غَزَل العَطَش والارتواء خريستو نجم

غَزَل العَطَش والارتواء

لأن نزار قباني شاعر وسيم, كان معتزا بـ(أناه) الجسمي, ومدركا وسامته ومحتفلا بملامحه. لذلك استثمر هذا الشعور في نتاجه, متتبعا قسماته وحركاته وأناقته, وكل ما يتعلق بمظهره أمام المعجبين في أمسياته الشعرية ومقابلاته التلفزيونية.

ما حاجة نزار إلى عدسات المصوّرين? إن لشعره مقدرة سحرية في التقاط خصوصياته وأجوائه الحميمة. فهو كان يدخلنا إلى بيته ومكتبه, ويقودنا حتى إلى غرفة نومه, ويطلعنا على ألوان أوراقه وما علق فيها من خربشات لقصائد لم تكتمل, وهو لم ينس في معرض كلامه شيئا من لوازمه, ابتداء بمعجون أسنانه ورغوة الصابون على وجهه, وانتهاء بأزرار قمصانه ومنفضة رماده. إن أعمال شاعرنا مرتبطة إذن بـ (أناه) الجسمي قبل كل شيء, وغايتها استعراض نزار قباني الفتى الوسيم الذي طمح لتخليد رسمه بين الناس, وهو رسم لشاعر بلغ به الحرص على وسامته حد الهاجس حتى أصبح متشبثا بالحب, لأنه مرآة تحمل ملامحه في عين نفسه وأعين الناس: (قولي (أحبك) كي تزيد وسامتي/فبغير حبك لا أكون جميلا).

فالحب يمنحه الإحساس بالتحول, إذ يشعر أن أصابعه ذهب, وجبهته قنديل, وشعره حفر وتنزيل, وأكبر الظن أن لهيئة الشاعر أثرًا في توجيه ميوله النرجسية نحو موضوعات شعرية معينة, تظهر اعتداد صاحبها بذاته, وهو اعتداد يضرب جذوره في أعماقه, ولا يتاح لنا تعليله من غير عودتنا إلى طفولة الشاعر ونشأته, ووقوفنا على المؤثرات التي عملت في تشكيل مزاجه وتكوين شخصيته.

لذلك نتوقف عند طفولة نزار بقطبيها الأمومة والأبوّة. ولاشك في أن لهذا المحور أثرًا كبيرًا في تكوين مزاج شاعرنا. فمن رعاية الأم المتفانية, نشأت علاقة بين الطفل وأمه, حتى كادت تذيبه في محيطها, ذلك أن الطفل ارتاح إلى عنايتها ورعايتها وحمايتها, فتوقف شابا عند نموذجها لا يتخطاه إلى عالم الآخرين, وكان طبيعيا أن يتماهى الطفل بأبيه القادر في نظره على كل شيء, غير أن هذا التماهي واجهته صعوبات جمة, وصاحبته نوبات لاواعية, كشفت عن وجه آخر للأب, هو الوجه الظالم القاسي, رمز القمع والخصاء. لذلك نتج عند الفتى الصغير تمرد لا واع على الأب الخاصي بسبب انتحار أخته في مجتمع أبوي يقيد حرية الذكور, ويلغي حرية الإناث المغلوبات على أمرهن في وسط رجعي متزمّت. وكانت حصيلة هذا التمرّد تفجير قريحة ثورية تتعمّد الفضيحة, وتسير جنبا إلى جنب مع التغني بالحب والجمال. وربما كان هذا التغني هو الوجه الآخر للناحية الثورية في شعر نزار, فالحب والجمال هما القضية التي جاهد الشاعر في سبيلها, وتعرّض من أجلها لكثير من النقد في مجتمع مكبوت.

والحق أن نتاج نزار يستمد غذاءه من تربة واحدة تكوّنت في أعماقه منذ الطفولة. فمن هذه التربة طلعت أشعاره الراضية والساخطة, وعكست طبع صاحبها الذي تهزّه الانفعالية وتنقصه الفعالة شأن (هاملت)شكسبير, الذي أتعبه الانفعال وشلّه التفكير, فاكتفى حينئذ بالترجيع السوداوي والاستبطان الذاتي. ولعل نزارا وضع إصبعه منذ طفولته على حقيقة مزاجه, حين قال إن وجوده في بيته الدمشقي الجميل, كان يفقده شهية الخروج إلى الزقاق كما يفعل سائر الصبيان. ومعنى ذلك نشأة هذا الحس (البيتوتي) الذي رافقه في كل مراحل حياته. وأكبر الظن أن هذا الحس دليل مزاج انطوائي, فيه شعور بالدونية, كما فيه الشعور بالاكتفاء الذاتي, أما الشعور بالدونية فلأنه الخطوة الأولى لتثبيت الذات كما يقول (أدلر), وهو شعور حتمي عند كل فنان في طور نشوته, إذ يقول: (أريد أن أصبح إنسانا كاملا), ذلك هو مبدأ الشعور بالدونيّة الذي يفضي بصاحبه إلى البحث عن هويته واكتشافها عن طريق إنجاز عظيم.

اكتشاف الذات الشاعرة

وهذا مبدأ اعتنقه نزار إثر جرح عميق ابتلاه يوم شك والده بقدرته الشعرية وطلب منه الانصراف عن الشعر والتركيز على ما ينفع نفسه ويفيد الناس. هذا الجرح العميق الذي مُني به الفتى وهو في مستهل وعيه لذاته, كان لابد من أن يدفعه إلى النكوص والتماهي بالمعتدي الجارح أو بالكائن المحبوب, لأنهما في الواقع شخص واحد. وينتج عن هذا التماهي بـ(الأنا الأعلى) عن طريق الاجتياف, لأن في أعماق الشاعر تلك الوحدة المستحيلة التي أضاعها ومازال يحن إليها. وبمقدار ما يكون الجرح عميقا, تكون المطالب بهذا (الأنا) أكثر إلحاحا وأشد فعالية. ذلك أن (الأنا الأعلى) هو نتاج مثلنة الذات عن طريق عملية التماهي. وكل طفولة نزار كانت سعيا دءوبا وراء الذات الجديرة بالإعجاب. ولسنا بحاجة إلى تأويل آثاره لنثبت أن طفولته كانت تترصّد مثلها الأعلى وتعمل جاهدة في سبيل تجسيده. فشاعرنا كان يعي الأطوار الكثيرة التي اجتازها قبل أن يكتشف ذاته وينام شاعرًا, في تلك الليلة البحرية من عام 1939.

ولا نزعم أن الطفولة وحدها كانت كافية لتفسير نتاج الأديب, فالأديب حصيلة المؤثرات الخارجية المتلاحقة التي تطرأ عليه طوال حياته. ويندرج في هذه المؤثرات, أوضاع العصر والبيئة وتيارات الثقافة وسواها من العناصر المكوّنة للإبداع. ونحن لا نتجاهل أهمية هذه العناصر عند الضرورة, بيد أن الطفولة تفسر أكثر من سواها انطواء شاعرنا الطفل على نفسه, وما نتج عن هذا الانطواء من اكتفاء ذاتي جعل صاحبنا يتمركز حول نفسه ويكْلَفُ بها حتى العبادة. ذلك أن الطبيعة حبته موهبة شعرية فذة دعمت إيمانه بقدراته, وغذّت طموحاته وتطلعاته, فبات يمارس طقوس النفس في محراب ذاته, يقدم لها القرابين, ويتيه بها على أقرانه من عالم الفنانين.

هكذا في بحثنا عن هوية الفنان وفرادته, بدا أمامنا (نرسيس) الذي تمركز حول قدراته الفنية, واعتنق مذهب الفن عمومًا. لذلك نراه يتعبّد في محرابه ويصعّد صلواته مسبّحا بحمد الجمال, معلنا عبادته للحسن في كل وجه صبيح, رافضًا أن يتقيد بسلاسل الملهمات. ذلك أن الصوت في رأي نزار أهم من الشفتين, وأن اللوحة أجمل من الأصباغ, وأن الطعنة أبلغ من الخنجر. وبكلمة موجزة, إن الفنان عند نزار قيمة كبرى, فلتحذر كل امرأة أن تقف معارضة في وجه رسالته. هذا العنفوان طبيعي لدى أصحاب المواهب, لأنهم يعون حقيقة التغلب على الفناء والخروج من أنياب الزمن الوحشي.

فبالشعر يستحضر الفنان طفولته ويستمد منها نكهة السرمدية التي لا يعرفها سواه. من هنا كان الفن تكثيفا للحياة في لحظة أبدية, يقاوم خواء الدنيا بإكسير الخلود. غير أن لحظات الإشراق نادرة, وكثيرًا ما تطحن الحياة أبناءها وتشتت ذواتهم وتنثرهم شظايا. عندئذ لابد من عملية ترميم, تلجأ إليها الذاكرة الخلاّقة لإعادة بناء (الأنا) القابع في الأعماق, فتسلّحه ببصمات الذات المتفوّقة أو بالهوية الفردية. ولاريب في أن الفن يسعف صاحبه في العثور على نفسه, لاسيما إذا كان الفنان من نوع شاعرنا الذي حبته الطبيعة نعمة الجماهير, هكذا يكون المعجبون به والمحتشدون أمامه في أماسيه, مرآة له, يتملّى فيها ملامح وجهه, بحيث لا يشك لحظة في حقيقة حضوره. كيف لا? ونزار صاحب جمهور كبير في احتفالاته الشعرية.

أبعاد العين الثاقبة

بعد جولتنا في مسالك شخصية الشاعر ابتداء بـ(أناه) الجسمي, وانتهاء بـ(أناه) الفني, مرورا بكل تشعبات الطفولة ومؤثرات البيئة في تشكيل الذات, لابد من التوغّل في أعمال نزار الغزلية, وهي تعادل ثلاثة أرباع إنتاجه الموزع بين الغزل والسياسة. ولا يخفى أن صاحبنا عُرف بالغزل قبل أن يعرف بالسياسة بزمن طويل, وأنه بلغ ذروة شهرته أيام كان بعيدًا عن الأحداث العامّة, مصرا على البقاء في مقاصير النساء لا يريد الخروج منها. فالشاعر كان متمسكا بحقل اختصاصه فخورا بما هبط عليه من إلهام لم يخطر على قلب بشر. وربما تباهى بـ (دونجوانيته) التي كرّسته شاعر المرأة في القرن العشرين, فأحسّ أنه كاد يُلغي بشاعريته كل من جاء قبله من الغزِلين في العشرينيات من القرن, وأن أحدا من الغزلين اللاحقين لن يقدر أن يتخطّاه. فنزار قباني نمط جيد من الشعراء لا يتكرر في كل جيل. ووعيه لفرادته جعله لا يهتم كثيرا بمهاجميه. فهو قد احتكم إلى ذوقه وجمهوره, وكفاه ذلك الحكم مشقة الخضوع لانتقادات المغرضين وهجمات الحاسدين. ولذا كان الغزل في شعر قباني المحور الأهمّ الذي يحتاج إلى دراسة معمقة, على الرغم من إشاعة الخصوم عن بساطته وسهولته. فكل انتقاص من هذا المحور تبسيط أكثر مما ينبغي وترفّع ليس له ما يسوّغه. وفي مرحلة نزار الأولى من الغزل, أي في (مرحلة العطش والجوع) دليل قاطع على أنّ البساطة لا تعني أبدا السطحية, ولكنّها تعني السهل الممتنع عن التقليد, والبعد الممتنع إلا عن عين ثاقبة تنظر من خلال المقارنة والتحليل, فتُعطي ما لقيصر لقيصر, وما لله لله.

إنّ نزار قبّاني في مرحلته الأولى التي تمتدّ سحابة الأربعينيات من القرن العشرين, كان أنموذج الفتى الجائع إلى الجنس, في مجتمع يلجم الشهوة ويكبتها. ولذا كان عليه أن يخضع في خضمّ هذه البيئة الشرقية لأمواج التقاليد العاتية, وأن ينطوي على نفسه مرتدا إلى أطوار الطفولة والمراهقة, علّها تُنْسيه جموح الغريزة المشتعلة في عروقه. وقد أسهم في هذا الانطواء تحوله ردحا من الزمن إلى ما يشبه (فيتشية) الثياب والأشياء والأصوات, تحولا جعله يموّه قليلا عن نفسه في واقع البيئة التي فرضت الفصل ما بين الجنسين. وربّما زاد في النكوص إلى الذات, خوف قديم من الأنثى القديمة, ورثه الرجل عمومًا, فكمن هذا الشعور في العقل الباطن يغذي ميل شاعرنا إلى عشق ذاته والاكتفاء بها من سائر الناس.

نتج عن ذلك كله أن المرأة تشيّأت لتلبي نزوات النرجسيّ, الذي يرتدّ تارة إلى الطفولة فيعتبرها جزءا غير مُنفصل عنه, وطورًا إلى المراهقة فيحسبها دميةً من ألعابه. وقد عزّز هذا الشعور مُجتمعٌ استهلاكيّ اعتاد أن يبتلع كلَّ شيء ويُبيد كلّ شيء. إنّ عقدة النقص القديمة في الرجل, أغرَته بالثأْر من المرأة, ولذا حوّلها جسدًا وإثما وشيطانا, وتوّج نفسه روحا وطهرا وإلها. وهكذا انتهى النرجسي المراهق إلى رغبة مدمّرة في مزج العنف بالجنس, وربط الحبّ بالموت علّه يدمّر المرأة, بما رسب في أعماقه من آثار أكلة لحوم البشر.

تلك مظاهر تلوّنت بها دواوين قبّاني الأربعة الأولى. وقد ظهرت في خوف الشاعر من العالم الخارجي, بما فيه من نُظُم وقوانين أخلاقية لم يروّض النفس عليها طويلا. وربّما قاده الوسط الاجتماعي إلى ما يشبه حلبة الصراع, حين كان شاعرُنا يؤثّر العافية والسلامة, بدّل المنافسة والاقتحام. ولعلّه أوجس شرًّا مما يخبئ له المجتمعُ من صدمات بدأ يتذوّق طرفا من مرارتها, فسمعناه في قصيدة (مكابرة) يردع نفسه عن التوغل في عالم الآخرين, خشية أن يقع في شرك الحبيبة (تراني أحبُّك? لا, لا, مُحالٌ/ أنا لا أحبّ ولا أُغْرَمُ).

بين الغريزة والحبّ الإنساني

فهو يؤكّد رغبته في الاستقلال والتوحّد. وهل النرجسيّة غير هذا الاستقلال الذي يقيه أعباء التبعية للحبّ والمحبوب? فالغيرية عنده تعني العبودية للآخرين, والنرجسية تعني التحرر من كل القيود, والخلاص من كلّ سلطان. إنّها الردّ المناسب على القضاء, وتجسيد القدرة على تقرير المصير. إنّها بالنسبة إليه حالة مضادة للموت, أي حالة الأبديّة والخلود. لذلك طاب للشاعر هذا التقوقع على النفس والدخول في جَوْفِ الذات. فلم يُدرك من الحبّ إلاّ إشباع الغريزة أمام الأنثى الوليمة التي يتوق للاستيلاء عليها وأكلها وهضمها.

وبدهيّ أنّ هذا النوع من إشباع الجسد, على أهميته من اتزان النفس, لا يشكّل حبّا إنسانيا يُشبع القلب والوجدان, لأنه لا يتضمّن حوارًا بين ذاتين مستقلتين. فذات شاعرنا لا تدين بديمقراطية الناس. إنّ الديمقراطية إقرار بوجود الآخرين وضمان لحقوقهم, أما النرجسية فنفيٌ للآخرين والتهام لكيانهم. وربّما لاحظ قبّاني هذه المشاعر في نفسه, فأخذ يُحاسبها على ماضيه, ويُعيد النظر بسلوكه, علّه يبدّل من مصيره. وقد تجلّى ذلك في دواوينه الثلاثة التالية: (قصائد) و(حبيبتي) و(يوميات امرأة لا مبالية).

ففي هذه الدواوين, طالعَنا الشاعر برغبته في تخطي الذاتية والخوض في موضوعات الوطن والناس. بل طالعتنا رغبة في تخطي دائرة الفردية حتى على صعيد شعره في المرأة. ولعلّ هذه المرحلة, مرحلة الخمسينيات عند نزار, كادت تكون مختلفة عن سائر مراحله بما فيها من قصائد اجتماعية وسياسية, نَأَتْ به عن جماليّاته في الأربعينيات. ولذا نسميها الآن (بين الذات والآخرين), لأنّ التواصل المنشود بدأ يتحقق مع بعض القصائد التي عنوانها: (خبز وحشيش وقمر), أو (الحبّ والبترول), أو (جميلة بو حَيْرد), أو (قصة راشيل شوارزنبرج), أو ديوان (يوميّات امرأة لا مبالية).

بَيْد أن هذه المرحلة, على الرغم من تطوّرها, لم تستطع أن تنسخ ما تأصّل في الشاعر من ثوابت نزاريّة, بل كانت هذه المرحلة أيضًا استمرارًا لثوابت الشاعر وهي تمضي جنبًا إلى جنب مع ما طرأ على رؤياه من تطلّعات جديدة. ولكنها تطلّعات ليست بحجم شهرة نزار العريضة. فديوان (قصائد) لم يحتو على أكثر من ثماني قصائد عالجت يومذاك قضايا الناس. وديوان (حبيبتي) لم يتجاوز أيضا في قصائد الموضوع هذا العدد. حتى (يوميّات امرأة لا مبالية) كاد يكون بمجموعه, قصائد غنائية, فيها كلّ ما في الغناء التقليدي من مباشرة وتقرير وخطابة. وقد برّر نزار هذه الظاهرة بأنّ تجربته الذاتية تأخذ حجم الكون, لأن أحزان الشاعر كالأمطار الاستوائية تنزل في كلّ مكان, ومعنى ذلك أن معاناته الخاصة تستغرق هموم الجماهير قاطبة. فهل استطاع شاعر الحبّ في دواوينه اللاحقة معانقة هموم الكون?

الفارس والبائس

إن نزار في مرحلته الثالثة التي رأيناها (مرحلة الارتواء والانطواء), ظلّ خاضعًا لنزوات الكائن الشرجي, يتعامل مع موضوعه تعامل المشاكس, الذي يرفض المسالمة أو الركون لأي وصاية.

ولم يكن دافعه إلى ذلك, غير هاجس الخوف من احتمال ذوبان الذات وتلاشيها في الآخرين. وهو لشدّة حرصه على كيانه, رفض الحوار واختار الصّراع في جدليّة العبد والمولى, لأنه لم يرتض التنازلات ولم يحتمل التضحيات. وهذه حالة شرجية ينعشها مناخ المعارضة والتحدي, وتحييها رياح المقاومة والتصدي. حتى إذا اختلطت الأوراق عبر انتصارات الشاعر وهزائمه, تمّ اندماج الضحية بالجلاد. فكان هو القاتل والمقتول, والعبد والمعبود, والجاذب والمجذوب.

هكذا رأينا الصيّاد والطريدة يتّحدان, على الرغم من التجاذب الوجداني ما بين الحب والبغض, ويلتحمان كالرماد في منفضة واحدة. غير أن رياح الشاعر سرعان ما كانت تعصف لتبعثر ذرّات الجسدين وتعيدهما إلى ما ألفاه من عراك, غايته دعم الشاعر في صراعه, وتكريس حقه على حساب الضحية المتهمة. من هنا كان تمادي نزار في إطلاق أحكامه العرفية وسنّ قوانينه القهرية رافضا أنصاف الحلول. ألم يتقمّص شخصية (هاملت) حين طالب بالاختيار الذي لا يقبل التأجيل: (أنْ تكوني امرأة أو لا تكوني? تلك, تلك المسألة!).

فالمسألة إذن, أن تكون صاحبتُه امرأة حقيقية, وأن يكون صاحبُنا رجلاً حقيقيًا. فلذا كان همّه إظهار فحولته أمام الأنوثة, ليتوّج نفسه (دون جوان) العاشقين. وقد نتج عن ذلك تضخيم في الذات أعماه عن رؤية الموضوع, حتى إذا تقدّمت به الأعوام وانقشعت الأنوار, أفاق على حقيقة مُرّة, ألا وهي تفاهة ما حقّق من مآثر وغزوات. فإذا (دون جوان) الفارس يُثير الشفقة مثل (دون كيشوت) البائس, وإذا هو يفتش عن ذاته فلا يجدها, ولكنّه يجد قناعًا يغطي وجهه ويعزله عن عالم الآخرين. فالآخرون صفّقوا للقناع وخرجوا من القاعة تاركين الممثل وحيدًا في عزلته, يسترجع صدى الأكفّ وعبارات الإعجاب.

وصفوة القول في هذه الفترة, أنّ الشاعر بقي ظامئًا على الرغم من ارتمائه في الماء, فانشغل بهاجس المستحيل عن الصبيّة الحلوة (إيكو) التي هامت به ونذرت نفسها له,حتى هزلت من فرط صدّه وإعراضه, وأصبحت مع الأيام صدى يترجّع في الجبال والأودية, يبحث عن (نرسيس) الذي جاء العالم ومعه جرحٌ جميل, هو كلّ متاعه من هذه الدنيا كما يقول (فرانز كافكا).

بعد مرور هذه السنين من حياة نزار, طالَعتْه مرحلة سميناها (مرحلة التخمة وإفلاس الشعور). وكان لايزال متأثرا بخبراته السابقة وما خلفته في نفسه من ذيول الإحباط والاستسلام والاغتراب. فبعد أن طال وقوفه أمام إغراء الجسد, وبعد أن دعا إلى ممارسة طقوسه البدائية من أجل تحرير الإنسان, ومصالحته مع العالم الخارجي, إذا به يكتشف أنه قدّم تيار الشهوة على تيّار الحنان, فتعطّل الحوار بينه وبين صاحبته. فالاندماج الذي طمح إليه وظنّ فيه التكامل التام, أصبح سجنًا مؤبدًا يجثم على صدره ويُضيّق عليه الخناق. وآيةُ ذلك أنه بعد طول الاندماج, شعر بالغثيان ينتابه من فرط ما التهم من لذّات دنياه.

فالتخمة التي أصابته من جرّاء ذلك, أوقعَته في جوع آخر خلف جدران الجسد. وهيهات أن تقنع النفس بما يسدُّ رمق الجسد! إنها لتبحث عن الحوار الإنساني, بينما الجسد يكتفي بالاتحاد الغريزي. إنها تطالب بالآخر الحر, وهو يطالب بالآخر العبد. إنها تؤمن باللقاء في الثنائية, وهو يؤمن بفناء القطبين في الوحدة. وقد غاب عن نزار أنّ الخطر كامن في الاتحاد والاندماج والالتصاق, وأنّ الخلاص, في التمايز والاستقلال والانفصال. حتى اللذة الجنسية, كما تقول سيكولوجية التخيّل, تظل ناقصة بين جسدين لا يعرفان إلاّ الفناء في الوحدة. وهذا ما قاله جبران خليل جبران في كتابه (النبي): (قفوا معًا, ولكن من غير أن يلتصق واحدكم بالآخر. فأعمدة الهيكل تتساند ولا تتلاصق).

سجن الزواج

فالنرجسيّ إذن في مأزق محتوم, لأنه يرفض الاعتراف بالآخر جسدًا وروحا. فمن ناحية الجسد, يخسر الجنس شرارته الرؤيوية بحكم اكتفائه بلذّة مسطّحة. ومن ناحية الروح, يفقد الحبُّ معناه الإنساني بحكم اغترابه وإفلاس الشعور. وهذا ما لاح في ديوان (أشعار خارجة على القانون).

هذه الأزمات الحادّة, عاناها شاعرنا نزار, حتى كادت تتجلّى فيه سويداء القرن العشرين, وهي عوارض نفسيّة, يشاركه فيها كثير من أمثاله. هكذا بقي نزار في زمن لاحق, يعاني مرحلة الهاجس الزمني, أي في حنين دائم إلى الآخر, طالبًا التكامل تارة في الالتصاق الجسدي, وطورًا في الانخطاف الصوفيّ. وكلا الالتصاق والانخطاف لم يَرْدُما فجوة الانفصال ولم يَحُلاّ مشكلة هذا التكامل.

ولذا بقي نزار ضائعًا بعد زواجه مثلما كان أيام عزوبيته.فلا الفناء في المحبوب أجداه, ولا العيش معه أغناه. فشعر حينذاك بأنه ضحيّة سجن جديد يسمّونه المؤسّسة الشرعية. ولذا حكم على الزواج بالفشل, بعد أن رأى في الأزواج مهرجين يكذبون على زوجاتهم وعلى أنفسهم, متستّرين بالخبث والرياء. وبعدما توالت السنون وشعر نزار بكهولته, أحسّ بالخوف والهلع من أفول نجمه وذبول نضارته, فأخذ يسابق الزمن علّه يرتوي قبل أن يفوت أوانه. فـ (الدون جوان) الكهل يشعر بالانحلال عندما تخذله قواه وتمسي محدودة القدرات. لذلك رأينا شاعرنا يطمح بأطايب الدنيا ليغرف منها ما استطاع. غير أنّ المرء يصبح مع مرور الزمن, عليل الجسم لا يقوى على هضم ما يبتلعه من متع الحواس. فلذا أحسّ نزار بصراع موجع بين طموحه الذي يفتح عينيه الواسعتين على ملذّات العالم, ويده القصيرة التي تخذله وتسقط قبض الريح.

لا غرابة في أن يعاني شاعرنا الضيق, شاكيًا من حواسه التي بقي عددُها خمس حواس, لا أكثر, فيما هو محتاج إلى مشاعر استثنائية يتفرّد بها, وإلى أشواق ما خطرت على قلب بشر, وإلى مفردات لا تلهث في اجتياز مسافات صواحبه الضوئية. ومع ذلك, جاءه الوقت وهو معلّق بين الخطوط المنحنية والخطوط المستقيمة, فأدمن التأجيل والمماطلة, على الرغم من عنترياته الشفهية وتحدياته الكلثومية. وشاءت الأقدار أن يفاجئه المرض إثر وفاة ابنه الشاب توفيق, فازداد انطواء على نفسه وانسحابًا إلى ذاته, حتى طلّق الفرح العام وانصرف إلى أعماقه الخاصة, يستكشف ما ظلّ كامنًا فيها, علّه يفجّر أعمالا عظيمة لا يقوى عليها الموت.

ثم جاءه موت زوجته (بلقيس) المفاجئ, فلم يزده غير ألم فوق ألم, وعناد فوق عناد. فهو في غمرة فجيعته, تململ كطائر الفينيق ليخرج من رماده أشدّ إصرارًا على الحياة, وأكثر تشبثًا بالوجود. ولذا رأيناه بعد ذلك في قمّة شهرته, يصارع الزمن ليحتفظ بمكتسباته التي حقّقها بعناء النفس وعرق الجبين. ألم يطلع علينا بعد ذلك بديوان جديد في كل عام? ألم يفخر صراحة بغزارة شعره وحضوره الأدبي?

مهما يكن, فشاعرنا نزار أديب ذاتي, ظل يدور كالنجم في فلك (أناه), وهو فلك رحب يسع الكون ويحتويه, حتى يصحّ فيه قول الشاعر العربي:

أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر?


وعالم الشاعر هنا يختصر مجتمع العصر بعامة, ومجتمع العرب بخاصة, أي أن نزارًا ليس حصيلة موروثاته التي تحدرت إليه من أبيه وأمّه اللذين ربّياه في أسرة دمشقية وحسب, بل هو نتيجة واقع العصر الذي نشأ فيه وخضع لمؤثراته. هذه المؤثّرات الشرقية التي تَكْبُت الرغبات وتحول بين الفرد وتطلعاته.

هكذا وجد نزار نفسه وحيدًا أمام جحافل المستنكرين, فانكفأ على نفسه ريثما يقوى عوده. ذلك أن شاعرنا نموذج حيّ للإنسان العربي الذي شغلته قضيّة الجنس, فشيّأ المرأة واختزلها أحيانًا جسدًا بلا روح. فإذا هو يتهيّب الاقتحام مرّة, ويلامس حدّ الخصاء, أو يستعرض رجولته مرّة ويبهُر الناس بفحولته. وقد رأينا صاحبنا يشكو مرارًا من هذا الانشطار النفسي, ويتمنّى التكامل الوجداني الذي حنّ إلى بلوغه من غير جدوى. هكذا عانى شاعرنا آلام ذاته, ابتداء بالعطش والجوع, مرورًا بالارتواء والانطواء, وصولاً إلى التخمة وإفلاس الشعور مع الهاجس الزمني.

نكتفي بهذه الناحية من شعره, ألا وهي الغزل المشهور الذي استمر في كلّ حياته. لا نُنكر أنّ له شعرا عظيمًا في السياسة, ولكنه شعر نشأ بعد قصائده في المرأة. ذلك أن شاعرنا توسّع في هذا التيّار السياسي نتيجة معاناة بلادنا العربيّة ولاسيما فلسطين, إضافة إلى اغترابه زمنًا طويلاً, بعيدًا عن وطنه في الشام. ولنا أبحاث في هذا الاتجاه, منها دراسة عنوانها: (التطهير المأساوي في شعر نزار السياسي), وهي منشورة في كتاب: (نزار قباني شاعر لكل الأجيال), بإشراف الدكتورة سعاد محمّد الصباح, وإعداد الدكتور محمد يوسف نجم, الصادر عام 1998.

وربّما زاد في انكفاء شاعرنا على ذاته, هزائم العرب المتتالية, وانقسام بعضهم على بعض, الأمر الذي أدّى إلى تبخيس الذات العربيّة والشعور بالعزلة والاغتراب. ومعنى ذلك أنّ النرجسيّة في أدب نزار قبّاني, مرآة تنعكس فيها نرجسيّة الذات العربيّة بكلّ نُفاجِها وعُظامها, واستعراضها واكتئابها. فالنرجسيّة التي سبقنا في تحليلها بكتابنا عن الشاعر نزار قباني, هي نفسها النرجسية التي يعانيها العالم العربي من خلال كبْته وإحباطه, وتبخيس ذاته وشرعنة مواقفه.

 

خريستو نجم 




 





كان شاعرًا غزليا ولكنه تعلم الثورة من خلال الغزل وحاول أن يجعل عشقه نوعًا من التمرد





في إحدى المؤتمرات الشعرية الشاعر نزار وبجانبه الشاعرة الكويتية د.سعاد الصباح