية.. وهي الفعل المدهش الذي يفسّر بهدف اختصار التكرار.. أو أنه يتحول إلى تداعيات بعيدًا عن التفسير.. وأعتقد بأن "إميل حبيبي" قد مزج بينهما معًا في النص يقول في المقدمة:

ولما كنت "مؤمنًا" ، "والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين"، فقد أخرجت "سرايا بنت الغول" من جنس الرواية الطويلة منذ البداية.. فما هي، إذن؟

سميتها "خرافية" .. فقد وجدتنا- نحن العرب الفلسطينيين - متخصصين وغير متخصصين - نستعمل هذا التعبير "خرافية" لكل فعل مدهش.. فإذا كان جرى تفسيره فذلك لاختصار التكرار في التفسير.. وإذا لم يجر تفسيره فذلك للانتقال إلى تداعياته دون الحاجة إلى تقديم أي تفسير" (ص/ 12).

إذن الرواية كوافد، كانتقال عند الغرب عبر أشكال وأساليب متباينة، يتم رفضها باللجوء إلى التراث العربي القديم.. من ثم يصبح سؤال الكتابة مرادفاً لسؤال الواقع.. فإن كان هذا الأخير عربيًا في مظاهره وتجلياته، فإن التعبير ينبغي أن يكون كذلك.. فهذه الخرافية، وكما أسلفت، هي سيرة ذاتية روائية، تخلخل المتداول على مستوى كتابة السيرة.. إذ السّائد، كون السيرة موضوعية واقعية لا تحتاج إلى ما يكسر مثل هذا المسار.. لولا أن "سرايا بنت الغول" تؤسس فعل الكتابة بالربط إلى حَدِّ عدم الفصل بين الواقعي، الشعري، الحكائي والأسطوري.. فثمة مسافات للحلم، وأخرى للارتهان بمجريات الواقع، لحياة "عبد الله" من حيثُ النشأةُ والتكوينُ والوسطُ والعلاقات الإنسانية.. وليس "عبد الله" أساسًا سوى "إميل حبيبي" (انظر الصفحتين 98 ، 99).. ويتجلى الموضوعي كذلك في المراجع المعتمدة أثناء كتابة هذه الخرافية/ السيرة..

".. وحين شرعت في هذه "الخرافية" قلبت ما في مكتبتي من كتب حتى لا تخونني الذاكرة.. (ص / 91).

وقد كنا لاحظنا في متابعة نقدية عن "البئر الأولى" (نُشِرت بالناقد)، حضور كثافة الجملة الشعرية الواصفة ضمن السيرة الذاتية، إلا أن خصائص أتينا على ذكرها تنفرد بها هذه الخرافية..

"الخرافية وهاجس الموت

لعل السؤال الذي يطرحه قارئ السيرة الذاتية، هو لماذا تكتب السِيرُ أساسًا؟ وبالتالي، فأي مشكل تعالجه خارج المجال الذاتي الفردي؟

الواقع أن كتابة السيرة الذاتية، تكشف عن جانب من الأسئلة التي ظلت غائبة، ومؤجلة حتى وقت لاحق، وهو بالطبع، التأجيل الذي يؤخره الكاتب بين عمل وآخر، حتى يتولد لديه الإحساس بهاجس الموت.. من ثمٍ، فالمُلغى والمؤجل، يتم تدوينه وإكسابه بُعدًا دالاً، بحكم أنه يثير مسارات خفية في حياة المؤلف والكاتب، يجدر وعيها والإحساس بها.. ولا غرابة إن كان معظم الأدباء يؤجلون سيرهم ومذكراتهم إلى الأيام الأخيرة من حيواتهم، فتكون بذلك الشمعة الأخيرة في الرحلة الحياتية، دون أن يصدنا هذا عن الإشارة إلى كون آخرين قد دشنوا الرحلة الإبداعية بهذه السيرة، فلم يكن ما جاء عقبها من أعمالٍ سوى امتدادات للسابق.. أيضًا، يختار بعض الأدباء توزيع حيز من هذه السير ضمن أعمال روائية ليست أصلا سيراً، وبذلك فهم يُلمحون غداة تأليف النص النهائي، إلى كون ما تم التّطرق إليه قد ورد ضمن النص الروائي الأول، أو الثاني، أو الثالث، أو غيره، وهو ما أقدم عليه "جبر إبراهيم جبرا" في الجزء الأول من سيرته "البئر الأولى" ..

أمام هذا، ما هو موقع كتابة هذه "الخرافية" / السيرة؟

يقول "إميل":

"هذا لاعتقادك أنها آخر ما تضع ثم تقعد.".. (ص/ 167).

"فإلى متى تطلبون مني، يا أحبائي الأحياء منهم والغائبين، التمهل في إنجاز هذه "الخرافية" فلولا إدراكي أن الموت حقٌّ لَمَضيت في التمهل حتى العدم ولما كانت هذه السيرة وما فيها من خيانات الذاكرة ومن الأمانة في خيبة الآمال.." (ص/ 118).

إن هاجس الموت بالتقدم في السن، يُعد الدافع الأول لتأليف هذه السيرة.. وهي، العمل المؤجل الذي استهدف من ورائه "إميل حبيبي" اختصار سيرته الحياتية، وبالتالي تفسير جوانب مظلمة من هذه الحياة.. أيضًا، يمكن النظر إلى هذه الخرافية من حيثُ اعتبارها العمل (أكاد) أقول النهائي في سياق مسيرة هذا "الحكيم"، إذا ما ألمحنا إلى كون مجئ السيرة في الختام يختزل مجموع ما تبقى في الواقع الحياتي الذاتي من قضايا وأفكار ومشاكل.. وأرى أن المبدأ الأساسي خلف تأليف هذه الخرافية/ السيرة، يعودُ للجانب المرجعي المتكأ عليه.. وهو جانب جامع كما أُشير لذلك سابقًا.. والذي تصب قرائنه ومظاهره في اتجاه خدمة هذه الخرافية..

من ثم، فإن قراءتها هي قرأءة لحياة، ولمسيرة شعب، ولتاريخ أدب، ولأدب قائم.. إلا أن كل هذا، لا ينبغي أن يلغي من اعتبارنا الموعد المضروب من جانب الروائي "إن شاء الله":

"فإلى اللقاء في الخرافية القادمة.. قولوا: "إن شاء الله". (ص/ 211)

لغز "سرايا" المحير

إن الفراغ من قراءة هذه الخرافية، يطرح علينا أكثر من علامة وسؤال حول لغز "سرايا" المتحدث عنها في النص: أهي الواقع والحقيقة؟ أم الأسطورة؟ أهو تعقيل الواقعي انطلاقا من الأسطوري؟.. يورد "إميل حبيبي" ما يلي في النص:

"..وحكاية "سرايا بنت الغول" في روايات جدتي "مريم الحيفاوية" حكاية مثيرة للدهشة في تعدد بداياتها وتعدد واختلاف تفاصيلها - وأراني في هذه "الخرافية" وفي ما قبلها ذا عرق دساس يرجع إلى جدتي "مريم الحيفاوية" في رواياتها المتناقضة والمنفتحة على رواية منفتحة على رواية وهلم جرا كأنها شهر زاد وقد شاخت بعد ألف ليلة وليلة ولم يبق لها في الليالي سوى أحفادها تحكي لهم حكاياتها حتى يناموا أو تنام".. (ص/ 188)

إذن يعيدنا "إميل" ومن داخل هذه السيرة إلى مرجعها الأساس الجدة، والعادة جرتْ أن الجدات اشتهرن بحكاياتهن.. على أن الأهم كون طريقة الرواية قد اختلفت والجدة تمارسها، لأقول بأن ذات الفعل نعثر عليه ونحن بصدد قراءة هذه الخرافية.. ذلك أن "سرايا" تتأرجح بين الخيالي والواقعي، بين الأسطوري وماله علاقة بالتربة، بالأرض، وإلا فهل كانت "سرايا" الرمز الدال على فلسطين بتجذراتها الأسطورية والواقعية الموضوعية؟

إن "سرايا" في النص هي الموت والحياة.. الموت الذي يعني النهاية والانتهاء.. والحياة المشيرة إلى البحث والتجدد، إذ يكفي توظيف الأسطورة وحده للإحالة على بعث وتجديد وتعقيل كذلك..

"فهل عادت إلي أخيراً؟ من بين الأحياء عادت أم عادت شبحًا من بين الأموات؟" (ص/ 43).

توظيف الأسطوري في النص يكسر من تسلسل الأفكار والأحداث الواقعية التي تزخر بها السيرة، إن لم أقل فن السيرة ككل.. على أن "سرايا بنت الغول" لها خصائصها الفريدة، وتعبر أصدق تعبير عن كون الأسطورة ليست وافدة، وإنما تلتصق بهذه التربة، وبهذه الحياة، تمامًا كما يحدث لعموم الفئات الإنسانية، ولسائر الشعوب..

الأسطورة هي الكرمل، هي ينابيع الماء، وهي الواحات والأشجار المخضرة.. إنها حياة الفلسطيني، كما جسدها "عمي إبراهيم"، والذي أخذ عنه "عبدالله" الخيال والأسطورة وركوب الغيب..

".. ولكنه يعلم، علم اليقين، بأن سرايا آدمية من لحم ودم.. وأنها واحة من ينابيع ماء ومن أشجار دائمة الخضرة ذات ظلال وارفة لأسراب واحة.. سرايا موجودة وجود الكرمل بكوزه المعطاء والفياض" (ص /54).

".. مصدر خيالي الجامح وحفظي للأساطير وركوبي خيول الغيب هو عمي إبراهيم.." (ص/ 127)

ثم إنها بالإضافة لهذا، ما يذكر بنساء لهن موقعهن في حياة المؤلف، ف "سرايا" هي سعاد وبديعة وغيرهما..

أختم لأقول إن "سرايا بنت الغول" هي الوجه الأمثل لـ "ألف ليلة وليلة" ، وإن كانت "مريم الحيفاوية" صورة عن "شهر زاد" فمن يكون عبدالله؟ لن أجيب، ولكن أكتفي بالقول:

"خذ عني "خرافيتي" كلها ثم افعل ما تشاء ويا الله حسن الختام.." (ص / 124).

 

صدوق نور الدين