عالم جديد من حرب باردة إلى سلام ساخن فيديريكو مايور وجيروم بانديه عرض: ولاء فتحي

عالم جديد من حرب باردة إلى سلام ساخن

يقول مؤلفا هذا الكتاب (من الأفضل أن نعدّ أنفسنا للاستجابة في الوقت المناسب لتحديّات المستقبل حتى لا يجيء الغد - كما يأتي دائمًا - بعد فوات الأوان).

هذا هو بالتحديد هدف كتاب (عالم جديد) الذي يبدأ بإلقاء الضوء على أهم سببين لتغيير نظرتنا إلى العالم, الأول هو الثورة العلمية الهائلة, أما الآخر فهو الثورة الصناعية الثالثة, وهي التي يراها مؤلفا الكتاب السبب الرئيسي لتغير العالم وتحويله إلى عالم عالمي. لذا فإن ردها إلى العولمة هو خلط متسرع بين السبب والنتيجة! المؤسسات تنهار لتعيد تأسيس نفسها وفقًا لحركة متسارعة, البلدان تتشظى وتغدو عرضة لقلاقل طاردة عن المركز تجرّدها من تركيبتها الإثنية المتنوعة, السوق العالمية تقوم بتقطيع أوصال الأسواق الوطنية وتفكيكها, حتى لم تعد الانفصالية جناية تستحق العقاب, وعلى مستويات أكثر حميمية, فإن الأسر تنهار ويغدو الأزواج والزوجات المرايا المؤقتة لتقسيمات تميزية اجتماعية واقتصادية هشّة, أما فيما يختص بالتعليم, فالصورة لا تقل قتامة, فهناك عشرون إلى ثلاثين بالمائة من التلاميذ - أو أكثر - مستبعدون عمليًا من المجتمع الجديد القائم على المعرفة والتعليم, فالطبقات المرفهة تعزل أطفالها في مدارس ومعاهد وجامعات متميزة تكفل لهم عولمة فرصهم عن طريق مسيرات مدرسية وجامعية عبر قومية في الوقت نفسه الذي صار يسند فيه إلى التعليم القومي مهمة توزيع شهادات لا قيمة لها في سوق العمل. وما يحدث على المستوى التعليمي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بموجة الحضرنة التي لم يسبق لها نظير, لمواكبة (الابارتهيد) الحضري الذي يقوم بالإقصاء, في اللحظة ذاتها التي يقوم فيها بالانتقاء.

تحديات أربعة

إن هذه المآسي تضعنا أمام تحديات أربعة رئيسية يتصدى لها مؤلفا (عالم جديد), وطبقًا لشروط يريانها ضرورية, أهمها هو الحماية ضد أوهام الإدراك التلفزيوني في مجتمع تسيطر عليه وسائل الإعلام. وإذ اطمأن المؤلفان إلى تحقيق هذا الشرط, فقد تصديا للتحدي الأول, السلام, وهو التوطئة المسبقة لحل التحديات التالية. أما الثاني فهو الفقر. فهل سيشهد القرن الجديد تفاقم فقر لا مثيل له يطل ضحاياه كظلال شبحية ليلية على الجانب الآخر من ستائر نوافذ (الابارتهيد) الاجتماعي والحضري?! وبالطبع سيكون التحدي الثالث هو الإدارة السليمة لكوكب الأرض والتنمية المستدامة. ويطلق الكتاب على التحدي الرابع (متلازمة القارب السكران), فالعالم يبدو وكأن التاريخ قد يسقط في أيدي سادة مجهولين, تجريدات لم يعد يسيطر عليها تسمى الأسواق المالية, وأسعار الصرف وأسعار الفائدة وأسعار المواد الخام والأرقام القياسية والوقائع الاجتماعية من كل نوع, سلطة الدولة تتآكل, وتبدو غالبية المشكلات وكأنها تتجاوز الحدود وتتحول إلى قضايا دولية. وهنا ينبغي التأكيد على أن الحل يكمن بالضرورة في أنسنة العولمة, بل وتعميمها, بحيث لن يكون هناك غنى عن ديمقراطية دولية أشمل, لإعادة فتح العولمة أفقًا مشروعًا للمغامرة البشرية. وكمحاولة من المؤلفين لأنسنة ملامح المستقبل المعولم, يطرح الكتاب مبادئ أربعة عقود جديدة, قد تكون بداية لتوطين تحالف جديد بين الأمم والشعوب لمنع العنف والحرب, أول هذه العقود هو عقد اجتماعي يتصدى للتآكل البين الذي أصاب العقد الاجتماعي للقرن العشرين, وثاني تلك العقود هو عقد طبيعي ثم عقد ثقافي, وأخيرًا عقد أخلاقي.

نحو عقد اجتماعي جديد

يطرح هذا القسم من الكتاب الأسس الأولى لعقد اجتماعي جديد للقرن الواحد والعشرين آخذًا في الاعتبار الزيادة المستمرة في عدم المساواة, لذا فإن الأولوية الأولى تتمثل في إعادة بناء التضامن عن طريق القضاء على الفقر والحد من الفوارق المخزية التي تؤدي إلى اليأس والحرمان.

وزيادة السكان التي يراها المؤلفان قنبلة موقوتة بالرغم من أن كل التوقعات, تنبئ بأننا سوف نشهد على المدى الطويل جدًا, ليس تفاقم الانفجار السكاني, بل نقيضه, ولكن ستظل المشكلة في توزيع السكان غير المتوافق مع توزيع الثروة وهناك تحديات ترتبط بهذه الأطروحة أهمها تأثير الزيادة الديمجرافية على الأمن الغذائي والبيئة والموارد الطبيعية والفقر والتنمية بوجه عام, ومفاد القول أن خفض الزيادة الديمجرافية ليس كافيًا لضمان مستوى المعيشة. وفي مواجهة هذه التحدّيات يكمن الحل في خمس أولويات هي تعليم النساء وتمكينهن من تقرير مصيرهن, وتعزيز التنمية العلمية والتكنولوجية, وتغيير أساليب حياتنا وأنماط إنتاجنا واستهلاكنا. وتظل الحاجة قائمة إلى تعزيز مشاركات جديدة في سبيل التنمية وتعزيز النمو, وهو الأمر الضروري للتصدي للفقر والحرمان الذي تخطى الحد ليصبح فضيحة تكشف عورات القرن العشرين, فالعالم قد شهد زيادة هائلة للفقر منذ بداية ثمانينيات هذا القرن, وطبعًا تجيء النساء والأطفال في مقدمة المجموعات الأكثر تأثرًا. ولم تعد الفجوة الاجتماعية الضخمة تفصل بين الشمال والجنوب فقط, بل توجد داخل كل بلد حتى الصناعية منها. ويرجع المؤلفون أسباب تفشي الفقر إلى الأوضاع الاقتصادية بالدرجة الأولى, مع طرح مبادرات عدة للنضال ضد الفقر عن طريق استراتيجيات طويلة الأجل تقوم بالأساس على دعامة التعليم دون إغفال لدور المجتمع الدولي. وغني عن القول أن كل هذه التغيرات سوف تؤدي بالضرورة لتغيير شكل المدينة, وهو الأمر الذي يعني تغييرًا للحياة بأكملها.

فأيّ مدينة هي مدينة القرن الواحد والعشرين? الإجابة لا تحتاج إلى الكثير من التفكير, فهي التي تلبّي حق المسكن لكل مواطن, مع انفتاح المدينة على أطرافها كأولوية من أولويات التنمية, تضاف إلى ضرورة تعزيز وسائل المواصلات داخل المدينة, وبينها وبين المناطق الداخلية, وهذا يتطلب قبل كل شيء سياسة حريصة على التوفيق بين التنمية والبيئة, مما يستلزم الاعتماد على طاقة مستديمة لمدن القرن الواحد والعشرين. وفي هذا الحيّز, تطرح مشكلة المياه نفسها بقوة لأنها ستمثل أحد العوامل الأكثر حسمًا في الصراعات, وبالتالي يشدد المؤلفان على ضرورة إعداد سياسة حضرية للمياه ترمي إلى تفادي الفاقد. وتظل المشكلة الأكثر تأثيرًا على شكل مدينة القرن الواحد والعشرين هي صعود (الابارتهيد) الحضري. إن هذا الصعود الهائل للحضرية يرتبط بضرورة توفير مستقبل أكثر أمانًا وأكثر نظافة وأكثر قربًا لوسائل النقل الحضري مع إعطاء الأولوية لوسائل النقل العام وضرورة النظر إلى البعد الإيكولوجي. وبالرغم من هذه الصورة البانورامية التي تبدو قاتمة في الكثير من أجزائها فإن تحرير المرأة سيكون أهم ما ستحتفظ به ذاكرة المؤرخ كأكثر الأشياء التي حدثت في القرن الماضي إيجابية, حتى لو كانت القطيعة مع الاستعباد لم تصل بعد - حتى في البلدان الأكثر تقدمًا - إلى التمتع الكامل بالحقوق, إلى الحرية والمساواة الفعليتين. إن أفضل الإنجازات في هذا المضمار قد تحققت في مجالي التعليم والصحة بفضل الأونيسكو, ويبقى التمييز والفقر والعنف خيبات أمل تجعلنا بعيدين عن المساواة الفعلية حتى الآن.

إن إزالة العوائق من أمام المرأة ضرورية حتى تستطيع أن تقوم بدورها في التربية والتنمية والبحث عن معنى للحياة وهي المقومات الضرورية للنضال ضد سوق متواصلة التوسع هي سوق المخدرات التي هي أحد التجليات الصارخة لعدم المساواة الفج بين بلدان الشمال الغنية وبلدان الجنوب الفقيرة.

ما العمل لتكون الأرض زرقاء?

إننا نملك بيتًا ووطنًا مشتركين.. الكوكب.. من الآن فصاعدًا يمثل تعلم الحفاظ عليه وصيانته مع إدارة موارده بطريقة صحية وذكية ضرورة مطلقة. وفي هذا القسم من الكتاب يقدم (عالم جديد) بعض المنطلقات الملموسة للتفكير والعمل, كي يؤدي العقد الطبيعي لالتزامات فعلية تفاوضية ومحددة بالأرقام ومدرجة في جدول زمني. لذا فإن هذا العقد يناقش أمن البيئة وكيف ينمو مع الأرض لنواجه المخاطر الكثيرة التي تهدد كوكب الأرض الحديث, ومنها مثلاً إزالة الغابات ونتائجها المأساوية على التنوع الأحيائي, الغلاف الجوي والتغييرات المناخية بسبب انبعاثات أكاسيد الكربون, ارتفاع متوسط درجة الحرارة على نطاق العالم, تلوث مياه الشرب, تفاقم الكوارث الطبيعية التي ارتفعت لأربعة أضعاف خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة مما أدى إلى ظهور فئة جديدة هم اللاجئون الإيكولوجيون, لذا فإن المسئولية تقع على عاتق المجتمع الدولي لمواجهة هذا الخراب المأساوي للبيئة, فالصحراء تنمو لتصل المناطق المجدبة إلى 40% من سطح الكوكب في حين لا تغطي المساحة المزروعة سوى العشر. ولا تقتصر آثار التصحر على البيئة الطبيعية بل تتعلق أيضًا بالتراث الثقافي, فهناك مواقع أثرية ساحرة مهددة بالدفن تحت الرمال. والتهديد لا يقتصر على التربة كمورد طبيعي ولكنه امتد ليشمل المياه مما جعل الكاتب يتساءل: هل ستظل المياه جارية?! أم أن القرن الواحد والعشرين سيحقق نبوءة كوليردج الكئيبة التي صرخ بها ملاحه القديم (الماء.. الماء في كل مكان ولا قطرة ماء لنشربها) ويقودنا ما سبق لسؤال لا يقل أهمية هو: هل سيكفي الطعام الجميع أم سيصبح الأمن الغذائي رهانًا رئيسيًا من رهان القرن? وهنا يقدم المؤلفان ثمانية حلول مقترحة للقضاء على انعدام الأمن الغذائي منها رسملة عقارية جديدة ومشاركة البلدان الغنية والانتقال الديموجرافي.. ولن يكون هناك مناص من التنمية التي ترتبط بمستوى التعليم والتدريب, فالبلدان التي تعاني سوء التغذية هي ذاتها التي تعاني أدنى مستوى للانتظام التعليمي. ومازالت التكنولوجيا رهانًا قائمًا حتى في مجال الأمن الغذائي فبعد ثلاثين عامًا من الثورة الخضراء التي انطلقت في آسيا عام 1965, تم إثبات التعاون الدولي في مجال النمو تكنولوجيًا, وكيف يمكن أن يضاعف الإنتاج. ومن المتوقع أن تقدم البيوتكنولوجيات تيسيرًا لإجراء تقليص واضح وسريع في متوسط الأرض التي يزرعها كل فرد بل وتخفف الضغط على الأراضي المسماة هامشية, ولكن على طاقة الأمل هذه ألا تجعلنا نغفل ما لهذا البيوتكنولوجي من مخاطر إيكولوجية, الأمر الذي يدعو المؤلفين إلى تأكيد ضرورة وضع هذه البيوتكنولوجيات في خدمة المجتمع عن طريق تشاور المجتمع الدولي والمجتمع العلمي وقبل ذلك اللجان الأخلاقية.

من المعلومات إلى المعرفة

يرتبط هذا العقد بصورة لاتنفصم بالعقدين السابقين, وينبغي أن يمثل التعليم فيه هدفًا للجميع وأولوية الأولويات بالنسبة للحكومات وللمجتمع ككل, إن هذا الهدف رهان ديمقراطي حقيقي طويل الأجل لنتمكن من تدمير (الأبارتهيد) المدرسي والجامعي. وفي غياب إدارة سياسية حازمة فسوف يتضخم المنطق التجزيئي وتصل أقلية من المختارين إلى فراديس المعرفة بينما يحكم على ملعوني المعرفة الجدد بجحيم الجيتوهات التعليمية الجديدة!! وفي قلب العقد الثقافي تشكل ثورة التكنولوجيات الجديدة تحديًا أساسيًا فكيف يمكن الانتقال من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة, وهل آن الأوان لننتقل من الثقافة الإلكترونية إلى الأخلاق الإلكترونية?!! في هذا العقد يتناول المؤلفان الإنترنت كبعد اجتماعي اقتصادي حضاري ذي تأثير على إبداعية البشر وألفتهم الاجتماعية, وعلى مستقبل الديمقراطية, وطبقًا لما سبق فأي مستقبل ينتظر الكتاب في ظل تحولات الكتابة والقراءة?! إن إضفاء الطابع الرقمي على الكلمة المكتوبة يفرض تحديات ثقافية وتقنية وأخلاقية ولكنه ليس نهاية الكتابة. وبطبيعة الحال فإن التحدث عن الكتاب ينقلنا للتحدث عن اللغة كتراث مهدد بالاندثار - حيث من المحتمل أن يختفي على الأقل نصف ما يتراوح بين 500 إلى 670 لغة منطوقة وهذه الظاهرة ستصيب قبل كل شيء الجماعات المحلية الأكثر تهميشًا. ومع ذلك يبقى الرهان على التعددية اللغوية من أجل السلام, وترتبط هذه الطروحات بأطروحة مهمة على طول الكتاب وهي التعليم حيث يرسم الكتاب صورة مستقبلية للتعليم على مشارف عام 2020 ويتساءل هل سيكون التعليم عن بعد أم من دون بعد? ويجيب بأن التعليم عن بعد سيسهم في تحقيق المهمة الأولى لكل تعليم وهي تحرير الكائن البشري من الإكراه والجهل.

وفي ظل هذا الوضع سيكون على السلطة العامة مواصلة التمويل على نطاق واسع لقطاع التعليم وكذلك إصدار الضوابط التعليمية وقيادة عمليات تقوم فيها بالمشاركة الاستراتيجية مع قطاعات الاتصالات بعيدة المدى.

نحو عقد أخلاقي جديد

هذا هو العقد المنوط به إعادة منح المعنى والأفق للمغامرة البشرية, ففي هذا العقد يعود الكتاب للتشديد على أهمية تعميق الديمقراطية في الزمان وفي المكان, حتى يمكن إعادة توزيع مكاسب العولمة بما يؤدي إلى استفادة الجميع منها وليس خمس السكان فحسب, ويبدو الموضوع أكثر إلحاحًا فيمايخص إفريقيا, فهل ستحدث المعجزة الإفريقية كماحدثت المعجزة الآسيوية? وبالرغم من تأزم الوضع في القارة السوداء فإن هناك دلائل تبعث على الأمل منها أن العمر المتوقع يواصل الارتفاع, وثقافة الخصوبة تواصل الانخفاض. إن الأمر يتطلب قهر التشاؤم الإفريقي والانفتاح على القدرات الكامنة والاستثنائية للقارة, ويبدو السلام في إفريقيا مفتاح التنمية كما يصبح الاستثمار في مجال التعليم مدى الحياة هو الحل.

 

فيديريكو مايور وجيروم بانديه