عاشق دمشق يتجول في الأندلس سلمى الحفار الكزبري

عاشق دمشق يتجول في الأندلس

هذه صفحات من الذكريات جمعت بين الشاعر نزار الذي كان يعمل مستشارًا في السفارة السورية في مدريد وكاتبة المقال.

وُلد نزار قباني في دمشق ببيت عربي الطراز في 21 / 3 / 1923 يقع في حيّ: (مئذنة الشحم) القريب من حيّ الشاغور. وُلدت أنا قبله بعام وبضعة شهور.

تغنى نزار ببيت أسرته في قصائده, وبدمشق التي حملها بين ضلوعه بعدما غاب عنها للعمل في السلك الدبلوماسي, ولما شببت قرأت دواوين شعره وأعجبت بها قبل التعرّف إليه شخصيّا في مدريد عامي 1962و1963 عندما كان زوجي الدكتور نادر الكزبري سفيرًا لسورية في إسبانيا, وأتى إليها نزار للعمل مستشارًا معه في تلك السفارة. كان والد نزار عضوًا في الكتلة الوطنية التي كان والدي لطفي الحفار أحد مؤسسيها ومقاوما للانتداب الفرنسي مثله, فسُجن كلاهما بسبب تلك المقاومة عندما كنا - هو وأنا - طفلين, فكتب نزار في ذكريات طفولته ما يلي:

(....وفي بيتنا بدمشق في حيّ (مئذنة الشحم) كانت تُعقد الاجتماعات السياسية ضمن أبواب مغلقة وتوضع الخطط للإضرابات والمظاهرات ووسائل المقاومة, وكنا, من وراء الأبواب, نسترق الهمسات ولا نكاد نفهم شيئًا, لم تكن مخيلتي الصغيرة قادرة على وعي الأشياء بوضوح ولكنني حين رأيت عسكر السنغال يدخلون منزلنا في ساعات الفجر الأولى بالبنادق والحراب, ويأخذون أبي معهم في سيارة مصفّحة إلى المعتقل الصحراوي, عرفت أن أبي كان يمتهن عملاً آخر غير صناعة الحلويات... كان يمتهن صناعة الحرية).

فذكّرني ما رواه بطفولتي بيوم صحوت فيه مذعورة على ضجة ببيتنا في 13/6/1925 ورأيت عساكر السنغال يدخلونه ويأخذون أبي معهم بسيارة مصفّحة إلى المنفى في قرية (الحجة) الصحراوية بشمال سورية حيث قضى فيها مع زميليه فارس الخوري وحسني البرازي أشهر الصيف اللاهب قبل نقلهم إلى بلدة (أميون) في منطقة الكورة بشمال لبنان ونفيهم فيها, مع الفارق بأن الفرنسيين سمحوا لعائلاتهم باللحاق بهم فصحبتني أمي معها وقضيت زهاء عامين بالمنفى في لبنان, إلى أن تم الإفراج عنهم وعن رفاق لهم نُفوا بعدهم في شهر فبراير عام 1928.

كان نزار يحلم بأن يصبح جزءا من تاريخ دمشق, وعبّر عن ذلك الحلم في قصيدة عنوانها: (دمشق نزار قباني). نشرها في كتاب صدر عن دار الأهالي بدمشق عام 1995 مرفقًا بصورة فوتوغرافية لبيت أسرته التقطها أخوه الفنان صباح قباني جاء فيها ما يلي:

(وبعدُ....وبعْد

فبصدور هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: (دمشق نزار قباني).

أَشْعُرُ أن حُلُمًا قديمًا من أحلامي قد تحققْ

وهو أن أصبحَ ذات يومٍ جزءًا من تاريخِ دمشق

قطعة فسيفساءٍ على جدران الجامع الأمويّ,

خاتمًا مشغولاً بالفيروز في (سوق الصاغة)

صفصافة تغسِلُ ضفائِرها بمياهِ (عين الفيجة))

ذكر نزار (عين الفيجة) الذي جُرّت مياهه من قرية (الفيجة) التي تبعد عشرين كيلومترًا عن العاصمة بأنابيب عبر الجبال فروت دور دمشق ومرافقها وأنقذت سكانها من شرب مياه نهر بردى الملوثة بفضل نجاح والدي وأعضاء غرفة التجارة وبلدية دمشق في تحقيق هذا المشروع الحيوي عام 1932 بعد انتزاعه من الشركات الأجنبية الطامعة باستثماره, وجعل المياه النقية التي مُدت إلى البيوت ملكًا لسكانها.

كانت دمشق مزروعة في قلب نزار فتغنّى بها في قصيدة عنوانها (دمشق...مهرجان الماء والياسمين) هذا مطلعها:

(لا أستطيعُ أن أكتُبَ عن دمشق دون أن يُعَّرِشَ الياسمينُ على أصابعي

ولا أستطيعُ أن أنطق اسمها دون أن يكْتَظَّ فمي بعصير المشمشِ, والرمانِ, والتوت والسَّفرْجلْ

ولا أستطيعُ أن أتذكَّرها دون أن تَحُطَّ على جدارِ ذاكرتي ألْفُ حمامةٍ...وتطير ألفُ حمامةْ...)

بداية الجولة

قبل وصول نزار إلى مدريد للالتحاق بعمله في السفارة السورية كتب إلى زوجي نادر رسالة لمعرفته السابقة به, عندما تتلمذ عليه في كلية الحقوق بجامعة دمشق, حيث كان يدرّس الحقوق الجزائية فيها قديمًا قبل التحاقه بوزارة الخارجية, فعبّر له عن سعادته بالعمل معه, وختمها بالعبارات التالية:

(تحياتي إلى أديبتنا وسفيرتنا العزيزة السيدة سلمى, وأرجو ألا يزعجكم يا أخي نادر بك أن نجعل من السفارة مجلسًا للأدب والشعر, فوجود الأدب في السفارة السورية امتياز لها, وغصنٌ أخضر يوضع في أوانيها).

بعدما وصل إلى مدريد, رحّبنا به كثيرًا واعتبرناه فردًا من أفراد أسرتنا لنواصل الودّ القديم بين أسرته وبيننا, فاستأجر بيتًا لإقامته فيها, ونقل أثاثه ومكتبته إليه وزيّنه بلوحات جميلة, وبعد حوالي شهر دعانا للعشاء فيه فاكتشفنا أنه طبّاخ ماهر, ومولع بالموسيقى الكلاسيكية الغربية والعربية الأصيلة, كما أصبح رفيقنا على مائدتنا في أكثر الأوقات, ورفيقنا في النزهات وزيارة المعارض, وحضور المسرحيات. لقد كان نزار (بيتوتيًا) منذ صغره إذ كتب يقول عن البيت الذي نشأ فيه:

(هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري, وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق, كما يفعل الصبية في كلّ الحارات, من هنا نشأ عندي هذا الحسّ (البيتوتي) الذي رافقني في كل مراحل حياتي).

لقد كانت أيامنا معه في إسبانيا مترعة بالنشاط الاجتماعي والأدبي, فأهدى إلينا نسخة من ديوان شعر له, صدر عام 1961بعنوان: (حبيبتي) لم نكن اطلعنا عليه سابقًا, وسجّل على صفحته الأولى عبارة الإهداء التالية الممهورة بتوقيعه:

(إلى أخي نادر وأختي سلمى القلبين الكبيرين اللذين جعلا إقامتي بمدريد قطعة سكر).

في ربيع عام 1963 قمنا برحلة ممتعة معه إلى الأندلس بدأت في قرطبة تلبيةً لدعوة الحكومة الإسبانية ومحافظ المدينة صديق العرب (الدون أنطونيو جوثمان ريْنا) احتفالاً بمرور ألف سنة على وفاة العالم والشاعر والفقيه: علي بن أحمد بن حزم الأندلسي, وتشييد تمثال له أمام البيت الذي كان يقيم فيه. غادرنا مدريد إلى قرطبة بالسيارة في 11/5/1963 وبلغناها ظهرًا فتوجّهنا إلى فندق (الرصافة), الذي كان محجوزًا للمدعوين لذلك المهرجان من سفراء عرب معتمدين بإسبانيا, وكتاب وشعراء ومؤرّخين, من سورية ومصر والمغرب وإسبانيا بينهم أساتذة من جامعات مدريد وبرشلونة وغرناطة وسلمنقة, والدكتور بيدرو مارتينيث مونتافيث الأستاذ المستعرب في جامعة مدريد, والدكتور حسين مؤنس مدير المعهد الثقافي العربي فيها.

استمرّ المهرجان ستة أيام من 12/5 حتى 18/5/1963 جرى افتتاحه في (نادي الثقافة) بالمدينة بعد الاحتفال بكشف الستارة عن تمثال ابن حزم في المدينة العربية القديمة, فكانت الندوات تنعقد يوميًا قبل الغداء وتليها أمسيات شعرية, استمعنا في خلالها إلى الشعراء الأندلسيين الذين كانوا يعبرون في قصائدهم عن فخرهم بمنبتهم الأندلسي وعرقهم العربي, وألقى نزار ثلاث قصائد مستوحاة من إسبانيا والأندلس ودمشق, قوبلت بتصفيق حادّ, ثم قرأ ترجمتها إلى اللغة الإسبانية الدكتور (بيدرو مارتينيث مونتافيث) الذي نقل, فيما بعد, مجموعة من أشعار نزار إلى اللغة الإسبانية ونشرها بمدريد في كتاب بعنوان: (قصائد حبّ عربية لنزار قباني) صدر عام 1965.

ذكريات قرطبة

خصّصنا أوقات الفراغ لزيارة معالم قرطبة بدْءًا بجامعها الكبير, الذي كان مسجدًا واسعًا للصلاة ولتدريس اللغة والعلوم, بُني بعد الفتح العربي في مكانٍ بوسط المدينة كانت فيه كنيسة صغيرة بعد اتفاق الأمير عبدالرحمن الداخل مع السكان الأصليين لنقلها إلى مكانٍ آخر, وقد تعاقب على توسيعه وتزيينه الأمراء الأمويون هشام الأول بن عبدالرحمن وابنه (الحكم) الأول, ومن ثم الخليفة عبدالرحمن الثالث الملقّب بالناصر, فأضحى ذلك أكبر مسجد في العالم الإسلامي آنذاك تمثل فيه الفن العربي والهندسة المعمارية الأندلسية في تصميمه وزخرفة محرابه وأعمدته الداخلية ومداخله المتعددة وصحنه الخارجي, بالإضافة إلى مئذنته الأخيرة الأنيقة التي بناها الخليفة عبدالرحمن الثالث عام 951م. ذات يوم ذهبنا لزيارة (مدينة الزهراء) التي لم يبق منها سوى الأطلال, ولكن الدولة الإسبانية شرعت بترميمها بمساعدة الأونيسكو منذ سنوات عدة وجمع آثارها المبعثرة, وتجوّلنا في حارات قرطبة ودورها المفتوحة للسياح, المبنيّة على غرار بيوت دمشق القديمة التي تتضمن باحة داخلية واسعة تتوسطها برك ماء, وتسوّرها أحواض مغروسة بالشمشير والياسمين والريحان, والمؤلفة من دورين يطلاّن على صحنها الداخلي.

لقد تذكّرنا مع نزار شاعر قرطبة ابن زيدون وحبيبته الأميرة ولادة بنت المستكفي, آخر خلفاء بني أمية, وصالونها الأدبي وبعضًا من أشعارها القليلة التي وصلت إلينا, في حين أن ديوان ابن زيدون المعبّرة قصائده عن حبّه لها ولقرطبة قد سلم وأضحى مرجعًا من أمتع مراجع الشعر الأندلسي, واستعدنا ما حفظناه من قصيدة ابن زيدون الشهيرة التي أنشدها بعدما غادر قرطبة واستهلها بهذا البيت:

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ونابَ عن طيب لُقيانا تجافينا


فلقد وصف فيها شوقه للحبيبة التي كان يخاطبها بصيغة الجمع حينًا, وبصيغة المذكّر أحيانًا أخرى احترامًا لمكانتها.

إنني أذكر جيدًا آخر أمسية شعرية طلب مني محافظ قرطبة في خلالها أن ألقي قصيدة كتبتها باللغة الإسبانية عن رقص وغناء (الفلامنكو) وأهديتها للفنانة المعروفة الأندلسية: (ماريا البايسين) فاستجبت لطلبه, ولما أنشدتها صعد الكاتب الكبير (الدون ألفونسو دي لاسيرنا) مدير العلاقات الثقافية بوزارة الخارجية بمدريد, وقرأ ترجمتها للإسبانية, بقلم الكاتب الإسباني رئيس تحرير جريدة A.B.C, ثم طلب مني مجدّدًا إلقاء قصيدة ثانية عن دمشق وصفت فيها حنيني إليها, بعد فراقها بسبب عمل زوجي في السلك الدبلوماسي نقلتها من اللغة الفرنسية إلى الإسبانية الشاعرة والكاتبة السيدة (فينا دي كالديرون) فاستجبت لطلبه وقرأ هو الترجمة لها بلغة سيرفانتيس.

سبق لنزار أن زار الأندلس زيارة سريعة عام 1955, فأوحت إليه قرطبة قصيدة جميلة عبّر فيها عن حنينه لدمشق التي تمثلها فيها للشبه الكبير بين حارات كلتيهما الضيقة ودورهما العربية الطراز, ولما ذكّرته بها يوم كنا نسهر مع زملائنا المدعوين على شرفة فندق الرصافة وطلبت منه تلاوتها, استجاب لطلبي وألقى منها المقطع التالي:

في أزقة قرطبة الضيقة
مددت يدي إلى جيبي أكثر من مرةٍ
لأُخرج مفتاح بيتنا في دمشق...
أحواض الشمشير والليلك والقرطاسيا
البركة الوسطى, عين الدار الزرقا,
الياسمين الزاحف على أكتاف المخادع
وعلى أكتافنا
كل هذه الدنيا المطيبة التي احتضنت طفولتي
وجدتها هنا!

لقد أوحت زيارة الأندلس الثانية له معنا قصائد من أجمل قصائده كانت وليدة تأثّره العميق بما شاهد في حواضرها من آثار ازدهارالحضارة العربية فيها, وأنشد لنا القصيدة التالية التي جعل عنوانها: (أحزان في الأندلس):

كَتبْتِ لي يا غاليةْ
كَتبتِ تسألينَ عن إسبانيّةْ
عن طارقٍ يفتحُ باسم الله دُنيا ثانيةْ
عن عُقْبة بِنْ نافعٍ
يزرَعُ شَتْلَ نَخْلَةٍ
في قلبِ كلِّ رابية
سألتِ عن أميّةٍ
سألتٍ عن معاويةْ
عن السّرايا الزاهيةْ
تحمل من دمشق...في ركابِها
حضارةً...وعافيةْ

ولما كان شاهد في مدريد معنا ثم في قرطبة, رقص الفلامنكو والغناء الذي يرافقه الشبيه جدًا بالمواويل العربية القديمة وصفه في القصيدة ذاتها. بهذا المقطع:

فلامنكو....فلامنكو...
وتستيقظ الحانة الغافيةْ
على قهقهات صنوج الخشبْ
وبحّةِ صوتٍ حزينٍ
يسيل كنافورةٍ من ذهبْ,
وأجْلسُ في زاويةْ
ألُمُّ دموعي...
ألُمُّ بقايا العَربْ....

التعالي على الحزن

كان نزار يخفي حزنه الكبير لفجيعته بوفاة ابنه الوحيد توفيق بحادث سيارة وهو في ربيعه العشرين, فكنا نلحظ الحزن في عينيه, لاسيما عندما يرى الشبّان, وفي الثامن عشر من شهر مارس الذي كان يوم سبت توجهنا معه إلى غرناطة لقضاء يومين فيها, وأقمنا بفندق مجاور لقصر الحمراء فزرناه معًا.

وقضينا فيه ثلاث ساعات نتجوّل في قاعاته المزخرفة والباحات الفاصلة بينها, وحماماته وحدائقه الغنّاء, وعندما وصلنا إلى (جنات العريف) التابعة له وقت الغروب, ساد الصمت علينا فتركنا نزارًا فيها, وعدنا إلى الفندق عازمين على العودة إلى القصر في اليوم التالي إذ يستحيل على السائح الإلمام بروعته في زيارة واحدة. لقد غاب عنا نزار تلك الليلة, وفي صباح اليوم التالي التقينا به صباحًا في حديقة الفندق, فكنا أول من سمع قصيدته الوليدة من وحي ذلك القصر (المدينة) بمنشآته كلّها التي استهلّها مُنشدًا:

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيبَ اللُّقيا بلا ميعادِ
عينان سَوْداوانِ في حَجْريهما تتولَّدُ الأبعادُ من أبعادِ
(هَلْ أنْتِ إسبانيةٌ?) سأَلْتُها قالت: (وفي غرناطةٍ ميلادي)
غرناطةٌ وصحت قرونٌ سَبْعةٌ في تَيْنِكَ العَيْنَيْن...بَعْدَ رُقَادِ
ما أَغْرَبَ التاريخَ كيف أعادني لحفيدةٍ سمراء من أحفادي,
وَجْهٌ دمشقيٌّ رَأَيْتُ خِلالَهُ أجفانَ بلقيسٍ وجيدَ سُعادِ


قمنا بزيارة حيّ: (البيّازين) القديم المشتقّ اسمه من صيّادي طيور الباز قديمًا إبان حكم ملوك بني نصر أو بني الأحمر لها الذي امتدّ من عام 1235 حتى سقوطها عام 1494م. انتقلنا من حي البيازين إلى حيّ: (المدرسة) بجواره, حيث شيّد فيه ملوك بني الأحمر مدرسة ومسجدًا في القرن الرابع عشر, وانطلقنا منه إلى (سوق القيصرية) الضيق والشبيه بأسواق دمشق القديمة سواء في محلاته التجارية أو متفرعاته, حيث وجدنا مطعمًا شعبيا يحمل اسمه, فتغدينا فيه وتحدّثنا مع روّاده اللطفاء كسائر الأندلسيين. عدنا إلى قصر الحمراء بعد الغداء لنقرأ من جديد الأشعار المنقوشة على جدران قاعاته بخطوط عربية بديعة, فاستوقفنا منها البيت التالي في وصفها:

فِقْتُ الحِسانَ بِحُلَّتِي وبتاجي فَهَوَتْ إليَّ الشُّهُبُ في الأبراج


وأغلب الظن أن الشاعر المجهول الذي أنشده وصف الحمراء بعد اكتمال بناء أقسامها, التي لاتزال تثير إعجاب السياح من بلاد العالم حتى يومنا الحاضر بفضل محافظة الدولة عليها بعد إصابتها بزلزال في القرون الماضية.

لقد تغنّى بهذه التحفة المعمارية الفريدة الشعراء, واستلهم منها كبار الموسيقيين الإسبان في القرنين الماضيين أعذب الألحان أمثال: (ألبينيز) و(دي فايا) و(جرانادوس), وفي آخر زيارتنا وصلنا إلى (جنات العريف), والملحقات بالقصر التي كانت معّدة لسكن الأميرات, فاستوقفتنا لوحة منقوشة باللغة الإسبانية بتوقيع شاعر مكسيكي زار غرناطة مع زوجته في القرن السابق يدعى: (دي إيكاسا), ولما رأى سائلاً ضريرًا يطلب صدقة قال لزوجته:

(اجزلي له العطاء أيتها المرأة إذ لا توجد في الحياة حسرة أوجع من أن يكون الإنسان أعمى في غرناطة!).

ليلة في غرناطة

من (قصر الحمراء) المطل على وسط المدينة لوقوعه على هضبة, تجوّلنا في أسواقها, فاشترينا كتابًا أعدّه المستعرب الكبير الأستاذ (إميليو غارثيا غوميث), ترجم فيه إلى الإسبانية بعض قصائد ابن زيدون وولادة والمعتمد بن عباد وابن حزم وحفصة الركونية, ونشره بعنوان: (قصائد عربية أندلسية). كانت سهرتنا الثانية في غرناطة في كهوف الغجر, الذين يقدمون للسياح برنامجًا متنوعًا للرقص والغناء التقليدي يمتد إلى ما بعد منتصف الليل, وفي ظهيرة اليوم التالي عدنا إلى مدريد وبلغناها مساءً لاستئناف عملنا السابق فيها, فوجّه نزار لأمه خمس رسائل شعرية قال لها في أولاها:

صباح الخير يا قديستي الحلوة
مضى عامان يا أمّي
على الولد الذي أبْحَرْ
وَخَبَّأَ في حقائِبِهِ
صباح بلاده الأخْضرْ
وأنْجُمَها, وأَنْهُرَها, وكلَّ شقيقها الأحمَرْ
وخبّأَ في ملابِسِهِ
طرابينًا من النّعْناعِ والزَّعْتَرْ
وفي الرسالة الثانية خاطبها قائلاً:
أيا أُمّي...أنا الولَدُ الذي أبْحَرْ
ولازالَتْ بخاطِرِهِ
تعيشُ عروسَةُ السُّكَّرْ
فَكَيْفَ...كيف يا أُمّي
غَدَوْتُ أبًا...ولم أكْبَرْ?

كانت دمشق تسكن في قلب نزار, فاشتدّ حنينه لها في اغترابه عنها, وأعرب عنه وعن حزنه على وفاة أبيه في الرسالة الخامسة مخاطبًا أمّه:

أتى أيلولُ يا أمّاهُ
وجاءَ الحُزْنُ يَحْمِلُ لي هداياهُ
ويتركُ عند نافذتي
مدامِعَهُ وشَكْواهُ
أتى أيلولُ, أين دِمَشْقُ?
أيْنَ أبِي وعيناهُ?
وأيْن حريرُ نَظْرتِهِ, وأين عَبيرُ قَهْوتِهِ
سقى الله مثواهُ!
إلى أن قال في آخرها:
دمشقُ....دمشقُ....يا شِعرًا
على حَدَقاتِ أعْيُننا كَتَبْناهُ
ويا طفلاً جميلاً
مِنْ ضَفَائِرِهِ صلبناهُ
جَثَوْنا على رُكْبَتِهِ
وَذُبْنا في محبّتِهِ
إلى أن, في مَحَبَّتْنِا, قتلناه...

تأثيرات أندلسية

كان نزار في الأربعين من عمره إبان وجوده معنا في إسبانيا فظهر تحوّل ملحوظ في شعره لتأثره بآثارنا فيها, وفي الأندلس خاصة, وانفتاحه على ثقافات جديدة, بل وحتى في أسلوب مخاطبته المرأة, فإن له قصيدة رائعة نشرها في ديوانه: (الرسم بالكلمات), تدلّ على ما أقول جاء فيها ما يلي:

تَعِبْتُ من السّفرِ الطويلِ حقائبي وتعِبَتْ من حلي ومن غزواتي
إني كمصباحِ الطريق..صديقتي أبكي...ولا أحدٌ يرى دَمَعاتي


في ربيع عام 1963حدث انقلاب عسكري في سورية قام به حزب البعث العربي الاشتراكي مع أعوانه من ضباط الجيش, وتبلغ زوجي مرسوم إحالته إلى التقاعد, فغادنا إسبانيا وبقي نزار فيها إلى أن استقال من العمل في السلك الدبلوماسي في بداية عام 1966 للتفرّغ للشعر, كنت بدأت بكتابة رواية تجري حوادثها بين إشبيلية ومدريد قبل مغادرة إسبانيا والعودة إلى دمشق ولم أكملها, فكتبت لنزار استوضح عن أسماء مواقع وعناوين أمكنة جرت فيها أحداث الرواية للتأكد من صحتها لأنني كنت أتراسل معه من دمشق فوضحها لي, لما انتهيت من كتابة تلك الرواية في عام 1965, وتعذّر علي وجود عنوان لها اقترح علي نزار أن يكون: (عينان من إشبيلية), وصدرت عن (دار بيروت للنشر), أرسلت لنزار أول نسخة منها بالعنوان الذي اقترحه, فتسلمت منه رسالة مؤرخة في 21/7/1965 استهلّها قائلاً:

(بغبطة لا توصف استلمت اليوم هديتك النفيسة (عينان من إشبيلية), وتأثرت كثيرًا بالإهداء الرائع الذي خصصتني به. الواقع أنني شعرت بلمسة كبرياء حين رأيت العنوان الذي حلمت به يتألق على غلاف الكتاب, وليس هذا غرورًا ولكنه زهو الإنسان بلقاء أحلامه, وقد اكتست جلدًا ولحمًا...).

وفي رسالته الأخيرة لي قبل مغادرته إسبانيا المؤرخة في 15/2/1966 قال نزار:

(....أخرج من إسبانيا بأمجاد أعتزّ بها, وهكذا يا سلمى يملؤنا فخرًا أننا تركنا فيها شعاع ضوء وبقيّة طيب, لا كما يأتي ويذهب الدبلوماسيون عادة: تيتي...تيتي...مثل ما رُحتي مثل ما جيتي...).

سقى الله البلاد التي أحبها نزار وألهمته أجمل قصائده.

 

سلمى الحفار الكزبري 




صورة قديمة تجمع بين المستشار نزار قباني وكاتبة المقال