السمر ذوو العيون الذهبية راي برادبري

ترجمة: حسن الجوخ

بتأثير الرياح بدأ غلاف الصاروخ يبرد، ومنه خطا رجل وامرأة وثلاثة أطفال. المسافرون الآخرون انطلقوا عبر ساحة كوكب المريخ تاركين الرجل وأسرته، أحس الرجل بالرياح تحرّك شعر رأسه، سألتْ زوجته:

- "هل هناك شيء خطأ؟".

- "دعونا نرجع إلى الصاروخ، ونعود ثانية".

.. رأى المدن المريخية القديمة فقدت وماتت وسط الأعشاب مثل عظام الأطفال.

- "لا تبتئس يا هاري، لقد أصبح الوقت متأخرًا للتفكير في العودة، لقد قطعنا خمسة وستين مليونًا من الأميال على الأقل".

لم يكن هناك أي رد سوى اندفاع الرياح.

لقد كان رجلا يقف على حافة المجهول، كانت أسماؤهم: هاري بيترنج وزوجته كورا..تيم..لورا، وديفيد كانوا الأطفال.. قاموا ببناء كوخ صغير أبيض اللون، ثم تناولوا إفطارًا جيدًا هناك، ولكن الخوف كان لا يزال يلازمهم.

- "نحن لا ننتمي إلى هنا.. نحن سكان الأرض".

راحت تهز رأسها:

- " يوما ما القنبلة الذرية سوف تقتل كل إنسان على سطح الأرض.. حينما يحدث ذلك سنكون في أمان".

- "في أمان ومجانين".

- "ولكنه لا توجد أية قنابل ذرية بالمريخ".

كل صباح يتفحص كل شيءٍ، تتنامى لديه رغبة شديدة في إيجاد حل ما.. جرائد الصباح تأتي إلى الصاروخ من الأرض بانتظام، فتحها وراح يقرأ.

- "بعد عام آخر سيكون هناك مليون رجل على سطح المريخ.. مليون رجل من الأرض!.. سنكوّن مدنًا كبيرة هنا!.. لقد قالوا: "إننا سنفشل". وقالوا: "لن يحبنا المريخيون، ولكن هل وجدنا أحدًا من سكان المريخ؟.. قال ديفيد: - "لا أعلم.. ربما يكون هناك بعض سكان المريخ، ونحن لا نراهم.. أحيانًا اعتقد أنني أسمعهم أثناء الليل، أتعجب من المريخيين، هل يحبوننا؟".

قال السيد بيترنج، وهو يسرح ببصره.

- "هراء. نحن لا غبار علينا، نحن أناس طيبون".

- "كل المدن المندثرة يوجد بها شيء غريب".

نظر إلى التلال نظرة خاطفة وأكمل:

- "ربما في بعض الأحيان.. يا ديفيد تنظر إلى السلالم وتتعجب.. أتفكر فيمن يستخدمها؟". وأردف قائلاً : "أنت لم تصعد بعد إلى هذه الخرائب، ولم تر الدمار والخراب.. أليس كذلك؟

- "لا يا والدى".

ولما سكت قال الأب:

- "دعك منهم.. واعطني الخلاصة".

ركضت لورا خلال المدينة الصغيرة تبكي صارخةً:

- "أمي!.. أبي!.. الحرب!.. الأرض.. الأخبار الموجزة المرسلة بالراديو وصلت توًا!.. القنابل الذرية أصابت نيويورك!. كل الصواريخ قد انفجرت!.. لن يكون هناك مزيد من الصواريخ".

- "آه يا هاري!".

وأمسكت الأم بذراعي زوجها وابنتها، قال الوالد متلهفًا في تساؤل حاد:

- "هل أنت واثقة يالورا؟!".

- "سنظل سجناء المريخ إلى الأبد.. إلى الأبد".

- "نحن وحدنا!".

قالها السيد بيترنج بشكل عفوي. وراح يفكر في سره:

- "ألف منا فقط موجودون هنا.. ليست هناك طريقة للعودة.. لا طريقة".

أراد أن يقول لها "أنت كاذبة".. "ستعود الصواريخ مرة أخرى" وبدلاً من كل ذلك قال:

- "ستأتي الصواريخ يوما ما".

- "ربما في خلال خمس سنوات.. إن بناء صاروخ يستغرق خمس سنوات.. ماذا ستفعل يا والدي؟"

- "نقوم بعملنا طبعًا، نزرع المحاصيل ونستمر حتى تنتهي الحرب، وعندئذ ستأتي الصواريخ".

وعندما دخل الولدان قال في وقار:

- " يا ولدان.. أود أن أخبركما بشيء ما".

- "نحن نعرف"

ولكن الصواريخ الآن صارت غير صالحة للاستعمال، ذات معدن بالٍ! .. أهل الأرض هنا فوق سطح المريخ تركوا للمجهول، ليس لهم إلا التراب الغريب، وواصل حديثه - بينه وبين نفسه - أعمل، أعمل وأنسى.. نظر إلى الحديقة باتجاه جبال المريخ.. فكّر في أسمائها المريخية القديمة، تلك التي تبعث على الفخر.. رجال من الأرض أتوا إلى سماء المريخ، وهبطوا فوق سطحه، ورأوا بحاره وأنهاره، في حين بنى المريخيون المدن وأعطوها أسماءها، الجبال والبحار تغيرت الآن تمامًا، تحولت إلى خراب. الناس الذين وجدوا بأمريكا في الأيام الغابرة قد استخدموا الأسماء القديمة نفسها: وسكونش، مينسوتا، أو هو، أوهايو، كل هذه كانت أسماء هندية عريقة ومعاني قديمة.. نظر بوحشية إلى أعلى، حيث الجبال، وأطرق مفكرًا، صاح: "هل أنتم بأعلى هناك؟.. أنتم أيها المريخيون الميتون..هل أنتم كلكم هناك؟ .. حسنًا، نحن هنا وحدنا، لقد انفصلنا عن الأرض الآن.. انزلوا واطردونا خارج كوكبكم. لو فعلتم ذلك فإننا لانستطيع شيئا".

في تلك اللحظة هبت الرياح حاملة بعض الأزهار، مد يديه البنيتين وبكى.. ولمسها، التقطها وقبلها.. لمسها ثانية، ثم نادى على زوجته، وحينما ظهرت في النافذة جرى إليها: " كورا. انظري إلى هذه الأزهار". لمستها.. قال: "ألا ترين؟!" قالت: "إنها مختلفة، لقد تغيرت، ليست كما كانت، تبدو جيدة في نظري" عقب: "ليس ذلك بالشيء المهم، هناك شيء خطأ لا أستطيع تحديده، وحينما دخل الأولاد ونظروا إلى والدهم وجدوه يدور حول أحواض الحديقة، يقتلع نباتات وينظر إليها، قال في ثقة: "لقد تغيرت.. ربما تعلمين ذلك.. نشب بأظافره في الأرض، وصرخ: "كورا، ماذا يحدث؟، ما هذا؟ يجب أن نبتعد عن هذا المكان ".

بعد مضي يومين جرى (تيم) إلى داخل المنزل، وقال: "أمي. تعالي وانظرى البقرة"، بكى قائلاً "لقد رأيتها. تعالي وانظري"، حينما خرجوا ونظروا إلى بقرتهم وجدوها وقد نما لها قرن ثالث، والعشب أمام منزلهم تغير لونه تماما، تحول ببطء إلى لون أرجواني.

- "يجب أن نبتعد عن هنا.. لوأكلت من هذا الطعام سوف تتحولين أنت أيضا".

- "إنه ليس مسموما"

- "ولكنه كذلك، مسمم بطريقة غامضة.. يجب ألا نلمسه".

- "حتى المنزل تغير، الشرفات حدث لها شيء ما، الهواء لوحها بالسمرة، والحواف بعدت عن القوالب.. لم يعد هذا المنزل ينتمي لرجل من الأرض بعد الآن".

- "آه.. إنك تتخيل أشياء لا وجود لها".

- "سأذهب إلى المدينة. لدي عمل يجب إنجازه، وسأعود سريعا".

- "انتظر.. هاري.. هاري..."

ولكنه كان قد ذهب، ولم يسمع إلا صدى.

- "ماذا تفعلون أيها الحمقى. لقد سمعت الأخبار"

- "مرحبا.. هاري".

قالها الجميع في صوت واحد.. تساءل:

- "لقد سمعتم الأخبار. أليس كذلك؟".

ضجوا بالضحك، ثم قالوا:

- "بالتأكيد ياهاري.. بالطبع سمعنا".

- "ماذا ستفعلون حيال ذلك؟، كيف تستطيعون الهروب من هذا الكوكب؟".

- "صحيح!.. ماذا سنفعل؟!".

- "يمكننا ان نبني صاروخا".

- "صاروخ!، هاري!؟، لماذا؟ لنعود الى كل تلك المتاعب؟، ياهاري!".

- "لكن يجب أن تكون لديكم الرغبة في العودة"

قال أحدهم:

- "نعم، لقد لاحظنا ياهاري".

- "لقد حدث.. ألا يخيفكم ذلك؟".

- "لا نتذكر أن ذلك قد أخافنا بصورة كبيرة ياهاري".

- "حمقى".

- "آه.. هاري.. لا تتكلم هكذا".

أراد السيد بيترنج أن يبكي، ولكنه قال:

- "يجب أن تعملوا معي لو بقينا هنا، سوف نتغير كليةً، ألا تشمون الهواء؟، هناك شيء ما في الهواء".

قال لأحدهم:

- "سام".

- "نعم ياهاري".

- "هل ستساعدني في بناء الصاروخ؟".

- "عندي معادن كثيرة ياهاري. لو أردت أن تعمل بمصنعي فعلى الرحب والسعة. يجب أن تكون قادراً على بناء صاروخ جيد، لو عملت وحدك يمكنك إنهاء ذلك في حوالي ثلاثين عاما، وعندئذ يمكنك مغادرة هذا الكوكب".

وضج الجميع بالضحك.

- "لا تضحكوا.. لا تضحكوا".

- "سام.. عيناك!".

- "كانتا ذات لون رصاصي.. أليس كذلك؟".

- "حسناً. لست متذكرًا.. لماذا تسأل ياهاري؟".

- "لأنهما الآن لونهما أصفر".

- "وهو كذلك ياهاري".

- "وأيضا صرت أطول وأنحف".

- "ربما تكون مصيبًا ياهاري".

- "سام.. لم تكن عيناك ذات لون أصفر".

- "هاري.. ما لون عينيك أنت؟".

-"عيناي!.. لونهما أزرق طبعًا".

- "هذا أنت ياهاري" وأعطاه مرآةً صغيرة: "انظر" تردد السيد بيزنج للحظة، ثم رفع المرآة في محاذاة وجهه.. في زرقة عينيه رأى قطعا صغيرة ذهبية.

بدأ هاري بيترنج بناء الصاروخ المنشود بمصنع سام، - "لن آكل هذا الطعام، لن آكل شيئًا من ثمار حديقتنا.. سآكل فقط من طعام أهل الأرض".

وقفت زوجته، وراحت تشاهده، وهو يعمل بجد، ثم قالت: - "لا يمكنك بناء صاروخ ياهاري".

- "لقد عملت بالمعادن منذ كنت في العشرين من عمري، حينما أبدأ بشكل موفق سوف يساعدني.. يجب علينا أن نهرب من هذا الكوكب ياكورا".

السيد بيترنج يعرف أن عظامه قد تغيّرت، وأخذت تذوب، زوجته بشرتها راحت تزداد قتامةً منذ أيام بتأثير الشمس، صارت سمراء ذهبية، الأطفال في أسرتهم أشبه بقطع المعادن.. خوفه لم ينته، يقيد قلبه وحنجرته، إن كورا ذهبية الآن!.. ارتفع نجم أخضر في السماء، لقد كان كوكبًا آخر، كوكبه القديم، "الأرض".. لفظة غريبة خرجت من بين شفتي السيد بيزنج "إيروت، إيروت" ثم كرر "إيروت" كانت كلمة مريخية، ولكنه لا يعرف أي كلمة من لغة أهل المريخ، في منتصف الليل تقريبًا اتصل هاتفيًا بثمبسون، فثمبسون يعرف الكثير عن الماضي:

- "ثمبسون. ماذا تعني كلمة "إيروت" ؟ ".

- "آه.. كلمة مريخية لكوكبنا الأرضي.. لماذا؟".

- "ليس هناك سبب خاص".

انزلقت سماعة الهاتف من بين يديه:

- "ألو.. ألو.. ألو!".

رُدِّدَتْ مرات ومرات، وكأن صدى الصوت يأبى أن يتبدد في الفراغ، جلس ونظر إلى النجم الأخضر..

- "بيترنج!.. بيزنج.. هل أنت على الخط معي". رد يا سيد بيترنج:

- "تأكل يا هاري؟".

- "نعم آكل.. لكن من طعام الأرض.. من طعام الأرض.. أتفهم؟".

- "نعم".

- "لقد أصبحت نحيفًا".

- "لستُ كذلك".

- "وأطول".

- "كذب".

بعد ذلك بعدة أيام حدثته زوجته بجدية:

- "هاري.. لقد استنفدت كل الطعام الموجود من الأرض، لم يبق شيء، سوف أضطر أن أمنحك طعامًا من ذلك الذي ينمو في تربة المريخ".

- "في تربة المريخ!.. بالقرب من الورد الأخضر!".

- "لابد أن تأكل يا هاري، أنت ضعفت جدًا".

- "نعم".

- "وخذ اليوم إجازة.. الأولاد يودون أن يسبحوا في البحيرات، من فضلك تعالَ معنا".. تعالَ معنا فقط لمدة ساعة واحدة، أتوسل إليك.. سوف تشعر بأنك أحسن بعد السباحة"

لاحظ بشرتهم، لقد أصبحت أكثر سمرة، رأى العيون الذهبية لزوجته وأطفاله. أعينهم لم تكن ذهبية من قبل، لقد سيطر عليه الخوف تمامًا مرة ثانية.

- "كورا.. منذ متى أصبحت عيناك صفراوين؟".

ترددت.. ثم قالت:

- "دائما.. على ما أعتقد".

- "ألم تتغير من اللون البني إلى الأصفر؟".

- "لا.. لماذا تسأل؟!".

- "لا تهتمي.. عيون الأولاد أيضًا أصبحت صفراء".

- "عيون الأطفال يتغيّر لونها حينما يكبرون".

- "ربما كنا أطفالا أيضًا، أطفالا هنا فوق سطح المريخ، على كل هي فكرة مقبولة".

تنمو الطحالب فوق العظام.. تغيير.. تغيير.. تغيير بطيء هادئ!

صعد ورأى تيم جالسًا على ضفة البحيرة قال:

- "آتا".

سأل الأب ابنه:

- "ماذا؟!".

ابتسم الولد، وقال لوالده:

- "أنت تعرف (آتا) كلمة مريخية تعني "الوالد".

- "أين تعلمت ذلك؟ .

- "لا أعلم.. فيما حولي "آتا"!".

- "ماذا تريد؟".

- "آتا أود لو غيرتُ اسمى".

- "تغيّره؟!".

- "نعم".

- "ما عيب الاسم "تيم".. سم جميل".

احت الأم تنظر للمياه فرأتها مثل مرآة زجاجية..

"حينما تنادونني "تيم.. تيم" لا أسمع ولا انتبه"، تساءل:

- "ما الاسم الجديد؟"

- "ليبل.. أليس هذا اسمًا جديدًا؟..أنا ليبل.. هل يمكنني استخدام هذا الاسم؟".

وضع السيد بيترنج راحة يده فوق رأسه، وراح يفكر في بناء الصاروخ، ويفكر في نفسه: لقد كان دائما وحيدًا، كان يعمل منفردًا في بناء الصاروخ.

- "لم لا ؟".

ثم سمع نفسه يقول:

- "نعم يمكنك استخدامه".

صاح الصبي في سعادة:

- "أنا ليبل!" وبكى.

- "أنا ليبل" وجرى عبر الحقول ورقص:

- أنا ليبل.. أنا ليبل.

نظر السيد بيترنج إلى زوجته..سأل:

- "لماذا فعلنا ذلك؟".

- "لا أعلم.. بدت فكرة جيدة".

قالت كورا:

- "المريخيون ليست لديهم مدن كبيرة كهذه.. يجب أن نسكن هنا بأعلى.. بهذه الفيلا أثناء فترة الصيف".

قال السيد بيترنج بصوت آمر:

- "تعالوا .. سنرجع إلى المدينة، يجب أن أستأنف عملي في بناء الصاروخ".

ومع مرور الأيام والأسابيع صارت فكرة بناء الصاروخ نسيا منسيًا.. يتذكر مصيره فوق سطح الكوكب المريخي..

- "لقد ذهب الجميع".

خرج السيد بيترنج وسأل:

- "أين؟!".

- " إلى أعالي الجبال.. إلى الفيلات ذات الطقس اللطيف البارد..

هل تأتي معنا يا هاري؟".

قال في هدوء: "يجب أن أعمل هنا".

- "عمل؟!.. يمكنك إنهاء بناء الصاروخ في فصل الخريف حينما يكون الجو ألطف".

- "يجب أن أعود للعمل".

قالوا في دهشة:

- "الخريف!".

وبقليل من إعمال العقل أدرك أنهم على حق، قال - بينه وبين نفسه-: فعلا. هناك متسع من الوقت للعمل في فصل الخريف..

- "لقد حصلت على (فيلا) بالقرب من بحيرة تيرا".

- "تقصد بحيرة روزفلت.. أليس كذلك؟".

- "بحيرة تيرا !.. إنه الاسم المريخي القديم".

- "ولكن على الخريطة...".

- "انس الخريطة. إنها بحيرة تيرا الآن. لقد وجدت (فيلا) في جبل بيلان".

- "أنت تعني جبل روكفلر".

- "أنا أعني جبل بيلان".

- "نعم.. نعم.. جبل بيلان".

- "كان الأثاث أكثر روعة في بوسطن.. عمومًا يبدو جيدًا هنا في الكوخ، ولكنه لا يناسب الفيلا".

قال السيد بيترنجٍ: - "سأكون كسولاً في الفيلا".

أغلقوا أبواب الكوخ.. نظر الأب في الشاحنة وقال:

- "لم نأخذ أشياء كثيرة.. أليس كذلك؟".

- "لقد أحضرنا أشياء كثيرة للمريخ، ولكننا لم نأخذ الكثير هنا" شغل السيد بيترنج محرك السيارة، ونظر خلفه إلى الكوخ الصغير للحظة طويلة، ودَّ لو اندفع إليه.. أراد أن يقول: (وداعًا)، أحس أنهم ذاهبون بعيدًا.

نادى سام:

- "أهلاً هاري.. ها نحن ذاهبون".

قال السيد بيترنج:

- "إلى اللقاء يا مدينة، وداعًا، وداعًا".

بكت العائلة الصغيرة.. لوّحوا بأيديهم، ولم ينظروا للخلف ثانيةً.

- "يجب أن نعود، لقد حان الوقت".

- "نعم!، ولكننا لن نذهب، لم يعد هناك شيء الآن".

- "المدينة خالية.. لن يعود أحد. لا يوجد مبرر الآن لذلك".

راحت زوجته تمارس أشغال الإبرة، وأولاده يعزفون على الآلات القديمة، أصوات ضحكاتهم تملأ أرجاء الفيلا الجميلة.. نظر السيد بيترنج إلى المدينة القديمة البعيدة القابعة بالوادي:

- "ناس الأرض بنوا مدينة غبية جدًا".

- "إنهم لا يعرفون طريقة أخرى جيدة، أنا سعيدة". ضحكا في مرح..تساءل:

- "أين ذهبوا؟".

نظر إلى زوجته للحظة. لقد أصبحت عيناها ذهبيتين مثل عيني ابنتهما. ونظرت إليه كان يبدو صغير السن مثل ابنهم الأكبر.. قالت مبتسمة:

- "لا أعلم إلى أين ذهبوا؟"

- "سوف نعود إلى المدينة العام القادم، ربما، الآن أحس بالدفء". سأل:

- "هل يمكننا أن نعوم؟".

بعد خمس سنوات سقط صاروخ من السماء، وهبط فوق سطح الوادي.. قفز منه رجال أخذوا يهتفون:

- "لقد كسبنا الحرب على الأرض!.. وجئنا ننقذكم!.. أين أنتم؟".

الأمريكيون وجدوا هيكل الصاروخ غير مكتمل، ويبدو قديماً.. بحثوا في التلال، القائد وضع مكتبه في أحد المنازل القديمة.. أحد الضباط عاد سريعًا ليقدم تقريراً، قال: "المدينة خالية يا سيدي، ولكن وجدنا بعض الحياة المريخية في التلال.. أناسا ذوي بشرة سمراء وعيون ذهبية، لا يحبون النزاع يتعلمون اللغة الإنجليزية بسرعة غريبة، ولقد تحدثنا معهم قليلاً، إننا لسنا مجبرين على قتالهم، وهم بطبيعتهم لا يرغموننا على ذلك".

- "سمر؟ !.. كم عددهم؟".

- "ستمائة أو ثمانمائة.. يسكنون في تلك الفيلات القديمة أعلى التلال، طمال القامة، أقوياء، ونساؤهم جميلات".

- "هل أخبروكم ماذا حدث لناس الأرض؟.. أين الذين بنوا هذه المدينة هنا؟".

- "لا يعلمون شيئاً عن هذه المدينة يا سيدي".

- "هذا غريب!.. هل تعتقد أن المريخيين قتلوا أهل الأرض؟".

- "إنهم يبدون مسالمين جدًا يا سيدي.. ربما أحد الأوبئة قضى على المدينة، ربما.. لا أعتقد أننا سنعرف الحقيقة".

نظر القائد حوله في الغرفة ذات النوافذ المتربة.. نهض ونظر من النافذة فرأى جبالاً زرقاء على البعد، "أمامنا عمل كثير سننجزه".

قال القائد مواصلاً كلامه:

- "يجب أن نقيم مدنًا جديدة.. يجب أن نحدد الأماكن الصحيحة للمناجم وإذا كانت كل السجلات القديمة فقدت فيجب أن نجهز سجلات وخرائط جديدة أسماء جديدة يجب أن تعطى للجبال ويجب أن نحدد أسماء للأنهار أيضا".

 

راي برادبري