مختارات شعرية سنية صالح

مختارات شعرية

كانت عملية انتقاء هذه المختارات, وما تطلبته من إعادة قراءة دواوين سنيّة صالح أكثر من مرة, نوعا من الاستفراد بتجربة امرأة مشبّعة بالحساسية, وموشكة دائما على البكاء.

توشك أن تبكي حنانًا, وتوشك أن تبكي وحشة, وتوشك أن تبكي غضبًا وتوشك أن تبكي حكمة وحبًا للطبيعة وخوفًا عليها. والأمرالذي يبعدها قليلا عن البكاء, على عكس المتوقع, هو المرض الذي يشُّدها نحو الموت.

وكانت قراءة أشعارها دفعة واحدة معايشة لأمّ وزوجة وحبيبة وامرأة منسحقة في عالم من هذا النوع, وأوطان من هذا النوع. ولكن, وهذا هو الأهم, لامرأة قادرة على أن ترى وتسبر أغوار الدنيا والناس, وأغوارها هي.

تشعر وأنت تقرأها كم كان بإمكان امرأة من هذا النوع أن تعيش سعيدة لو أنها ظلّت مستكينة في داخلها, لو أنها لم تكن (ترى). فحتى غضبها يرشح رقة. وهي تؤنّب هذا العالم الشنيع, بمرارة وخيبة, وكأنها تربّي ابنًا خان الحليب.

تؤنبه وهي توشك أن تبكي عليه, ومنه.

منذ قصائدها الأولى, تجعلك تشعر أنها تعاني من نزيف خاص لم يكن يشعر به أحد غيرها.

فنزيفها هذا صامت متسلّل مثل الزمن الذي كانت تراه يفرّ من أصابعها. وأول ما ينساح في هذا النزيف هو أحلامها. وبالتالي فنحن بالقراءة لا نتسلل إلى أحلامها, بل ننتبه إلى النزيف الصامت لهذه الأحلام.

وهي, أيضا, متماهية مع الطبيعة. وما تراه هناك ينعكس على ما تحسه في جسدها, حتى قبل المرض. فَعَكَرُ الأنهار منعكس على تلوُّث الدم, والخريف يحمل معه تعب القلب. ولذلك فشِعرها ينبوع صغير في أرض رملية يسيل منه الماء دون ضجيج, ولكنه صدر عن مياه جوفية عميقة وخفية, ومن منطقة البراكين المكتومة.

سنيّة صالح تجعلك تتمنى لو تحيط كتفيها بذراعيك لتقيها البرد والوحشة, وربما لتمنع جسدها الضعيف من التهاوي. فهي جزء منك. إنها تكتب منطلقة من نبع إنساني تكتشفه فيك وأنت تقرأ. وتأتي الكتابة مشبعة بالأنوثة, الأنوثة بما هي حنان ومرارة واقتراب من الاختناق, والأنوثة بما هي أمومة ناضحة وناضجة في آن, والأنوثة بما هي طراوة وهشاشة أمام قسوة عالم, لا تملك ما تجابهه به إلا الشهادة ضده.. بشجاعة لا تتوقّعُها منها.

ولكنها في قصائدها الأخيرة, وهي ترى الموت, تزداد مكابرة, وتزداد قدرة على الرؤيا ورفع الصوت الهامس. وتصبح قادرة على تكثيف حياتها كلها في عبارات كاشفة لهذا العمر المرير, وتلك الحياة المرة.

وكانت عملية الانتقاء صعبة. فالانتقاء قرار يُفرَضُ على النصوص من خارجها. ولكنه اختيار ذو هدف, والهدف من داخل التجربة, كأنه اجتهاد لتلخيص تجربة الشاعرة. وبالتالي فالانتقاء يتحول إلى محو بعض الخطوط التفصيلية لجعل التجربة أكثر كثافة ووضوحا.

ولهذا, قمت, أحيانًا, بما يُشبه المونتاج للقصيدة الواحدة. واكتفيت من بعض القصائد بمقطع صغير واحد رأيت أنه يشكل قصيدة مستقلة.

ولاشك أن شخصًا آخر كان يمكن أن ينتقي غير ما انتقيت, فالانتقاء أيضًا يعكس موقفا من الشعر ووظيفته.

ولكنني أعترف أنني كنت أتمنى لو يتسع المجال لإعادة نشر شعرها كله دون تدخل فشعرها بين القليل الذي جعلني أستمتع بالتخلي عن حيادي المسروق مني, والذي يجبرني على الدخول إلى القصائد. لقد جعلتني قصائدها أحس بالزهو لأنني أقرأ, وهو شبيه بالزهو الذي كنت أشعر به وأنا أكتب ما أحب أن أكتب.

لقد كانت مؤثرة حتى جعلتني أشعر أنني أمّ, أو أتمنى أن أكون أُمًّا.

ممدوح عدوان

الحظيرة

كلما خُيِّل لي أنني اقتربت من أبواب الفجر
طارت الأبواب إلى أماكن مجهولة
وتابع الليل غزوه.
اشهدوا أنني أسيرة ذلك الليل.
...... أفتح نوافذي للحب
فيدخلها حشد من العشاق والراغبين في الجسد
حاملين معهم الجشع والعبودية
تطأ نعالهم العمر
وهم في توغلهم العنيد صوب القلب الغائب.
وكالأسلاك الشائكة
يشقّون طريقهم في الشرايين
كأعداء وجواسيس,
كجموع لا همّ لها
إلا أن تقذف منصة الأحلام بنار الجحيم.
لكن أيها العشاق الفاتكون
إنها المنصة الوحيدة الباقية
للحب والوطن والأطفال.

خريف الحرية

.. أيها الحب
ما الذي أيقظك.. والفجر فجر المذابح?
من الذي أضرمك
أيتها النار الأبدية
في صدري الشريد?

***

إيه أميون
ألا تزالين مختبئة كالقمر
على سطوح الباطون المسلح
حيث كنا نقضي سهرات الجنوح الأولى,
خائفين متلاصقين,
والرياح تغط في نومها العميق كالرخم?
أميون
كفاك تشبثا بالأرض
فالعالم يهجر محطات اسفارك
يهجر الاماكن التي كنا نهتف منها للحرية.
كفاك تشبثًا بغيوم الأحلام
فالنجوم تقذفك بنيرانها..
أميون..
ما أسهل اقتلاعك.
ومع كل زفير
تمضي الحياة خارج قبضة الحب.

الفجر

أيتها الدماء العظيمة.
هو ذا علم الحرية يستحم بك,
تزيلين عنه بشاعة الطغيان
تعيدين له عظمته,
ذلك القماش الملطخ المهترئ,
فما أبهظ الثمن!

***

هُبي يا رياح المتوسط
واضربي بأجنحتك الزرقاء جميع الشواطئ
أيقظي البشرية,
لقد نبت الأقحوان على تلك الخرائط الواسعة
من الرمال والخرائب.

الوحش في الروح

لم يكن هناك من شهود.
كلها في المخيلة.
وحش متفوق.
ظهر فجأة في أحراج الروح,
في أوطان الغانية وتحت مصابيحها الساهرة.
قذف القصائد في الريح
وجلد الأطفال على العتبات,
ثم اعتلى منصات الوطن,
وأخذ يغني كالأبرياء.
ها هو القلب ينفجر,
والوحش يتمادى في أحضان الوطن,
والوطن مكسور,
ومطويّ تحت الأجنحة العالية.
وطني أسير خلف كمامات الإرهاب,
عكر كنهر تخوضه الجياد.
وطني يعوزه الماء والجنون,
تعوزه الضغين
كي يصير ذئبا ضاريًا على الانكسارات.

ورقة خريف

لا تأخذيني أيتها الريح.
أبعدي أذرعك القاسية عني.
ما أنا إلا ورقة صفراء, هشة,
سقطت البارحة عن هذه الشجرة.
وها أنا أدور حولها
وأدور...
أستظل بها
وأحلم بالرجوع إليها.

حرب الذاكرة

نادني أيها المجهول
بكل أصواتك المدهشة.
امنحني سفنك المنقذة
فقلبي بحرُها الصغير
الهائم بحبك.

***

لو كان لي أحبّاء
لناديتُهُم بصوتك.
لو كان لي وطن
لجعلتك علمًا له.
لكنني غريبة وعزلاء كالراهبة.

الأرَق

... في الحلم أصير عالية
بيضاء كالغيوم
سعيدة كالأطفال.
الحلم الرائع هو أنت.
الصورة الخفية التي تسعدُني
ثم لا تلبث أن تؤرّقني,
النشيد الخفي الذي يحرضني.
أحب غربتي فيك
أنا وردة الطين المنتهية,
أنا الذاكرة التي تلسع
وتختفي.

العبيد

كان النهر يثب وينتفض
والمفاجآت تتراكض
والزمن الأسود يلد الأيام والسنين
يلد الحروب والكلاب والمواخير..
وعندما غاصت سُفُنُنا الفاشلة
في وحل القاع,
رحنا نجرها كالعبيد..
.. خسرنا كل شيء..
.. أهو الزمن يبتلع عشاقه?
يزمجر
ويخبط بذيله
على الأبواب والأرصفة?
ونحن نتشبث بجلده

احتضار امرأة

....... لأن السماء أكثر تعاسة
من عيوننا,
والنشيج يهز أعماقنا بالسياط,
فَنَلوي رءوسنا كالبجع الغريق.
المرأة متوجة بجراحها
والصياد يطارد ظله.
الفارس يصطاد جراحه,
وأنت أبدًا يطاردك الموت
بسيوفه الحزينة.
دموعنا متكاثفة من أجلك
كسفن مليئة بالغضب.
لأفكارك رائحة الرعب:
(كانت تحمل رعبًا خفيًا
بين نهديها المتعبين).
يا حبيبتي
موتك هزيمتي الكبرى
وعويل بشر لا نهائي...

أحزان العصافير

العصفور الذي يولد مع الليل
يغرد بين قلبي وقلبك
وحين يجفل,
نضيع.

***

أولد مع الظّل
وأموت عارية في الضوء,
حيث البنفسج هو الذكرى الوحيدة
من بقايا الروح.

***

.... ولدت مع الضوء
يا امرأة العاصفة
وإليها عُدتِ
ونسيت سوطك على الوجه.

***

....... في الشتاء
تنام أفكارنا وورودنا
كما تنام العصافير
الآتية في أواخر الليل
وهي تحمل الخوف والانتظار
بين أجنحتها الصغيرة.

***

.......... ترتعشين كالعصافير
إذ تضرب خواصرها أجنحة الريح
والمطر.
وحين أرفعك مصباحًا وحيدًا
فوق أحزان المساء
أراك مطفأة.

***

قبل أن يدركني اليأس
اقفلي يا صغيرتي ذراعيك الخائفتين
حولي.
وارمي مفتاحهما في البحر
وأغلقي دهشة عينيك بعينيّ
كي لا ترى أصابعي
ترسم على الحراب
كي لا يفاجئك العويل.
يا ساحرتي
يا امرأة تغزل شعرها في الشمس
من أجل الحزن والسفر عبر الأنهار
من أجل الحبر الممزوج بالدماء
رفعت وجهي بريئًا
كعصفور يرتعش تحت المطر.

أغنية زنجية

أيها الغرباء التائهون
أيها الباحثون عن كنوز الموتى
ومناجم الخراب
صمتًا..
صغاري منثورون
في صقيع الحفر.
أشُمُّ رائحَةَ احتراقي
آتيةً من غابة الموت,
آتيةً تَهدِرُ على الدروب.
وأنا وحدي الضحية.
عندما يموت الشعاع في صدري
ينهض زنجي لينقر طبله
وينشد للدم الأغاني,
وما من راقص..
.. صدر الحبيبة عار
والزرافات حبيسة الهلع..
آه
لم أعد أملك ليلي.

أغنية للجزائر

.. المساء يُسرجُ أعوادَ القَصَب
الدرب تأكل الأقدام الصغيرة
وأنا أسير
بلا ليل
وطني ورائي
والرياح قافلتي الكئيبة.
.. لحم أطفالنا وليمة
لحم أطفالنا يفرخ الرعب
قوس الرعب فوق المدينة
يُبحِرُ في عينيك يا وهران.
حُزُم المأساة في ظهورنا.
فَظُلَّتنا موت.
موتنا مطر.

***

هذيان..
الغراب يعانق جناحه
والدم ينبع من الأرض الصلبة.
هذيان..
ألبسك
أشربك أيتها الحرية..

الجرح والرؤيا

وردتان من النعاس ترتعشان
فوقك يا وسادة.
وردتان ذابلتان:
رأسي وهذا المساء.

البراري النائمة

البراري النائمة منذ الولادة
يوقظها كناريٌّ ضائع
والأشجار المتعبة
ترفع سواعدها المائية
لطيور الجليد والبحيرات.
الأشجار البائسة تفرش أحضانها
لحيرة الأرض والخريف
لغضب النجوم وأحاديثها الطويلة
عن السفر والصقيع.
تستعر حصاتك في القاع
أيتها الذاكرة الحزينة
وتلبسين المرارة.
لكن المرأة التي تملك البكاء وحده
أسيرة أبدًا.
فامنَحي عُرِيكَ للجبال الخجولة
وارفعي مفاتنك
حيثُ السّرُّ مدفونٌ
في كنائس الشتاء.

صليل الأزمنة

.. في أي موسم حلت الريح
ضيفًا على أشجارنا?
في الشتاء جاءت
وفي ذلك الشتاء رحلت
كأمير مهزوم
يجرجر رمحه
متهالكًا على الأشجار
يطلب مأوى..

البحيرة

لأنه حزين
ارتدى الأجراس الملونة
قناعًا للفرح
أوثق نوادره على طرف لسانه
كي لا تخونه في اللحظة المناسبة
وسار بخفَّيهِ المُرَصَّعَين
وحيدًا كالليل
ولا نجوم بانتظاره
سوى عينيّ.
أيها الطائر المحلق عبر الآفاق
تذكَّر أن الرصاص في كل مكان.
تَذَكَّرْني
أنا المسافرة الأبدية.
طوال حياتي أَغَذ السير
وما تجاوزت حدود قبري.

شيء ما

ماذا تفعل في الحرب?
أهرب
أغني مثل غراب
أمرض
ربما أموت
وأنت?
ألتصق أكثر وأكثر بمن أحب.

الشتاء

.. هل الربيع يلبس ثياب الجلاد?
أم هو طفل يتنزه في الحقول?
يخلق من النسائم أشواقًا وتنهدات
ويرسم للأشجار,
تلك الكائنات الملونة,
أقدامًا صغيرة
لتتبعه حيث يشاء.

حدقتان من العشب

استلم خطواتي
يا شارع السكون
وتسكَّعْ معي
ناشرًا حكاياتك الندية
على المنكبين
قبل أن تعربد الريح
على الرصيف المهجور,
على القُمامات الليلية.
يا شارعًا مملوءًا بالبؤس والانتظار
ربما كنت ممرًا صغيرًا
إلى غابة الصباح
تتثاءب في الليل
وفي النهار
ومع الفجر تنشر أجفانك
كالأشرعة
فوق عينين من العُشب الندي

 

سنية صالح