سمات الوضوح والبيان في لغة نزار قباني الشعريّة ياسين الأيوبي

سمات الوضوح والبيان في لغة نزار قباني الشعريّة

وضوح شفيف ورؤية جلية, وليس غموضًا مستغلقا, لا سبيل معه إلى النفاذ إلى ما وراءه. هذه هي خلاصة شعر نزار قباني.

أدرك نزار قباني هذه الخاصية, فاتجه منذ بواكير شعره, نحو نسق شعري مكتنز بالوضوح, عامر بالأضواء الكاشفة عمّا حولها وتحتها من أسارير المعنى وتقاسيم الصورة, فأودع قصائده الأولى غلالات شفافة من رقّة اللفظ, ولطف المعنى, يُحدّث بها نفسه, ويسوقها إلى القارئ سطورًا ضوئية لا لَبْس فيها ولا التواء, بل انفتاح على كل الجهات, وأصوات خافتة تهمس في الأسماع همسًا, وتوقع إيقاعًا, مع الإشارة إلى أن بواكير الشعر لدى معظم الشعراء, تكتنفها التراكيب المثقلة بالمعاني والرسوم المتداخلة فيما بينها بما يشبه الزحام, لكثرة ما تتدافع قوافلهما في معابر الوعي ومدارج الخيال, وبعض هذه البواكير مفعمٌ بطعوم فكرية ورؤى حالمة تجعلك تشكّ أحيانًا بانتسابها إلى أصحابها الشعراء الفتيان, كما هي حال شاعرنا هنا في بعض ما نظم من قصائده الأولى, ومنها قصيدة تمتاز بطيوبها الفوّاحة, وترجيعها الخفّاق, وهي (22 نيسان), يقول فيها ما يحار المرءُ في تفسيره والبحث عن جذوره:

أنتِ يا وعدًا بصحْوٍ مُقبلٍ بعطايا فوق وُسْعِ البيدَرِ
الثواني قَبْل عينيكِ سُديً وافتكارٌ بإنائي جوهر
لو معي حُبّكِ لاجتَحْتُ الذرى ولحرّكتُ ضميرَ الحَجَرِ!


(من مجموعة: قصائد, الأعمال الكاملة جـ2/ص266)

مثْل هذا الشعر, وخاصة البيت الأخير, تجاوز حدود التصوير الشعري الجميل إلى شطحة إبداعية نادرة المثال, ولا أخفي عن القارئ, أني ظللتُ أحفظ هذا البيت منذ دراستي الثانوية في دار المعلمين ببيروت - على يد شاعرنا الكبير سعيد عقل الذي طالما ردّده أمامنا, وأنا أظنّه له, حتى وقعتُ عليه في قصيدة نزار هذه, فانتابني شعور استعظام لصاحبه الذي حلّقَ فيه فوق ذرى الفن الشعري, واخترق الحُجبَ, من غير التباس أو تعقيدٍ, أو حتى الغموض الفنّي في مثل هذه الشطحات الشعرية المبدعة.

فقد سما القباني بهذا البيت, وعلا علوّا كبيرًا, لكنه لم يُغلق دونه النوافذ والأبواب, بل ظلَّ موثوق الصلة بالوعي وأساليب الفهم, مع التحوّل إلى وهْج المجاز المرسل وانعتاق الخيال من عقاله, محَوّمًا كطيور النورس البحري فوق الجزر والشطآن البعيدة, أو النسور فوق الهضاب والآكام العالية.

تترجّح لغة نزار بين اللمح الخاطف, والسرد التفصيلي الذي يكشف عن مزيد من المعاني والمشاعر دونما انجرار إلى لغة النثر, التي تُعنى بالوصف والعرض وتسعى إلى نَقْل الواقع كما هو, فنراه ينساق وراء صور متلاحقة, يكشف فيها عمّا يخامره حيال الأشياء التي لا تعنيه بحد ذاتها, وإنما يتخذها مسرى لموّار حنينه وانشغافه, ومعبرا لمكنونات صدره, فيومئ تارة بكلمة, أو جملة, ثم يفتح كوى التعبير لينثر مزيدًا من ورد النفس التوّاقة إلى الإبهار, كقوله يُفصح عن العالم الذي وضع محبوبته فيه, ألا وهو (الخارطة) التي تتضمن شمولية الأشياء في المكان والزمان:

(جسمُك خارطتي...) ويتوقف قليلاً, لأن (الخارطة) هي صورة ما لعالم ما.

لكنه لا يكتفي بذلك, بل يفتح غير نافذة ليرسل منها بوارق ما يدور ويعتمل في جنباته, فيتحدّث عن الحزن, والجرح, والوجع...وينساب من هناك إلى مرايا العشق وطقوسه, في سيل من التشابيه المشرقة المصنوعة من تقاسيم الرؤى المطوٍّفة فوق جبين الوعي.

ويتكرر المشهد المرسوم, بتنويع جديد عبر نوافذ جديدة, متخذًا منحى بيانيًا أعمق, يبحث فيه الشاعر عن متّكأ بحجم الوطن, وما أدراك ما الوطن في ضمير الشعراء!

إنه محطّ الارتحال, ومستقر الأنفاس المحرورة, ومنتجع الحواس, وموئل الخواطر تُولد فيه وتنمو وتترعرع كأزاهير الحقول في مواسم الربيع, وتنأى عن كل أشواك الحياة المرّة.

وطن الشعر

وما أدراك ما وطن نزار هنا, حيث (التقى الجمعان) جمع الشعر (بفتح الشين) وجمع الشعر (بكسرها), يغتذي الواحد من الآخر, وتنداح عنهما لُهاثات الزنابق والرياحين, ويخفق الصدر بما لا يسع الضوء احتواؤه, ولا البصر ارتقاؤه.

وطن جعله القباني يرْفل بين أمداءٍ متقابلة بعضها في وجه بعض, ولكنها متكاملة في رسم اللوحة الشعرية المتناغمة: الجبين والجدار عبر الشعر, الحب والشمس, الشفة والذهب, النور والريح, في مقابل الضوء والبوح.., ليستقر في نهاية اللوحة عند الشعر الذي انطلق منه, كما لو كان نقطة البدء والتكوين, أو قل, هو كذلك ههنا, لأن الشاعر عاد ليرقد في عتماته كرقود الجنين في رحم الجسد.

فأنا مِن بَدْءِ التكوينِ أبحثُ عن وطنٍ لجبيني...
عن شَعْر امرأةٍ...يكتبني فوق الجدرانِ...?...ويمحوني
عن حبِّ امرأةٍ...يأخذني لحدود الشمس...ويَرْمِيني
عن شفة امرأةٍ...تجعلني كغبار الذهبِ المطحونِ


(من مجموعة أشعار (خارجة على القانون) المجموعة الكاملة جـ1 ص40)

ثم تتجدّد المعابر والمنطلقات, فيتوالى الطواف الشعري, بشكل دوائر لولبيّة, محاوريّة, كل محور له دورانه ومتعرجاته, فقد انطلق من (الخارطة) - العالم, إلى دوائر وأقاليم أصغر, ومنها إلى ملامح وتقاسيم, منتهيًا برحم الشَّعر والشِّعر, ثم انعطف إلى محور جديد لعلّه أرسخُ مقامًا وأعظم دلالة, وهو الماء في نقطة واحدة تتّسع وتكبر لتدخل في خضمّ الزمن المتحوّل من النضج والحصاد في نهاية الصيف, إلى الترهّل والاحتضار في فصل الخريف:

أَنا نقطةُ ماءٍ...حائرةٌ بقيتُ في دفتر تشرينِ


لكأن الشاعر أحبَّ أن يلفت إلى ما يتنازعه في زحمة انبهاره واستقراره الموطنيّ الخالب, إلى لحظات ارتجاج أخذت تولد على ضفاف (الوطن), وربوعه, فجعله يتحسّس التغير شيئا فشيئا, ويحاول أن يتشبّث بالموقع الذي هو فيه, ويخرجُ من دائرة الحيرة, إلى ما هو أقوى من الحيرة وأبعد: الارتماء تحت حوافر الزحف القوقازيّ التي تسحق كل ما تحتها, ومادام الأمر كذلك, فلْيُسابق التتار والمغول, وليُثْبِت لهم, أنه في حبه, أكثر منهم همجية وإبادة:

يَدْهسني حبّكِ...
مثل حصانٍ قُوقازيَّ مجنونِ
يَرميني تحت حوافرِهِ...
يتغرْغَرْ في ماءِ عيوني
(....) من أجْلكِ أعتقتُ نسائي
وشطبتُ شهادة ميلادي
وقطعْتُ جميع شراييني

(المرجع السابق ص 41 و42)

لئن بقيَ شيءٌ يُخبر عن حضارات الشعوب وتواريخها, بعد اجتياح المغول...فهو لم يبق ولم يذر...أسال كلّ دماء البقاء, لا لشيء إلا ليحرز قصب السبَّق في صراع الوجود وتدمير خرائط العالم, لإعادة رسمها وبنائها من جديد على هواه.

رأينا حتى الآن بعضًا من سمات الوضوح والبيان, في لغة نزار قباني, ووجدنا أنه وضوح فنّي بامتياز تعلق فيه الحقيقة والخيال, وتعلو نبرة المجاز على ما عداه من محسّنات معنوية وبيانية, وتسطع الرؤى الزرقاء في أديم اللوحة المخضّبة الألوان, سطوعا ينمّ عن اختمار طويل لمشاهد الحياة, في ضمير الشاعر ولاوعْيه.

الرسم بالكلمات

ولو توسّعنا في القراءة الشعرية, صعُدًا حتى ديوانه السابع: (الرّسم بالكلمات), لطالعتنا سماتُ وضوحٍ أخرى, يترنح فيها الإيقاع الشعري على هديل القوام الأنثوي, يعمرُهُ ويملأ جوارحه, فيتهادى الكلام على أوتار الحنين المتكرّر في صدر المرأة المحبوبة, ويخرج من لسانها شَررًا من جوى دفين, وخيوطًا من شبقٍ مقيم, ترسمه ريشة الشاعر بأصدق مما تفعله المرأة وتقوله لذاتها, فإذا الشاعر يختلس الهنيهات التي يضطرم بها فؤادُها, وتحوكُ منها أهزوجة سمر طروب, يحقق فيها معادلة فارقة بين قلبين محمومين بلظى التوق والانشداد كلٍّ إلى الآخر:

إنها معادلة التضوّر للتساقي والارتشاف, في غنائية التمنّي, ظاهرها مؤدّى بضمير المرأة ولسانها, وحقيقتها تومئ إليه هو ضميرًا ولسانًا ومدارًا:

تعوّد شعْري الطويلُ عليكْ سَنابلَ قمحٍ على راحتيكْ
تعوّدتُ أُرخيه كلَّ مساءٍ كنجمةِ صيفٍ على كتفيْكْ...
فكيف تملَّ صداقةَ شعري? وشعْري ترعرعَ بين يديك!!


(ديوان: الرسم بالكلمات/المجموعة الكاملة جـ2 ص526)

في هذه القصيدة يشْمخُ الشاعر على قلمه, وهو يبثّ حرارة صدر لا يدرك مطاويه إلا بارئه ومصوّره...فإذا به يغوص داخل الضلوع, ويسترق هسْهساتِ الخفق الأنثوي, ورشحات الحزن المعشش في الأعماق, فنتساءل: هل هي مغناة وصاله الحزين الذي دبّ فيه القلقُ جرّاء ابتعاد مقبل عن دالية الجسد وتوهّج سنابل القمح الذهبي, أم تحسّسه المبكر لما تئول إليه حال المرأة المتفجّرة توقًا, وانشغافًا بديمومة حياة متناهية الدعة والسكينة?

إنّ معظم ما يُحدّث به الشاعر عن الأشياء, سواء أكان في الإنسان أم في الطبيعة, إنما هو حديث الذات للذّات, وصدى المخاض الكامن في الأغوار, يتوسّل الآخر ليوضح ما يتداخله بيسر وطواعيه, ويصوغه بدقة وأمانة.

يتمرّى الأشياء, ليرى فيها ما لا يراه وهو قابعٌ في قراره.

المهمّ في هذه القصيدة, تبيان القدر الفني العالي, لسمة الوضوح الشعري, وإدراك المدى الذي أوتيه الشاعر وهو يرسم هذه الرعشات, وينفخ فيها الحياة.

إتقان الوضوح

فالوضوح في شعر نزار بعامة, يبدو للوهلة الأولى, ولمن لا يعرف إعجاز الخلق الفنّي, كمن يلهو برمال الشاطئ, ويزخرف فوقها من رسوم عبثية, لا تتطلب أي جهد أو مهارة, والحقيقة أن ذلك من الصعوبة بمكان, فنحن هنا نحكم فقط على وضوح المعنى وسهولة السياق اللفظي الذي يقترب - من حيث الشكل - من النثرية, ويفوتنا أمران: الأول: إتقان اللغة الواضحة, موهبة وقدرات قد تفوق بكثير موهبة الغموض وقدراته الأسلوبية, فما أيسر أن نؤلّف كلاما متداخلا ملتبسا, غائما, عابثا, ولا نفهم منه شيئا. وتلك هي حال معظم ما يُنشر من نثائر (ولا أقول قصائد نثر) هنا وهناك, في دوريّاتنا وكراريس الشعر الحديث.

والثاني أن هذه المقاطع الشعرية الطيّعة, يصاحبها تقسيم غنائي مرسل تؤدّيه أنامل عازف صنّاع, وتنشده حنجرة متمرّسة بالمقامات الموسيقية الشرقية الموغلة في فنون الطرب والإمتاع. اقرأ معي هذا المقطع, من القصيدة عينها:

(حبيبي! أخافُ اعتيادَ المرايا عليكْ...
وعطْري, وزينة وجهي عليكْ...
أخافُ اهتمامي بشكل يَديْكَ
أخافُ اعتيادَ شفاهي...مَع السنواتِ, على شَفَتيكْ
فكيف ستَنْسى الحريرَ? وتَنْسى...صلاة الحرير على ركبتيك?).

واسبر مثلي غورَ القُنوط الوديع المرفرف فوق الحروف والعبارات, وارشفْ مثلي هذه الخفقة المذهلة, الصادرة عن المرايا وهي تَشِي بأسرارٍ لا عَهْد لك بها, أو أنك غافلٌ عنها. فهي تنمَّ عن انبثاق المُتَع الموصولة اختزَنتْ تفاصيلَها المرآةُ, وشَهِدتْ وحدَها اندلاعَ الجوى المحموم قُبالتها, وحَفِظت صورَ العناق, تَرنّح فيه الفراغُ من ثقل الوهج والانتشاء.

سوف نظلم الشعر إنْ قلنا إننا أمام نصٍّ شعري مباشر لا أثر للإبداع فيه والكلامُ مألوف, والصور مألوفة, وغيرْ ذلك مما يسوقُه بعضُ الدارسين المنحازين لنمطٍ معين من كتابة الشعر.

نظلمه كثيرًا لأننا جعلنا الشعر إنتاجًا خاصًا لا يكون كذلك إلا إذا كان غامضًا, سواء أكان الغموض سويًا معافى أو مفتعلاً, أكان تلاعبًا, أم عبثًا بقواعد التركيب اللغوي وأصوله وبيانه وإعجازه الفني الراقي.

فليعلَمْ كلٌّ منّا أن للشعر مذاهبَ وأساليب, ورؤى ومُدرَّجاتِ سمُوٍ, قد يكون الرمزيُّ فيها, المثقلُ بالومض الموحي, أغنى الأنواع وأعمقَها, ولكننا لا يَسعنا أن نزوَرَّ عن حزم الضوء الساطعة تُشرق علينا من وراء جبل شاهق, فتبعثَ البهجة والحياة في النفوس, ولا عن شراعٍ يزهو بهدهدات الموج ورنيم النسيم المؤنس العليل.

نحن لا ندعو إلى اعتماد الوضوح كيفما كان, في النظم الشعري, ولا نُشيح بوجهنا عن الغامض المرتحل بنا إلى عوالم قصيّة, الباعث فينا نوبات من التخيّل الخلاق وابتعاث هيئات جديدة لم نعرفها من قبل, لكننا في الوقت عينه لا نجد بدّا من الإعجاب الشديد بمن جعلَ من السهل المطاوع أفانين إمتاعٍ, وجنونَ إشباعٍ لكثير من تطلعاتنا الفنية, طالما افتقدناها في حومة الهجوم الصارخ على حُرمة الشعر وقدْس أقداسه المتمثل في تجنيبه كل هذْر ومبتذل, وتنقيته من كل سقط وانحراف, وإغنائه بكل جميل متقن رشحت به قريحةٌ عبقرية, وشادتْه ذائقة مثقلة بأساليب البيان الأدبي الراقي, بعيدًا عن رطانة المعالجة والتوصيف, وعُجْمة الإيماء الأجوف, وحُبسة الإيحاء الأرحب...

وأختم بأن نزار قبّاني الذي (ملأ دنياه وشغل عصره) كما لم يشغلْه شاعر عربي معاصر, لم يكن ذلك عن نَزقيّة الشعريّة الأنثوية, والغوص إلى دفائن صدورهنّ فحسب, بل هناك عامل ربما كان الأهم: ألا وهو: موهبة الأداء الشعري الواضح, والصياغة المذهلة في خفّتها ورشاقتها وسرعة التجاوب معها لدرجة عالية من التأثر والمشاركة, بغض النظر عن مواضع كثيرة سقط فيها الفن الشعري, وسيطر الابتذال والسطحية, وهذا ليس وقفًا على نزار وحده, فما أكثرَ ما وقع فيه كبار الشعراء على مر العصور.

 

ياسين الأيوبي 




 





!.نزار قباني وسهيل إدريس وبينهما زوجته عايدة