د. محمد أركون وجهاد فاضل

د. محمد أركون وجهاد فاضل

(مقدمة ابن خلدون)..
آخر كتاب فكري مبدع لدى العرب

  • الذهنية الثقافية التي لانزال نعتمد عليها ونورِّثها خاطئة
  • بعض العبارات تثير حساسيات عند كتابتها باللغة العربية
  • في الخصوصية العربية: كلام خيالي يوجه للخيال وليس كلامًا عقليًا - علميًا - محللاً - نقديًا

د. محمد أركون مفكر عربي مقيم في فرنسا منذ سنوات طويلة, حيث يعمل أستاذًا للفكر الإسلامي بجامعة السوربون. ومع أنه يحمل الجنسية الفرنسية, إلا أنه يحمل أيضًا, في قلبه وفي عقله, هموم الجزائر التي إليها ينسب بداية, كما يحمل هموم أمته العربية. وعلى مدى سنوات طويلة عُرف محمد أركون كأستاذ أكاديمي متميز, وكباحث متمكن في الإسلاميات. وقد اشتهر على الخصوص بدراسته الرائدة عن الأنسنة في القرن الرابع الهجري, كما تبدّت لدى التوحيدي ومسكويه, وفي مجتمع ذي ملامح إنسانية عقلانية. وتطلّ هذه الفكرة من جديد في فكره لا من خلال حواره الثاني مع (العربي) وحسب, بل وأيضًا من خلال حركة فكرية جديدة تضمه مع نخبة من المفكرين والمثقفين العرب, لـ (المؤسسة العربية للتحديث الفكري) التي عقدت مؤتمرها الأول في مدينة بيروت هذا العام وحمل اسم (الحداثة والحداثة العربية). فهو عضو مجلس إدارة هذه المؤسسة التي تطمح, كما يدلّ على ذلك اسمها, إلى تحديث الفكر العربي ونقل المجتمعات العربية من حال إلى حال.

يمكن تلخيص الحوار مع د.محمد أركون بأنه دعوة إلى العقل, أو إلى إعمال العقل في كل شأن من شئوننا, بلا استثناء. فإذا كان المتصوف الإسلامي الشهير عبدالقادر الجيلاني يقول: (نازعتُ الحق بالحق للحق), فإن أركون يقول: (العقل ينازع العقل بالعقل لإفادة العقل).

وهذه المطابقة هي المطابقة التأسيسية للموقف الأنسني الذي يعتني بالإنسان. وعنده أن مبحث الإنسان غاب كثيرًا في تراثنا, وآن لنا أن نعود إليه. وهذا المشكل, الذي ألمح إليه التوحيدي عندما قال: (الإنسان أشكل عليه الإنسان, ولابد للإنسان من أن يحلّ هذا المشكل, ولن يُحَلّ عندنا إلا إذا اعتنينا بالعقل).

في هذا الحوار يعرض د. محمد أركون لقضايا فكرية وثقافية في مجتمعاتنا العربية. يتحدث عن الهوية العربية والخصوصية العربية معتبرا أن أكثر ما يقال في هذا الموضوع ليس علميًا أو عقليًا أو نقديًا, بل هو كلام خيالي. ويتحدث عن ابن خلدون فيصفه بأنه المفكر العربي الأخير في تراثنا, الذي أنتج كتابا (هو المقدمة) يمكننا أن نصفه بأنه كتاب فكري مبدع, وعن المرأة, فيتفجع لغيابها عن الحياة في مجتمعاتنا وعن عدم الاعتراف بحقوقها, وعن تلك الجرثومة الخبيثة في أدمغتنا التي تحول بيننا وبين رؤية عصرية عقلانية ومستنيرة, تلحقنا من جديد بركب التطور العالمي. وعنده أن الأنسنة من إنتاج الحضارة والعمران, بلغة ابن خلدون, من إنتاج العقل الذي يتثقف بثقافة سواه لا بثقافته وحده. وهذا ما فعله المسلمون في القرن الرابع الهجري عندما درسوا نتاج العقل اليوناني واقتبسوا منه وانتفعوا به. وهو يقول بصراحة إنه لا يدعو إلى فصل الدين عن الدولة, بل إلى قراءة علمية للنصوص الدينية. يحاوره الكاتب اللبناني جهاد فاضل.

  • بداية الحوار تمثلت بسؤال التقدم والتخلف الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان ذات يوم على النحو التالي: لماذا تأخر المسلمون وتقدم سواهم?

- هذا السؤال كما تعلمون لايزال يُطرح في جميع مجتمعاتنا العربية منذ القرن التاسع عشر, وهو يتكرر. وقد قُدّمت حوله أجوبة كثيرة, ولكن الأسباب عميقة جدا لأنها تاريخية وبعيدة المدى.

بداية التخلف

أنا أُلحّ على أن الفكر العربي, والمجتمعات العربية, قد انقطعت عن التفكير والبحث منذ القرن الثالث عشر, على الأقل. هذه النقطة التاريخية لم ندرسها بعد. المؤرخون يُعرضون عن دراسة تلك الفترة الطويلة التي تمتدّ من القرن الثالث عشر إلى القرن التاسع عشر. مضت قرون ولا نجد من أنتج فكرا جديدا يشخّص ما الذي يحدث في جميع المجتمعات العربية, وفي الفكر العربي بصفة خاصة, منذ موت ابن خلدون سنة 1406.

ابن خلدون هو المفكر العربي الأخير الذي أنتج كتابا يمكننا أن نصفه بأنه كتاب فكري مبدع. كتاب فكري يشخّص فيه بعض الأسباب المتصلة بموضوعنا, وكان قد أدركها بتحليلاته في (المقدمة). مثلا عندما تكلم عن العصبية, حلّل المجتمعات تحليلا يكاد يكون في ذاك الوقت أنثروبولوجيًا. تحليل العصبية هو تحليل القوة العاملة المرتبطة بالنسب, أي بما ينتج جميع العلاقات الاجتماعية التي تكيّف المسيرة إلى السلطة وتكيّف أيضا ما نسمّيه المشروعية للسلطة.

هذا تحليل مهم جدا, وإلى يومنا هذا لم ننتبه إلى هذا البُعد الانثروبولوجي لتحليل القوة العاملة, والعاملة من داخل ومن تحت البنية التي نراها. (تحت) ما نصفه عندما نقول تحالفت هذه القبيلة مع تلك القبيلة.

وكذلك علم الانثروبولوجيا ألحّ على وضع المرأة في المجتمع, وهو وضع إلى يومنا هذا لايزال غير معترف بالمرأة كإنسان. وهذا أمر بشع. ونشاهد اليوم مواقف شرعية فيما يخصّ وضع المرأة هذا في المجتمع. هذه المواقف تقول إن الشرع قضي بأن تبقى المرأة على وضعها الحالي.

ونحن لا نحتاج إلى أن نلحّ على أن دور المرأة هو الذي يكوّن مستقبل المجتمع. أليست هي التي تعتني بأولادها منذ ولادتهم حتى يشبّوا عن الطوق ويستقلوا لاحقا? تربية الأولاد تقع على المرأة أكثر مما تقع على سواها. ولكن إلى اليوم لم تعترف مجتمعاتنا بحقوقها, وبالتالي حُرمت هذه المجتمعات من قدراتها ومؤهلاتها الكثيرة.

ذهنية خاطئة

هذه الأمور التي تبدو بسيطة, لها شأن كبير في إبقاء مجتمعاتنا متخلفة عن مستوى التقدم التاريخي. إن الذهنية الثقافية التي لانزال نعتمد عليها ونورثها لأبنائنا, ذهنية خاطئة, من قديم الزمان, ولكن بدلاً من أن نتفاعل مع التغيرات التي حصلت في المجتمعات الأوربية ابتداءً من القرون التي عُرفت فيها الحداثة, بقينا نحن بعيدين عن مثل هذا التطور, وكأن هذه الأحداث الفكرية لم تحدث أصلاً في الأرض. نحن نعيش بقرب هذه المجتمعات الأوربية ويُفترض أن نتفاعل معها. نحن العرب ننتمي مع الأوربيين إلى فضاء واحد هو فضاء البحر الأبيض المتوسط.

مثل هذه المعطيات التاريخية والإنثروبولوجية التي عرفتها أوربا يجب أن ندرسها ونمعن النظر فيها من أجل تغيير بنياتنا الاجتماعية, وتغيير القوى العاملة من الداخل التي تكوّن البنية التحتية. إن البنية السطحية, كما نقول في التلحيل البنيوي, لا يمكنها أن تغيّر ما يحدث في السطح.

نحن نريد من خلال مؤتمر (المؤسسة العربية للتحديث الفكري, الذي عقدناه في بيروت, تحديث الفكر في المجتمعات العربية. ولكننا سمعنا في هذا المؤتمر الكثير مما قيل مرارًا في السابق. أنا بالذات تذكرت ما سمعتُهُ وأنا طالب شاب في الجزائر, في أواخر الخمسينيات, خلال حرب التحرير الجزائرية. لقد دأبنا على التكرار ولم نُضف شيئا يُذكر.

ولذلك, لم أطلب الكلام في جلسات المؤتمر, لأني كنت حزينا. أحسستُ بحزن عميق في ذاكرتي وعمري. وقلت لنفسي: حول ماذا تتكلم? هل تكرر ما قتله أو سمعته وأنت شاب طالب في الجزائر وباريس? هذا ما يحدث الآن مع الأسف.

  • ولكن أين تقع بنظركم الجرثومة الأصلية لمثل هذا التخلف المريع الذي تعانيه مجتمعاتنا بوعي منها أو بلا وعي? ما الذي يجعل مدينة في الجنوب الإسباني محاذية للشاطئ المغربي, أكثر قربًا إلى مدينة في تشيكيا أو في لاتفيا, منها إلى مدينة مغربية محاذية لها ولا تبعد عنها سوى أميال قليلة?

- هذا أمر يرجع إلى الثقافات والمدنية. هناك الآن من يدرس الثقافات انطلاقًا من مثل السؤال الذي تطرح. ما الجراثيم التي لم نكتشفها بعد, والتي تعمل في رؤوسنا وفي تكوين ذهنيتنا ولم نكتشفها, أو أننا قد اكتشفناها, ولكننا لا نريد أن نعترف بأنها هي الأصل في الأوضاع التي نعيشها ونعاني منها?

لقد ألححتُ في بحوثي على ضرورة نقد طريقة تفكير العقل الديني من أجل أن نكتشف هذه الجراثيم العاملة في أدمغتنا وفي منظومتنا العصبية. المعرفة تُنسخ باللغة, عن طريق اللغة, وفي النظام العصبي. هذا أمر قرّره العلم. الذين يدرسون الدماغ اليوم, كما يدرسون منظومته العصبية على الخصوص, يكتشفون أنه عن طريق اللغة تترسخ المعلومات والقيم الثقافية والأخلاقية. وبعدما تترسخ هذه المعلومات والقيم, يُفترض بنا أن نغيّر تلك اللغة, حتى نكتب في أدمغتنا, إذا صح التعبير, كتابة أخرى مختلفة.

لذلك, ألححت دومًا على ضرورة التحليل النقدي لاستعمالنا للعقل.

إن العقل واحد لجميع البشر. هو موهبة موزعة على الجميع. المهم كيف يستعمل العقل طرق الاستنباطات, والتحليلات, لإنتاج المعرفة ولمراقبة تلك المعرفة التي ينتجها العقل, من أجل أن نصحّح وأن نتيقّن أنها معرفة صالحة, مطابقة للواقع أو غير مطابقة. فإذا لم تكن مطابقة للواقع, فعلينا أن نبتعد عنها, وأن نغيّر كيفية استعمال العقل. ولكن علينا باستمرار أن نسلّط العقل على جميع ما يجب أن نسلّطه عليه كي نتعرف على الواقع, وكي نلتزم به في مسيرتنا وفيما ننتجه في مجتمعاتنا.

لقد تنبهت دائمًا إلى كل ذلك وألححت عليه. ولكني واجهت في سبيله صعوبات.

لم أتمكن في البداية من أن أعبّر بالعربية عما يمكن قوله ببساطة باللغة الفرنسية.

على سبيل المثال كانت عبارة (نقد العقل الإسلامي) بالعربية عبارة صعبة, ولكن قول مثل هذه العبارة بالأجنبية لا يثير حساسية أحد. وعندما تُرجم كتابي الأول إلى العربية ناقشت كل ذلك مع مطاع صفدي الذي نشر الكتاب. قال لي مطاع يومها: إن من غير الممكن استعمال مثل هذه العبارة باللغة العربية للأسباب التي تعلم!

الجرثومة الحية!

إذا انتبهنا إلى هذه الملاحظة, اكتشفنا ما نسمّيه بالجرثومة. إن الجرثومة لاتزال تعيش. وقد قويت في مرحلة تاريخية معينة هي مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي. وقد شهدت هذه المرحلة بنفسي في بلدي الجزائر. والجرثومة ظلت تعمل حتى بعد أن حصلت أقطارنا على استقلالها. وهنا الطامة الكبرى.

أنا أدعو إلى الاهتمام بكل ذلك بالدرجة الأولى, بواسطة البحث العلمي, ولكن على السلطة السياسية العربية أن تعترف بضرورة حصول هذه العملية التشخيصية التي على المؤرخ أن يضطلع بها بداية. نبدأ بالتاريخ, وعلى علماء اللسانيات أن يتدخلوا أيضا, لأن اللسانيات مهمة جدا في تحليل النفسية, وفي تحليل الثقافة وفي تحليل كل شيء: ما ننطق به وما نعيشه. إن الوسائل الفكرية والثقافية التي نعيشها متعلقة بالبحوث. ثم سياسة تتعلق باللغة, ولكن هذه السياسة يجب أن تكون مبنية على علم, لا على تلك الديماجوجية التي عرفناها في بلادنا العربية على مدى خمسين عامًا. نحن الآن نشكو من فقر اللغة, من عدم توافر الاصطلاحات التي لابد من استعمالها لتدريس العلوم المعاصرة كما ينتجها الباحثون.

  • وهل اللغة العربية لغة مانعة من ذلك?

- لا, أبدًا. ما يمنع هو الأيديولوجيا السياسية القائلة إن علينا أن نعرّب جميع العلوم الدقيقة, وعلوم الإنسان والمجتمع, دون أن ننتبه إلى أن هذه العلوم لها تاريخ, وقد تكوّنت بالغرب, باللغات الغربية. وهذا ما نسمّيه الحداثة. الحداثة هي الصيرورة التاريخية للفكر, للثقافات وللعلوم جميعًا: العلوم الدقيقة وغيرها.إن تدريس البحوث وتدريس علوم الإنسان والمجتمع في جامعاتنا, وإلى يومنا هذا, ضعيف جدا. لم يبلغ هذا التدريس ذاك المستوى من تدريس العلم الإنثروبولوجي, علم اللسانيات, إلى حد يمكّننا من أن نعيد النظر والتقييم لما نسمّيه التراث.

كثيرًا ما نسمع أو نقرأ أشياء عن التراث ينكرها العقل, ومع ذلك يقال هذا في جلسات علمية مع مثقفين, وفي مؤتمرات تُعقد لتحديث الفكر العربي. هذا واقع.

  • وهل يمكن أن تصلوا وأنتم تشخّصون الواقع العربي إلى تلك الوصفة التي اهتدى إليها الأوربيون في بداية نهضتهم الحديثة? وهي العلمانية, أو فصل الدين عن الدولة?

- لا, لا أقول (فصل) أبدًا. القضية لا تتعلق بفصل الدين عن الدولة, القضية تتعلق بالقراءة العلمية للنصوص الدينية. لي كتاب - مثلاً - عن القرآن عنوانه (القرآن من التفسير الموروث). الموروث من القرون الوسطى. ما مستوى الدراسات اللغوية في القرون الوسطى? إذا قارنّا ذاك المستوى بمستوانا المعاصر الذي نجده في جميع الجامعات, بأوربا وبأمريكا, وبالأمم التي عاشت الحداثة كصيرورة تاريخية, وليس كتعريف, نجد الفرق شاسعًا. فالحداثة ممارسة تاريخية يمارسها كل أحد يشارك في مجتمع من المجتمعات, في المجتمعات المتفاعلة, في إنتاج المجتمع.

قراءة راهنة

حدث أخيرًا حادث مهم هو انضمام عشر دول أوربية من شرق أوربا إلى الاتحاد الأوربي. انظر إلى ما يدور في أوربا اليوم وإلى ما يدور في مجتمعاتنا بالمقابل, وانظر إلى حديثنا على ماذا يدور. الاتحاد الأوربي توسع البارحة إلى عشر دول أخرى انتمت إلى الاتحاد الأوربي. هذا حدث تاريخي يهمّ جميع المجتمعات في العالم, لأن أوربا تقتطع مرحلة تاريخية جديدة, وهي مرحلة الانتقال من الدولة/الأمة, التي نعرف أنها مرحلة تاريخية خاصة, إلى مرحلة فضاء المواطنة الأوربية على مستوى أوربا كجغرافيا. وهذا أمر في منتهى الأهمية وله نتائج كثيرة.

ننظر إلى هذه الأحداث, وننظر إلى بلدان المغرب العربي - على سبيل المثال - نأخذ دولة واحدة, واحدة فقط, لنتعرف إلى طبيعة العلاقات القائمة بينها, منذ الاستقلال إلى اليوم. هذه العلاقات كأنها غير موجودة, العلاقات اليومية الاقتصادية, وحتى الثقافية, لهذه الدول, هي مع أوربا, لا مع بعضها البعض.

وهنا في المشرق ليس الحال أفضل, فمازالت المأساة التي نعيشها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على حالها. ولا ننسى المآسي المتتابعة منذ كارثة 1967. والآن تزداد المآسي.

الحداثة...

  • ولكن جوهر ما تدعو إليه هل هو الحداثة أو التقدم? بنظر البعض, الحداثة كما يجري الحديث عنها أو تداولها محليا عندنا, هي حداثة الآخرين لا حداثتنا نحن. إنها إفراز تاريخي واجتماعي لبلدان أخرى وعليها ملامح تلك البلدان ومراحل تطورها. ومن التعسّف بالتأكيد استيراد هذه الحداثة بقضّها وقضيضها كما تُستورد البضائع. واستنادا إلى ذلك علينا أن نترك التطور يفعل فعله, وأن نتدرج في التقدم ولا نحرق المراحل.

- الحداثة كما أفهمها هي صيرورة تاريخية, والصيرورة التاريخية تُنتج من الداخل, من داخل المجتمع, ليست القضية قضية استيراد. انظر - مثلاً - عندما نترجم أحد المصطلحات من الفرنسية إلى العربية. يبقى هذا المصطلح معلقا في فراغ مفهومي. هذا المفهوم يجب أن يُنتج من داخل, ولكن هذا الداخل أصبح فقيرًا جدًا, ولابد من أن يبحث عمّا أتى به العقل البشري في أماكن أخرى. والأماكن الأخرى هي أوربا, أوربا فيما يتعلق بتسيير التاريخ, إنتاج التاريخ. أوربا سبقت جميع الثقافات الموجودة في أرضنا. طبعًا هناك ثقافات أخرى, هناك ثقافة صينية مهمة جدا, هناك ثقافة هندية, بل ثقافات هندية مهمة جدا من حيث قيمها الثقافية والأخلاقية والفنية وكل شيء. لكن هذه الثقافات يعوزها الموقف العلمي, المنتج للعلم, وهذا هو ما نسمّيه التحديث. التحديث يعني أن نخرج من التصورات القديمة لما نسمّيه الثقافة.

من التصوّرات القديمة ما نسمّيه الأخلاق, القيم الأخلاقية, لأن القيم الأخلاقية خاضعة للتاريخ, خاضعة للتطور التاريخي, ولتغيير موقف العقل إزاء ما نسمّيه في كل ثقافة هذه شخصيتنا, هذه خصوصيتنا, هذه قيمنا.

في الغرب انتبه الفيلسوف نيتشه إلى هذا الموضوع الكبير: القيم, وخصص كتبه جميعا لما سمّاه علم النسب مطبقًا على تاريخ القيم. رجع إلى العهد اليوناني الفلسفي, وإلى بداية المسيحية ليؤرخ لتكوين ما يُسمّى في المجتمعات الأوربية القيم.

أين نجد كتابا عندنا بهذا الخصوص? (المقدمة) ما أشارت إلى هذا. أخذت (المقدمة) القيم الدينية الإسلامية كما هي, كما كانت في ذلك الوقت. وأنا عندما دعوت إلى نقد العقل الإسلامي, أردت أن أفتح مجالات كهذه, لا يمكننا أن نتكلم عن الهوية العربية, عن الخصوصية العربية, كما نتكلم عادة, وكلامنا كلام خيالي يُوجّه للخيال, وليس بكلام عقلي, علمي, محلّل, نقدي.

لندرك - مثلاً - أن ما نسمّيه القيم مرتبط بما سمّاه ابن خلدون العصبية. النظام العصبي للمجتمع الذي يفرض النظام السياسي لما نسمّيه الدولة, هما اللذان يكيّفان ما هو فضيلة وما هو رذيلة.

  • ما دمنا نتكلم عن ابن خلدون, أحب أن أعرف رأيكم في مسألة خلافية بصدد ما كتبه عن العرب, تلك الكتابة السلبية. فهل قصد ابن خلدون فيما كتبه (العرب) أم (الأعراب)?

- لا. قصد (الأعراب) لا العرب. ما يُسمّى بالأعراب في القرآن الكريم. الأعراب أشدّ كفرًا ونفاقًا . هذا نزاع أنثروبولوجي. وهذا النزاع الأنثروبولوجي نجده في القرآن في سورة التوبة. في سورة التوبة نجد نزاعًا حادّا بين القيم الإسلامية النابتة في ذاك الوقت, ونبتت في بيئة مدنية فيما سمّاه ابن خلدون الحضارة والعمران. وابن خلدون ميّز بين العمران والإنتاج العمراني للمجتمعات, وما نسمّيه اليوم (حضارة الصحراء) هي حضارة أيضًا, ولكن بقيمها الخاصة, بقواها الخاصة لإنتاج مثل هذه الحضارة التي تتكيّف بجغرافية الصحراء التي تختلف عن جغرافية بلدان الشمال حيث الأمطار والأرض الخصبة وما إلى ذلك. هذا تحليل.

  • بعض الباحثين يتهمون (الحلم العربي) كما عبّرت عنه نُخب كثيرة بأنه حلم قوة لا حلم حداثة بالمعنى الذي نتحدث عنه.

- هذا صحيح, صحيح للأسباب التي ذكرناها, لأنه مبني على العصبية إلى يومنا هذا. لا نسمّيها اليوم العصبية كما كان ابن خلدون يسمّيها لأنها كانت ظاهرة مكشوفة يراها كل أحد. وكان علم النسب يعتني به كل عالم, لأن جميع العلاقات الاجتماعية مبنية على النسب, والقوة السياسية مبنية على النسب, وعندما أخذ معاوية السلطة بدمشق, أخذها بقوانين العصبية وقوة العصبية. لم يأخذها باسم القرآن.

  • من أبرز الأفكار التي قرأتها لكم وبقيت إلى اليوم في ذهني فكرة الأنسنة التي لحظتموها في القرن الرابع الهجري لدى مسكويه والتوحيدي وسواهما. كان ذاك القرن متميزا بأفكار إنسانية أشعت في ظواهر وفي كتابات. ولكن هل خلت القرون الإسلامية السابقة أو اللاحقة من مثل هذه النزعة الإنسانية?

- طبعًا. الأنسنة من إنتاج الحضارة, من إنتاج العمران إذا أخذنا الاصطلاح الخلدوني. من إنتاج العقل الذي يتثقّف لا بثقافته فقط, بل بثقافة سواه أيضًا, لماذا وجدنا هذا التيار برز وانتشر في القرن الرابع الهجري? لأن المسلمين وغير المسلمين الذين كانوا يعيشون في المدينة الإسلامية, في الحضارة الإسلامية العربية (العربية بمعنى اللغة, لأن الناس كانوا يستعملون اللغة العربية), قبلوا أن يقتبسوا من التراث اليوناني, لقد رحّبوا بهذا التراث اليوناني, ودرسوه ودرّسوه, واستفادوا منه.

لذا أشرت إلى (اللوغوس) و(الميثوس) في بعض ما كتبت أخيرًا, أشرت إلى مصادر التفكير الفلسفي, لأن التفكير الفلسفي مخصص لتربية العقل البشري على التساؤل عمّا يفعل العقل بالعقل.

قال عبدالقادر الجيلاني المتصوّف الشهير جملة رائعة: (نازعتُ الحق بالحق للحق). هذا جميل جدًا, جملة صوفية. الفكر الصوفي يتعمّق في تحليل الذات متصلاً بالإله, بالله. ولكن ليس بالمعنى الذي يقدمه الفقهاء والمتكلمون عادة, إنها طريقة مختلفة تمامًا, لأن الفقهاء والمتكلمين يربطون الله بأمور سياسية. أما الخبرة الصوفية فتعتني بالنفس التي تنبسط وتنقبض, كما يقولون.

وأنا أقول استئناسًا بكلمة الجيلاني: العقل ينازع العقل بالعقل لإفادة العقل! هذه المطابقة هي المطابقة التأسيسية للموقف الإنسني الذي يعتني بالإنسان. هذا ما أودّ أن يمعن المثقفون العرب النظر فيه. الفكرة الأولى لصوفي هو عبدالقادر الجيلاني في (الغنية), والأخرى من صيغتي أنا, حسب تجربتي للعقل والعقل الذي أدعو إليه حتى يعتمد عليه العرب ويتبنّوه لنخرج من هذه المآزق التاريخية التي وضعنا فيها أنفسنا بأنفسنا.

كثيرًا ما غاب مبحث الإنسان في تراثنا. لقد أغفلنا الإنسان وانقطعنا عن الاهتمام به. لاحظ أبو حيان التوحيدي ذلك فقال: الإنسان أشكل عليه الإنسان, فلابد للإنسان أن يحلّ هذا المشكل.

هذا المشكل لن يُحلّ إلا إذا اعتنينا بالعقل, وعندما نعتني بالعقل ندافع عن حقوقه وهي حقوق تختلف عن حقوق الإنسان كمواطن, لأن حقوق العقل بمنزلة حقوق النفس عند الصوفي, وحقوق النفس هي حقوق الإنسان.