أيَّامٌ دمشقيَّة أشرف أبواليزيد صور: رضا سالم

 
أيَّامٌ دمشقيَّة

كلما وصلتَ إليهَا, وعشتَ فيها, أحسستَ, يومًا بعد يوم, أنَّ المسافاتِ بين دُورها ودروبِها تضيق, حتى تتلاشى! فما كنت تقطعه بالأمس في ساعتين, تمشيه اليوم فلا يستغرق إلا دقائق, وما حاولت أن تستهدي المارة إليه في السابق, يدلك القلب عليه الآن, بعد أن صرتَ كائناً مغرمًا بخفته. ستظل تتسع بك الرؤى, وتضيق معك العبارات, حتى يأتي موعد السفر, فتدرك أنها صارت مثل قطعة في القلب, عزيزة عليك, ولك أن تختار, بين أن تتركها, أو تأخذها معك! وأزعم أنني في كل مرة كنت آخذ دمشق معي, صورًا وحكاياتٍ, يكتبُ سطورَها المبدعون, وترسمُ أنفاسَها الأماكنُ, وتتوزعُ حواراتها البيوت الحميمة والشوارع الآمنة والمقاهي الصاخبة.

نصعد قاسيون, الجبل النبيل الجميل, أو الحضن الذي هدهد البشر زمنا طويلا, قبل أن يهبطوا منه للسفح, فتولد دمشق. مثل دراويش المولوية ندور في صعودنا لسمائه, نلف معه رحلة التجلي, كأننا نريدُ أن نرى ابنته بعينيه. نصل إلى المكان الذي نظنه الأعلى, ولمَّا ينتهي الجبل بعد, لكن مشهدًا آسرًا للغروب يستوقفنا.. كانت حكايات دمشق تودع النهار, ويختلط حلوها ومرها في السماء, فتصنع نسيجا نورانيا, تمتزج فيه الألوان: بكاء الفرح والألم, هنا تتدفق صاعدة آمال الدمشقيين وآلامهم, يودعونها وهم على أمل بغد, أكثر بهجة.

قاسيون هو المدينة الأولى للدمشقيين, عاش به أجدادهم الأُولُ, وحين وهبهم حكمة المعرفة, ونعمة النسل, وخبرة التجربة, تركوه للسهل والغوطة التي وهبت اسمها لدمشق. لكن كثيرين منهم يأتون الجبل, يوميا, ربما لأنهم يحنون إلى الجذور. وهنا كانت النبتة الأولى. كل منهم يأتي إلى حيث سالت المياه الأولى, مياه بحيرة العائلة الدمشقية.

عزف منفرد

تتسلل أصواتٌ في الساحة المتسعة التي توقفنا بها. باعة متجولون وصوت ربابة. يقترب بائع الربابة التي يدل شكلها على أنها قطعت رحلة طويلة من بادية الشام, إلى قمة قاسيون. يعزف لحنا لأم كلثوم, تساعده الأذن على تلقي الدندنة بحب. لكن خيط اللحن ينقطع, ويهرب البائع إلى خلف السور المطل على المدينة, أدركنا أن البيع المتجول ممنوع حين لمحنا ما أخاف عازف الربابة. بعد قليل, تنقشع غيمة بعيدة عن الشمس, ويعود العازف المختبئ, ونشتري الربابة: لا يغنِّي لي عازفُ الربابةِ العجوزُ فوقَ الجبل, بل لامرأتِه التي تركهَا وحيدًة ترعى حكاياتِه وعنزاتِه, وعندَمَا باعني ربابَتَه, وهبني كَُّل أحْزانِه, وذكرى ابتسامتِه.

نهبط الجبل, تهدأ الحركة حينا, وحينا تتسارع السيارات الصاعدة الهابطة. مضمار لا يخلو من خيوله السوداء ـ والملونة ـ ذات العجلات الأربع. قرب ثكنة رئاسية يتسلل من شجرة على الرصيف صوت أم كلثوم مرة ثانية, تعجبنا, وزال العجب حين رأينا أحد الجنود الحراس يحمل مذياعًا صغيرًا يؤنس وحدته, ربما يتذكر به نصفه الأجمل في مكان ما على الخريطة السورية. ومن غير (عودت عيني على رؤياك) تذكره بها, وتسريه بذكراها?!

مرة أخرى نلتقي مع عاشق آخر للموسيقى, في الحارات الدمشقية بشاربي باشا, أو (قبضاي), وعود موسيقار, ونظارتي قصبجي, وحنين للموسيقى, ومرة أخرى تزور أم كلثوم طريقنا الدمشقي بصحبة نجاة وعبد الحليم حين يعزف وينشد العازف بحب وشجن مثل درويش في معية صوفية. تجذبنا الألحان فنجلس, نغني معًا, ولا نسأل عن الأسماء والأماكن, في دمشق هويتك هي عروبتك, وحبك للموسيقى هو رابطة الدم, وحلمك بالفرح يكفي لكي تشارك الأمل في الغد.

الأداء الفردي كان يتوزع الطرق الدمشقية, مع العازف فوق الجبل, والمغني على عوده, حتى في مقهى النوفرة, حين يتأهب ما تبقى من الحكواتي ليقص عليك ما تيسر من السير الشعبية, وأبطالها الذين سيطويهم الزمن يومًا ما, بسبب سطوة الأبطال الجدد, القادمين في أوراق السيلوفان, على أجنحة العولمة, عبر شبكة الإنترنت, وفي صناديق البهجة المعتمة; التليفزيون!

في الطريق إلى المقهى نمر بسوق الحميدية التي جرى ترميمها بالتعاون مع اليونيسكو بإزالة التجاوزات على أبنية السوق الأساسية, حتى تعود للوضع الذي كانت عليه قبل نحو مائة عام, لتسمح بفضاء جمالي تمرح به العيون والفراغ, ومكننا من مراقبة خيوط الشمس وهي تتسلل من الأسقف, لتصل الأرض, وما بين السماء والطريق محطات من البضائع التي تندر إلا في هذه الزوايا, والصنائع التي تنقرض إلا في هذه الأماكن, والوجوه التي لا تصادفها إلا حين تستضيفك السوق الحميدية بما تعرض من ملابس ومفروشات, وغير بعيد منها تمتد أسواق أخرى بها محلات العطارة, ودكاكين الحلوى, وبائعو البشوت, وتجار الزيوت, ومروجو العطور, , وحين تنتهي من التجوال, وفي منطقة باب البريد وهي المنطقة الممتدة من نهاية الحميدية وحتى الجامع الأموي, تستقبلك ألوان من العصائر والأطعمة.. في الحميدية لن يجد المتسوقون استراحة إلا في أشهر محلات البوظة البلدية, وهناك تجد نفسك في صورة من قلب دمشق, المفتوح للجميع من سياح وزوار وأهل المدينة.

صباحٌ ومقهى

تصل أمامه, فتجد الزحام قد سبقك إليه. تنتظر ليجدد دماء زبائنه حتى تجد لك مكانا بالخارج, أو ترضى بأن تجلس بداخله, الكل يفضل الجلوس على عتباته, يُمَلي البصر بالعابرين تارة إلى المسجد الأموي, أو السائلين في محلات العاديات عما يسأل عنه السياح عادة. نحن في أشهر المقاهي التي يقصدها زائر دمشق; النوفرة, وتعني نافورة المياه, أو البحرة التي ميزت البيت العربي الدمشقي, وزينت قاعته, وربطت أرضه بسمائه, مثلما وصلت بين أهل البيت وربهم. الفسقية هنا, أو البحرة تقع خارج المقهى, لكنها في البيت التقليدي العربي الدمشقي تقع بقلبه تمامًا.

أجلس في الداخل للتأمل.. بعد ساعات سيأتي الحكواتي, الراوي, ليعتلي كرسيه, ويبدأ بالعزف والإنشاد, فتميل معه الرءوس, حتى تلك التي لا تعرف الأبجدية, فالراوي بحضوره يقدم لونا عربيا خاصا من الأداء الإبداعي, صمت الحكواتي الذي يعتلي الكرسي في صدر المقهى له أكثر من مغزى; فهو صمت الانقطاع الذي يلملم به الأنفاس, أو التمديد الذي يستدعي ردًّا من المتلقي, أو صمت الفتنة حين يغوي الراوي الحدس بأن ما سيقوله ممنوع و(مرغوب) ولنا أن نفتتن باستكماله (على هوانا), وصمت المنفعل للموقف الذي يحكيه, وصمت الفاهم المستوعب لما قيل, وما تم إدراكه, وإذا كانت تلك معاني الصمت التي يجري بمركبها ربان الحكاية, فكيف تكون معاني الكلام?!

في المقهى عدة لوحات صغيرة تمثل معرضا للفنان والكاتب محمود شاهين تغطي بعضا من الجدران, الفنان يمر بنا ليعطينا كتيب معرضه, وبه يقول: يا لون, يا رفيقي, يا صديقي, يا حبيبي, كم من أيام كنت وحدك فيها تنير ظلمة الهزيع من حولي بشموع ترقص, وكم من ليال كنت وحدك ترسم تفاصيل الحلم, بعد أن خان الزمان زمانه, وضاق صدره بصريح الكلام? أتأمل اللوحات الحبلى بالأساطير وأيقوناتها على خلفيات موزاييكية تعيدك إلى جذوره وهو المولود في القدس. أتى هنا مع سواه من المبدعين العرب لأن دمشق فتحت قلبها لهم بأغاني الشوق.

وإذا كان العيش مع الموسيقى بين الطوائف التي تلقاها في دمشق يجعلك تعتقد أن لكل دمشقي روحًا تهفو للطرب, فإن تداول الفن التشكيلي هنا يجعلك تؤمن أن بكل بيت دمشقي معرضا. ذلك أن كثيرًا من البيوت الدمشقية التقليدية تتحول إلى معارض, مهما صغرت أو كبرت. حتى أن اصطبلا للخيل تحول إلى بيت للسكن ومن ثم مقهى وغاليري (ع البال) وعلى صغره تراه يكبر بالفن, حين تنشد فيروز في مقهاه الذي يضم عشاقا يجمعهم الفن, فتحس أن أعمدة المكان قائمة على أغانيها. حتى في البيوت التي تحولت إلى مطاعم (بيت جبري) خصص ركن منها لعروض الفن, بينما يعزف على عوده في سماء القاعة عَوّاَدٌ آخر.

ننتقل بين معرض وآخر حتى نصل إلى مجموعة أيام التصوير, وكان المعرض في آخر أيامه, لذا لم تكن قلة الجمهور تقدم صورة عن عدم احتفاء, رغم أن المعرض يقدم تجارب تتأرجح بين الإغراق في الحداثية لعروض (الفيديو آرت) والانغماس في الكلاسيكية مع لوحات البورتريه, وهي أعمال جريئة لفنانين عرب وفرنسيين من الشباب. ننتقل لمعرض آخر في كنيسة, وهو للمقارنة ساعة افتتاحه, ورغم أن المعرض يحتفي بتجربة فيها من الفطرية أكثر مما بها من الحرفية الفنية, فإن الجمهور الضخم أكد لي فكرة الاحتفاء بالفن في دمشق. نقاد ـ منهم الفنان أسعد عرابي ـ وإعلاميون, أكاديميون ورجال دين. ومحبون للفن والفنانة جاءوا جميعا للاحتفال بأيقونات أخرى, تتوسل خطوطا لينة وعيونا جريئة وألوانا ساخنة. وفي بطاقة أخرى نتعرف إلى معرض يمثل صورة لكتاب الناقد الدكتور عبد العزيز علون, (منعطف الستينيات في تاريخ الفنون الجميلة), حيث يستشهد المعرض بمجموعة صالة الفن الحديث المقتناة لتلك الفترة; فاتح المدرس, لؤي كيالي, سامي برهان, عبد القادر أرناؤوط, نصير شورى, إلياس زيات, غياث الأخرس, نذير نبعة, نبيل المالح, وغيرهم.

الفن. الفن. إنه لغة دمشق التي تتخذها بديلا عن اللغة السائدة في الشارع السوري الذي يئن تحت ضغط صور الحرب المتخمة بالدماء, وهدير التصريحات المعادية المخضبة بالكراهية, وآلام المكلومين, وفي سورية قلب تتصل شرايينه بما يجري في العراق وفلسطين. في الشارع, في الصالحية وسواها, تجد ركنا لفنان أو أكثر, من الرسامين الجوالين, يفرش على جدار أو شجرة بعضا من أعماله, ويستعرض مهارته في (الرسم الفوري), إنه صورة من المصوراتي قبل قرن أو أقل, حين كان يحمل صندوقه الأسود, عارضا على المارة تصويرهم, وما أشبه الليلة بالبارحة.

في الشارع الدمشقي أيضا وقرب المسجد الأموي, وفي بعض حنايا الحميدية تجد ما تبقى من المكتبات, لكن العناوين ستدهشك, لأنها تكاد تكون في اتجاه واحد, بين أهوال يوم القيامة, وعذاب النار, وكأن أهوال الحياة لم تعد تكفي, ونار الحرب لم تنس نيرانا سواها. بطاقات بريدية, وكتيبات, ومجلدات فخمة, واسطوانات مدمجة, والرسالة واحدة: البحث عن الآخرة. وأما الدنيا فكتبها عن السحر وكتابة الأحجبة, وأي مؤلف أو مصنف يستعين بالخوارق على قضاء الحوائج في عصر (من سيربح المليون)?!

هنا كان الوراقون يجتمعون, فيما يسمى الآن بسوق المسكية, لبيع الكتب, تقليد اختفى منذ نصف قرن أو أكثر, وباتت المكتبات موزعة بعضها على أرصفة دمشق قريباً من الجامعات والمراكز الثقافية أو تودع في مكتبة الأسد المكتبة الوطنية, وتحول سوق المسكية إلى الكتب الدينية الشعبية وكتب الأدعية والسحر, وهي من الطبعات الرخيصة, بالإضافة للكتب المدرسية المستعملة.

كانت دمشق عامرة بالمكتبات النوعية, وكانت خزائنها بمكاتبها الوقفية تحتوي على أنفس المؤلفات وأندر الذخائر, ويذكر جمال الدين بن نباته المصري في مقدمة كتابه (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون): (كنت أعرف ببعض خزائن دمشق الوقفية أسفارًا فيها للمطالع منجع, وللأفهام الناسية ذكرى تنفع, فلم يتهيأ أن أُعارَ منها كتابًا, ولا أراجع من ألسنة حروفها خطابًا).

وكان مما بقي من هذه الخزائن ما ظل عند ضريح النبي يحيى, حتى تلف معظمها في الحريق الذي أصاب الجامع في 14 أكتوبر 1893 ميلادية, ولم يسلم منها إلا ما كان محفوظا في قبة المال. وتبقى بعض كنوز أخرى في المكتبة الظاهرية التي لا تزال واحدة من أشهر مكتبات دمشق وتحوي مخطوطات مهمة جرى نقل قسم كبير منها إلى مكتبة الأسد للحفاظ عليها, كما لاتزال مكتبات المدارس العريقة قائمة بكنوزها المعرفية.

تغمرنا سكينة وخشوع, حين نعبر ساحة الجامع الأموي إلى قلبه, ضمن طوفان من القادمين إليه ولكل مقصد: مصلين ومتبركين وداعين إلى الله وزائرين وعابرين وسياح, مسلمين ومسيحيين, أفارقة وآسيويين, يستقبلهم حمام طائر, ووعد بالغفران. عليك أن تمر بالأموي فهو يشبه واسطة العقد في حبات مسبحة الأيام الدمشقية.

ألوان دمشقية

قهوة صباحية مع الفنان التشكيلي نذير نبعة, أحد مؤسسي الحركة السورية المعاصرة. يتذكر طفولته في بستان من بساتين المزة في دمشق. طفولة وهبته الحرية التي تحتاج إليها ريشة فنية للانطلاق, مثلما وهبته مخيالا عاد ليتألق في لوحاته عن دمشق, التي آب إليها بعد أن طال السفر.

تحدثنا عن القاعات التي تنهض في البيوتات العربية لاحتضان معارض تشكيلية, رآها حنينا إلى فضاء غاب عن الحياة اليومية, التي تفتقد البراح الآن. (كانت الساحات الداخلية في البيوت التقليدية تمثل الأحلام الداخلية لساكنيها. الآن مع الزيادة السكانية, واستيعاب دمشق لثلث سكان سورية, بات من الصعب الإبقاء على هذه البيوت التي لا تتسع للنمو السكاني. ويحاول بعض الفنانين والمهتمين بالفن شراء هذه البيوت لترميمها وإحياء دورها, واتخاذها مكانا للمعارض التشكيلية بحس غير تجاري, بعد فشل الصالات العامة في مهمة دعم الفن التشكيلي على النحو الأمثل). لكننا فرحنا بعودة مجلة (الحياة التشكيلية) للصدور, ربما لتؤازر فكرتنا عن إحياء الفن, الذي تبنته صالات خاصة كثيرة مثل صالة أتاسي.

كثير من أعمال الفنان نذير نبعة تحمل اسم دمشق; وفيها يبحث عن جمالياته الخاصة للمكان, الذي يتحول إلى وجه نسوي له ملامح غير مختلفة وكأن النهر الذي يغب منه واحد. حتى أن طبيعته الصامتة كانت تحمل فرادتها الخاصة. فالطبيعة الصامتة الشاقولية (العمودية) للرمان على الجدران تمثل مشهدًا مستعارًا ـ ربما ـ من بستان المزة, قبل نصف قرن, لكنه اجتاز عتبة السنين ليرقد باطمئنان, بلونه الساخن على لوحته الناطقة.

تضاحكنا حين امتد الحديث ليرسم أطرافا عائلية, قال له الفنان رضا سالم: أعجبتني مقولة أنك رددت الدين! وكان يقصد إلى زواج ابنته الفنانة التشكيلية صفاء نبعة من مصري, مثلما تزوج هو من الفنانة المصرية شلبية إبراهيم; زميلته في لوحات الدراسة والفن والحياة. وهكذا يحقق الفنان ما يعجز عنه السياسيون, أحيانا!

نمضي في شقته التي حول شرفتها بستانا حتى نصل إلى قلب مرسمه, حيث يمارس تجاربه الجديدة: اقتربت من لوحاته التي تجسدت شروخًا في جدار الزمن, تنسجها التجارب التي عبرها الفنان, من التشخيصية, إلى الرمزية, فالسردية. ها هي مغامرة جديدة, حيث يستعيد فيها الفنان ـ ربما ـ ذاكرة دمشق الأولى, في جبل قاسيون, بأبجدية صورية يبتكرها. لم تعد الرموز هي المقصد, ولم تعد الأشكال هي ما يسعى إلى تشفيره أو تفسيره, ولم يعد النهر الذي شرب منه والدرب الذي عبره يود أن يعود إليهما, إنه يريد ـ مثل متسلق الجبال ـ أن يصل لقمة لم يصلها سواه, وهنا يضع علمه وتوقيعه; نذير نبعة. شغف الفنان بالكيف شغله عن الكم, وسعيه للتقنية أرجأ التفكير لديه في الصورة. هو هنا لا يترجم ما يراه, بل يرسم ما يدركه. إنها رحلته من البصر إلى البصيرة تختزلها اللوحات التي تكتظ بنتوءات زيتية حقيقية تحقق البعد الثالث, تجسيدًا للفن في انطلاقته الجديدة.

يقول عن معرضه (التجليات) الذي يمثل هذه التجربة الأحدث: الفرح يصبح لونا معربدًا في النافر, ويمسي الانكسار غارقا في ظلال الغائر, الموضوع بعد الثبات والموت, يهب حيا متحولا حرا مليئا بالاحتمالات. أدعوك لترسم في لوحتي لوحتك, أدعوك لترسم في فرحي غضبك, أدعوك لترسم في منظري.. وجهك, لأن هناك نافذة أخرى للرؤية, نافذتي هي فراغ اللوحة, وهي طريقي إلى الأشياء, أدنو إلى أغوارها, أتلمس في ظلالها فسحة للروح, أو ومضة للحياة.

يتطرق الحديث إلى مجرب آخر, إنه الفنان التشكيلي والمثال مصطفى علي, الذي أراد أن يأسر ذاكرة دمشقية أخرى يهبها للفن فحقق حلمه باقتناء أحد بيوتها العربية القديمة, وهو صاحب أحلام كبيرة; أطالع ورقته التي يسعى فيها لاستقطاب أفكار لإقامة أول سمبوزيوم للنحت في سورية, بإحدى المساحات الخلابة قرب اللاذقية, وبمساهمات أهلية. لكن ذلك لا يشغله عن أحلامه الخاصة في الفن, وحلم شريكته الفنانة الخزافة الشابة نهى المولعة بالكائنات البحرية.

كائنات الفنان مصطفى علي يستعيرها من الأساطير المحلية والعالمية, الفينيقية والآرامية والفرعونية والقرطاجية بدءا من أوغاريت مسقط رأسه, يقتحم محرابها, يختزل خطوطها ليقدمها عبر خاماته المتعددة في صياغة خاصة يحقق بها أسلوبه الرشيق في التعبير, فهو يستلهم تصميم ذئبة روما التي ترضع روموس ورومولوس مثلما يستوحى أنبوس (ابن آوى) الإله الفرعوني حارس برزخ الموت, وتتماهى الحيوانات بأشباهها وكلها يحتفظ بالقوام الرشيق ذاته. أما إنسانه فهو طائر, لا يكاد يستقر, من فيض حالة السعادة, أو قسوة صرخة الجرح. إنها لعبة التوازن التى يجيدها الفنان. كما يربط بين الذكر والأنثى اللذين يتماهيان إلا من رتوش تَبينُ من تحت غلالة المرأة في هيكل واحد يشي بوحدة المجهول والمصير.

والإنسان لغة مشتركة في عمل فنان آخر هو صفوان داحول, الذي يختار كائنات تعزف الرحيل وتنشد الألم, حين يطوعها تشكيليا في صورة رحمية تمثل الاستكانة الكاملة للنهاية التي - ربما - تعد وجها من وجوه البداية وسط حركات صامتة تمثل عزفا على لحن البانتوميم, نجد هذا الكائن وحيدا مع قطعة أثاث لا يفصل بينهما سوى خطوط حادة وصريحة, ويميل داحول في لوحاته إلى الاقتصاد اللوني مستثمرا طاقة أرضية اللوحة في إضاءة ظلام التكوين والمكان ذي الألوان الداكنة, تلك الألوان التي هربت من مسامها الحياة.

يطول الحديث في الفن, يحتضنه البيت الدمشقي التقليدي الذي يختزل العالم بمركزيته, من الجبل هبطنا, من الضجيج هربنا, إلى قاعة البيت لجأنا, وأمام محرابه وحول بحرته تحلقنا, دائما نتجه إلى المركز, ودائما يجذبنا القلب الذي يجذب العائلة الدمشقية كأنه الحلم المقدس للترابط, والمكان الذي يعيد اكتشاف ذواتنا الداخلية حين نبحث في صوت مياه النافورة عن الأصوات التي افتقدناها, وتأخذنا النقوش السيمترية التي ابتكرت التجريد إلى أفكار لانهائية ومرة أخرى أتذكر المولوية والطواف حول المركز الذي يلم الشمل. فالبيت الدمشقي التقليدي صورة من المدينة العربية القديمة, التي تدور بناياتها وأسواقها حول مركز واحد, قد يكون قلعة أو قصرًا أو مسجدًا, حسبما توزعت أهمية كل منها مع مقتضيات العصر.

وخلقت هندسة قاعة البيت الدمشقي التقليدي لذاتها حكاياتها وأساطيرها, فالمياه في الفسقية تمثل العالم السفلي, وكأن منافذ المياه منها منافذ لعالم الجن, لهذا من التقاليد التي توارثتها الأجيال عدم النوم قرب العتبة أو باتجاهها, حتى لا (يمس) النائم ما يأتي من العالم السفلي, ومن العادات أيضا عدم صب الماء الساخن في المصارف ليلا, لأن الجن يخرج إليها حين يحل الظلام, لأن هذه العتبات مساكن الجن, ومثلما تشي العتبة بحكاياتها, والنافورة بأساطيرها, يقص عليك البيت الدمشقي التقليدي حكاياته, التي تخلط الدين بالفن, والحياة بالموت, والإنسان بالمكان.

العصفور الأحدب وملاح الرواية

كلما طال بك الوقت في دمشق لا تبتعد كثيرًا عن الفن, بل تكاد تقترب منه أكثر. إلى موعد مع الروائي الكبير حنا مينه تصحبنا الكاتبة سعاد جروس, تحدثني عن دمشق, التي لم تتبدل, حتى لو تبخرت أنهارها السبعة, وتلاشت غالبية جنائنها وزحف الصفيح على بساتينها, هي الشام, الشامة المتخفية في صدور أبنائها.. المسرح الواسع الذي يؤمه الممثلون والجمهور من كل صوب. تصنع الأحداث وتسمي الممثلين, تتواطأ معهم, يمنحونها أنفسهم, فتمتعهم بروحها, وكأنهم امتلكوها, وعداهم, كلهم عابرون, لا يظفرون منها بقلامة ظفر.. مدينة لا تجيد التجمل, لم تتقن البرتوكول الغربي, ولا استقر على قسماتها مكياج التحرر الثوري, وغير مرتاحة للموضة الأمريكية ولا الأكل السريع, إنها لا تعتز إلا بذاتها ولا زالت حلات الفول النابت والذرة المسلوقة والصبارة تتوازع شوارعها مزهوة, ترنو إلى قاسيون الشامخ, وتخشع في الجامع الأموي, وتتبع في السوق الطويل خطى بولس.

يوقف الحديث وصولنا إلى ميناء حنا مينه, إلى شقته الدمشقية, المستقرة في حي هادئ بعد تعب كأنها جزيرة فوق اليابسة, بعيدًا عن البحر الذي ألفه صاحبها. كان الطريق إليه لا يشبه رواياته السلسة, ربما أراد الاحتماء بهذه الصومعة العالية ليتفرغ للكتابة, والقراءة, وهو من أكثر الكتاب المعاصرين كتابة وقراءة. كنا نشعر قبل أن نصل إليه بأن وقتنا معه لن يطول, الساعة تقترب من الواحدة, واليوم منتصف الأسبوع, وهو في العادة لا يستقبل ضيوفه ببيته, (كل نهار خميس, في الحادية عشرة أو بعدها بنصف الساعة, وحتى الساعة الثالثة, آخذ مكاني بمقهى الروضة, هناك استقبل أصدقاء وقراء كثيرين) لكن الحديث استغرقنا وحين طالعنا الساعة لدى خروجنا من عنده كانت تشير إلى الرابعة!

طال الحديث, مرة يتحدث عن الفقر الأسود في الشباب الذي أصبح من المعتاد أن يتذكره عارفوه ومحبوه دليلا على الصلابة التي واجه بها حنا مينه الحياة, وأخرى عن الفقر الأبيض الذي يتندر به اليوم وهو يقول لقد اكتفيت, وإذا رأيتم ملاك الموت فأرسلوه إلي!لكن حياة المبدع الكبير بين هاتين التعاستين خلقت عالما من السعادة الروائية, حتى لو بكينا مع أبطال بحار الرواية العربية, الذي بلل البحر أعماله بملح التجارب القاسية: (لحمي سمك البحر, دمي ماؤه المالح, صراعي مع القروش كان صراع حياة, أما العواصف فقد نقشت وشما على جلدي إذا نادوا: يا بحر)!

يشيخ حنا مينه إذا شاخ البحر, لكن البحر لايشيخ حتى لو تهرب الموانئ, وتهجر السفن, وتهرم عرائس البحر, يبقى الملاح يلقن النوارس دروس البهجة والحلم. طاب له أن تذكره سعاد, بمشاجرته التليفزيونية, فأعاد ما جرى بملتقى الرواية في دبي, ثم ذكرها ببيت الشعر الذي استعان به ليرد على ذلك الناقد الجاهل حينها, وهو مقتطفٌ للمتنبي الذي كان رابعنا في لقائنا بالروائي الكبير:

أتى الزمانَ بنوهُ في شبيبتِه فسَرَّهم, وأتيناه على الهرم
تقلدتني الليالي, وهي مدبرةٌ, كأنني صارم في كفِّ منهزمِ


دروس حنا مينه في ذلك اللقاء تعددت, لكن التاريخ كان أولها, والحزم كان أهمها, قال: (في رسائل بولس الرسول هذه المقولة (كن باردًا أو حارًا, ولا تكن فاترًا فتتقيؤك نفسي), ولم أكن فاترًا, حتى قبل أن أقرأ هذا الكلام المأثور).

حدثنا بمحبة عن بيته الكبير متعدد الطوابق في اللاذقية, وكأنه يضعه ـ البيت ـ مثل التحف واللوحات التي ضاقت بها غرفته: صورة للمبدعين الروس, لوحات بأسماء رواياته رسمها له جورج البهجوري, تماثيل رومانية, تذكارات, وروايات مترجمة كان أحدثها إلى الأرمنية, صور وتفاصيل وفنجان قهوة عزيز عليه: (هذا فنجان أمي أشرب به القهوة منذ 40 عامًا).

يسترسل حنا مينه كما لو أن مفتتحًا في رواية جديدة قد بدأ, ولا يريد له أن ينتهي: لكي أمتلك معلمية الكتابة كان علي أن أقرأ التوراة, وأحفظ بعضا من إصحاحه, وأن أقرأ القرآن الكريم وأن أحفظ الكثير من سوره, وأن أقرأ (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني وتاريخ العرب في الجاهلية والإسلام, وأن أخالف طه حسين في أن الشعر الجاهلي منحول كله, ففي الجاهلية كان شعرٌ, وكانت ثقافة وحضارة, وأن أسبق ـ بشهادة الناقد محمد دكروب اللبناني المجتهد ـ ما يقال اليوم من أن الرواية هي ديوان العرب, وقد سبقت إلى قولها عام 1982م.

وحين تبدأ مطارحات الروائي الكبير عن أدبه يطيب له أن يذكر الفضل المتبادل بينه وبين دار الآداب التي تعيد طبعات رواياته سنويا, وهو حسب الدار يجاري في الرواية, ما فعله نزار قباني في الشعر. (نزار قباني دخل تسعين بالمائة من البيوت بقصائده, ودخلت ثمانين بالمائة من بيوت القراء برواياتي). كان يمتحنني بين الحين والآخر في رواياته وأحداثها, ولا تنجدني فيما أنساه سوى ذاكرة الكاتبة التي تربت مثل مبدعات كثيرات على رواياته, لكنها تخلص اليوم لقضايا الواقع, والسياسة, والإعلام.

يمضي الحديث فأسأله عن جديد الرواية السورية الجيد الذي يتابع قراءته, فيحضره اسم فواز حداد, ويدهشه أنني قرأت له, (أو أنني أذكر أعماله). والواقع أن لقاء مماثلا بالروائي حداد كان تمثال صلاح الدين شاهدًا عليه, في مقهى القلعة العلوي المواجه للتمثال, لا يزال حيا في ذاكرتي مع هذا الأديب الصموت صاحب (تياترو 1949) و(الولد الجاهل) التي صدرت في عام 2000.

في (الولد الجاهل) يختار فواز حداد لبطله (الكاتب) أن ينقل بقرار سلطوي للعمل من وزارة التربية إلى وزارة الداخلية, لتكون مهمته تلفيق القصص للمتهمين, وبالاستعانة بأرشيف ضخم من الوثائق, الموجودة في قبو, ومهارة يمتلكها لأن لديه أكثر من لغة. أتذكر هذه الرواية اليوم بعد سنوات من نشرها, لأن رواية جديدة هي (عالم صدام حسين) تستعير ـ في رواية حقيقية مماثلة ـ شخصية بطل فواز حداد, ولكن النبوءة الفوازية تؤكد إنسانية روايته وصدقها.

نهرب من الأحداث الكارثية إلى الشعر والفن, يصحبنا الفنان التشكيلي صفوان داحول إلى معرض تشكيلي آخر, في بيت البارودي, وهو بيت قيد الترميم ليعود ـ كما كان ـ إحدى التحف المعمارية الشاهدة على معمار البيت الدمشقي التقليدي. أتذكر النشيد الذي كتبه صاحب المكان الشاعر والسياسي المناضل فخري البارودي, ولحنه محمد فليفل, وغنيناه من المحيط إلى الخليج: بلادُ العُربِ أوطاني.. منَ الشّامِ لبغدانِ.. ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ.. إلى مِصرَ فتطوانِ.. فلا حدٌّ يباعدُنا.. ولا دينٌ يفرّقنا.. لسان الضَّادِ يجمعُنا.. بغسَّانٍ وعدنانِ.. فهبوا يا بني قومي.. إلى العلياءِ بالعلمِ.. و غنوا يا بني أمّي..بلادُ العُربِ أوطاني, نتنفس العروبة في كلمات البارودي مثلما نملي العين بآيات تصاوير البيت الذي تنقلنا جدرانه إلى عواصم العالم الإسلامي برسومها الحية, وهي تنم عن فرادة شخصية صاحب البيت الذي لقب بشيخ الشباب الذي جمع في بيته وعلى مائدته أساطين النغم السوري والعربي مع أهل الثقافة والشعر والسياسية بالإضافة إلى ندمائه من الظرفاء ذواقي الصوت الجميل والوجه الحسن والطعام اللذيذ, مرت أطياف البارودي سريعة قبل أن نستكين في حضرة شاعر كبير, يحاور العزلة بعد أن حاور الشعر; إنه محمد الماغوط.

لا يذكر التجديد في الشعر, إلا ويذكر شاعر العصفور الأحدب محمد الماغوط, ولا يعبث في الذهن اسم حين ترد السخرية اللاذعة إلا اسم الماغوط, وهما خصلتان يرجعهما في إحدى حكاياته إلى الأم: (أمي كانت امرأة جميلة وشاعرية في طبعها, وتحب الزهور, لكن حنانها وحبّها لنا, لم يمنعها من أن تكون صارمة, حين يتطلب الأمر. أمي أعطتني الحس الساخر, الصدق والسذاجة, رؤية العالم كحلم قابل للتحقق. وحين سجنت لأول مرة في (سجن المزة) جاءت من سلمية للبحث عني والاطمئنان على حياتي, وهي لم تزر دمشق من قبل, ركبت (البوسطة) وجاءت إلى دمشق). تذكرني أم الماغوط بأم ناظم حكمت, الرسامة التركية الرائدة جليلة خانوم, فحين سجن ابنها في بورصة, كتبت لافتة طويلة وعلقتها أمام السجن مطالبة بإطلاق سراحه, ووقعتها باسمها الأول في شجاعة نادرة. هكذا يجب أن نبحث عن الأم الشجاعة في دفتر الشعراء الأفذاذ.

لكن ألم الماغوط المنزوي مع أدويته في حي المزرعة الدمشقي,كان يتسلل عبر الوجه الحزين, المكتئب. كأن صراخه عبر كل هذه السنوات لم يكن مجديا:

يا أهلي... يا شعبي / يا من أطلقتموني كالرصاصة خارج العالم/ الجوع ينبض في أحشائي كالجنين / إنني اقرض خدودي من الداخل.../ أريد أن أهز جسدي كالسلك / في إحدى المقابر النائية / أن أسقط في بئر عميق / من الوحوش والأمهات والأساور / لقد نسيت شكل الملعقة وطعم الملح / إن أحشائي مليئة بالقهوة الباردة..

هكذا انتهت صرخات القرن الماضي في هاوية القرن الحادي والعشرين, أتراه يتذكر ـ حين يدخن متأملا ـ قصيدته ( النحاس)?: (الاسم: حشرة / اللون: أصفر من الرعب/ الجبين: في الوحل / مكان الإقامة: المقبرة أو سجلات الإحصاء / المهنة: نحاس / البضاعة: رمال ذهبية وسماء زرقاء / وعندي.. شعوب / شعوب هادئة وساكنة كالأدغال / يمكن استخدامها في المقاهي والحروب وأزمات السير) أهي نبوءة الشاعر? ومن غير الشاعر ينبئك عما لا تستطيعه العرافات?!

بعد 30 عامًا

في منتدى الشاعر بندر عبد الحميد حيث يجتمع قصاصون ومترجمون, وشعراء ونقاد, ومسرحيون وسينمائيون نحاول أن نحتال على الكآبات المتسللة للأرواح بالبحث عن الحراك الثقافي الدمشقي الذي لا يهدأ سواء على مستوى الدولة أو الأفراد. فهو, كمدير للنشر في المدى يعرض طرفا من سيرة المستقبل المفعم بالنشاط والمشروعات الثقافية, أستقبل بفرح ألبوما فنيا أنيقا عن الفنان جبر علوان, ومجلدا لرباعيات الخيام بأكثر من ترجمة ونص إنجليزي. ومثل المدى تجد دار الفكر , ودار الطليعة والأهالي وغيرها الكثير. المترجم صالح علماني ينتقل من سيرة لماركيز ورواية لإليزابث الليندي إلى كتاب عن الأدب اللاتيني ودراسة لمؤتمر الترجمة في مصر (الذي كرم الشاعر والناثر والمترجم والمسرحي ممدوح عدوان). وحين يرد اسم عدوان نذكر استلهامه للعالم الشعري للشاعر محمد الماغوط في مسرحية (الفارسة والشاعر) وهي عبارة عن تلاص ـ كما يسميه عدوان ـ لأعمال الشاعر. الناقد السينمائي بشار إبراهيم يعدنا بترتيب عرض خاص لأحدث الأفلام ـ التي حصل على نسخ منها ـ والتي شاركت في مهرجانات عالمية (لا تكتمل الدعوة لأكثر من سبب)! الكاتبة ليلاس حتاحت تحيي إنشاء الأوبرا السورية بعد 30 سنة من وضع حجر أساسها (رقم قياسي), وتضم دار الأسد للثقافة والفنون (الاسم الرسمي للأوبرا) ثلاث صالات تتسع الكبيرة لألف وخمسمائة شخص, والثانية لسبعمائة وخمسين شخصا, والثالثة لثلاثمائة شخص, مما يفسح في المجال لإقامة عدة فعاليات ثقافية في وقت واحد, وهي مكرسة لإحياء الموسيقى (في عزف غير منفرد هذه المرة). والناشر الدكتور زياد منى يطلعنا على أحدث الكتب التي تضطلع داره بترجمتها في سبيل إضاءات تاريخية عربية جديدة. والرسام عبد السلام عبدالله يستعد لمعرض جديد لزهوره الابدية الخالدة...

ضيوف يحدثونك عن مشروع (الثقافة للجميع), والذي كان ممتدا في فترة زيارتنا للمدن السورية, وهو مشروع يهدف إلي توزيع كتب تكلفت طباعتها ما يزيد على ثلاثمائة ليرة لكنها تباع بخمسين ليرة, أو بخمس وعشرين ليرة , وكتب أطفال بعشر ليرات.. (وكانت مكدسة بالمخازن ضمن مليون نسخة, لكن ما بيع منها حقق حسب مصدر رسمي 18 مليون ليرة مبيعات في حين دشن لأول مرة السنة الماضية), ومشروع آخر هو كتاب شهري يوزع مع جريدة البعث مجانا صدر في سلسلته أعمال لعبد السلام العجيلي ووليد إخلاصي وزكريا تامر وحنا مينه.. عالم من الأحاديث يجعلك تظن أن الأيام الدمشقية مكرسة للثقافة والفن.. حتى تنتفض الهموم فجأة هنا أو تشتعل هناك. وهذه المرة أبحث عن المرأة, حيث تشهد منتديات كثيرة ما يمثل إرهاصا بحركة مجتمعية تقودها النساء (آخر مهرجانات دمشق للسينما كانت لجنته التحكيمية كلها من النساء). وأحدث ما يطالبن به أن تمنح المرأة السورية المتزوجة من غير سوري حق تجنيس أبنائها, مثل الرجل (ولِمَ لا?!), وكان حضور الندوة النسوية الساخنة قد استمعوا لشهادات حالات الكثيرات ممن يعانين هذه الأزمة, خاصة في المجتمع السوري المنفتح والذي لم يتصور أن انتماءه العروبي قد يخلق أزمات في البيت السوري.

تقترب الرحلة من نهايتها, وفي كل الأيام الدمشقية كنا نبحث عن الوسادة التي نامت عليها بعضٌ من أحلامنا الدمشقية, كنا نبحث عن بردى. وليتنا لم نجده! (فصورته كانت بائسة مثل واقع أليم), ليت الصورة بقيت فيروزية كما كتبها سعيد عقل عاشق دمشق, ولحنها محمد عبد الوهاب: مُرَّ بي يا واعدًا وعدا/ مِثلمَا النَّسْمَةُ مِنْ بَرَدى/ تحملُ العُمْرَ تبدِّدهُ/ آهِ ما أطيبهُ بَددا/ رُبَّ أرضٍ مِنْ شذيً ونديً/ وجراحاتٍ بقلبي عِدا/ واعِدِي لا كُنتَ مِنْ غضبٍ/ أعرفُ الحُبَ سنيً وهُدى/ الهوى لحظُ شآميةٍ رقَّ/ حتى خلتَهُ نفَدا نفدا/ هكذا السيفُ ألا انغمدتْ / ضربةٌ والسيفُ ما انغمدا/ واعِدي الشمسُ لنا كرةٌ/ إن يدٌ تتعب فنادي يدا/ أنا حُبِّي دمعةٌ هجرتْ/ إن تَعُدْ لي أشعلتْ بردى.

فمن يشعل اليوم بردى? ومن يجعل الأيام تتوهج من جديد? وهل يكفي الفن والموسيقى والشعر, لكي تستعيد الأيام الدمشقية نضارتها? أسئلة تبحث عن نفسها في قلب كل عاشق لدمشق, أو حالم بها.

 

أشرف أبواليزيد 





صورة الغلاف





 





وعندما سيمر أحدهم في حارة ضيقة مسقوفة بالبيوت المتعانقة, لتستقبله من فوق جدران بيتٍ من البيوتِ الشاميةِ رائحة زهر الليمون والياسمين والليلك





بائع الربابة بعد أن ترك الجبل





سوق الحميدية التاريخي بدمشق فضاء جمالي تمرح به العيون والفراغ, يمكننا من مراقبة خيوط الشمس وهي تتسلل من الأسقف, لتصل الأرض





البضائع التي تندر إلا في هذه الزوايا, والصنائع التي تنقرض إلا في هذه الأماكن, والبائع الذي ينكب على مهنته كصائغ النفائس





أشهر المقاهي التي يقصدها زائر دمشق; النوفرة, وتعني نافورة المياه, أو البحرة التي ميزت البيت العربي الدمشقي, وزينت قاعته, وربطت أرضه بسمائه





(اسم الله, اسم الله, يا زينة يا ورد جوه (داخل) الجنينة زهر القرنفل يا عروس والورد, خيم علينا) من أغنية شعبية شامية





تهمس لك العمارة بما يفصح عنه اللسان, تجاور وتآلف, والكل جيران





تهمس لك العمارة بما يفصح عنه اللسان, تجاور وتآلف, والكل جيران





عناوين الكتب ستدهشك, بين أهوال يوم القيامة, وعذاب النار, والسحر وكتابة الأحجبة, ولاستعانة بالخوارق على قضاء الحوائج





فنان على الطريق يستعرض مهارته في (الرسم الفوري), إنه صورة من المصور الجوال قبل قرن





تغمرنا سكينة وخشوع, حين نعبر ساحة الجامع الأموي إلى قلبه, ضمن طوفان من القادمين إليه ولكل مقصد





مصلون ومتبركون وداعون إلى الله وزائرون وعابرون, كلهم ضيوف الجامع الأموي





الفنان نذير نبعة في الدلتا من نهر تجلياته التشكيلية





الفنانان مصطفى علي (في مقدمة الصورة) وصفوان داحول وابتسامتان تشكيليتان





يحتضن البيت الدمشقي التقليدي كل آيات الفن, وهندسته تختزل العالم بمركزيته التي تجذب العائلة الدمشقية إلى قلبه





يحتضن البيت الدمشقي التقليدي كل آيات الفن, وهندسته تختزل العالم بمركزيته التي تجذب العائلة الدمشقية إلى قلبه





يحتضن البيت الدمشقي التقليدي كل آيات الفن, وهندسته تختزل العالم بمركزيته التي تجذب العائلة الدمشقية إلى قلبه





الشاعر الكبير محمد الماغوط





الروائي الكبير حنا مينه





في دمشق كثيرًا ما يبدو المشهد متناقضا, لكن بعض مفرداته القديمة تبدو مألوفة مثل حلم





هنا كانت البيوت تتكئ على أكتاف جيرانها من البيوت الأخرى, حميمية, وتكافل, وعناق للعمارة التقليدية في حارة دمشقية





ما بقي من نهر بردى.. ما بقي من الأحلام التي غنت يوما للرحباني وفيروز: لي فيك يابردى عهد أعيش به عمري ويسرقني من حبه العمر/عهد كآخر يوم في الخريف بكى وصاحباك عليه الريح والمطر/ هنا التربات من طين ومن طرب/ وأين في غير شام يطرب الحجر?





من النداءات التي خفت صوتها الصباحي في الحارة: أكيدنيا يا حلوة.. (للمشمش الهندي), أبيض من بياض الياسمين هالتين (هذا التين), روق دمك يا شامي (للتوت), حلو هالرمان يا ماوردي للمفطوم دوا يا حلو (الرمان الحلو كماء الورد دواء لمن يفطم)





دمشق غدًا: ابتسامتان