هل الزواج الناجح.. صُدفة حظ? محمد فتحي
هل الزواج الناجح.. صُدفة حظ?
هناك أساطير رائجة عن أن الزواج الناجح شيء قدري, ينتج عن التوفيق الذي يصاحب طرفيه منذ اللحظة الأولى, لكن الواقع يقول إن 99% من النجاح ينتج عن كد وجهد متواصلين. ومن هنا محاولات فهم طبيعة الجهود المفروض بذلها لتقوية العلاقة بين الزوجين. في ظل البرنامج القيمي المحدد: (تحطيه يا بنتي في عينيك, وتسمعي كلامه, ربنا يبارك لكما... إلخ), الذي كان ينتقل إلى البنت عن الأم عن الجدة.. كان ما هو مطلوب من الزوج والزوجة لحنا معروفا شائعا يسهل على أي اثنين عزفه فور اللقاء. لكن الدنيا تغيرت, وإلى جوار هذا البرنامج المتوارث صارت تشارك في صنع تصورات الأزواج (برامج تربوية) كثيرة يصل تنوع عناصرها إلى حد التنافر, ويستقي المرء بعضها من حياة أسرته وحياة الأسر المحيطة, وبعضها من الأعمال الفنية الكثيرة التي يطالعها, وبعضها من علاقاته العامة في المدرسة والجامعة والشارع والعمل.. ذلك بينما ينحصر نصيب المؤسسات التربوية والتعليمية المعنية في أقل القليل, إن كان لهذه المؤسسات وجود من الأصل. تزايدت الخلافات ومع تعدد البرامج التربوية, ومع كثرة وتنوع الألحان, غاب النموذج العام للأسرة, وتزايدت صعوبة العزف المشترك, فدبت الخلافات في مختلف جوانب الحياة الزوجية:
وليت الأمر يقف عند هذه الحدود التي تصلح ملحا, أو حتى توابل تفتح الشهية للإقبال على الحياة, فالخلافات تمتد مع الأسف إلى ما هو أبعد تأثيرًا:
هكذا ونتيجة للبرامج التربوية الكثيرة تعددت وتداخلت وتباعدت التصورات الخاصة, وأصبح لا مفر من وقوع الخلافات عند اللقاء. ولأن وضعا مثل هذا يتطلب حلا. ولأننا في عصر لقيت أنشطة مثل الزار والسحر والشبشبة ما يليق بها من مصير, كان لابد أن يدلي العلم بدلوه, بالذات بعد أن شرعوا في دراسة مشاكل شبيهة تخص توافق أفراد أطقم رحلات الفضاء الطويلة (يقضي بضعة ملاحين شهورا يعملون معا على نحو لصيق في ظروف صعبة بعيدا عن العالم), والتوافق في مجالات التوجيه المهني المختلفة, وحتى التوافق بين المرضى النفسيين. ولأن العلم يهتم بإقامة ما يشيده على أسس سليمة, انكب العلماء بما هو معروف عنهم من منطق صارم على تحديد منابع الوفاق والخلاف. إن التقارب بين الناس ينشأ من خلال التعامل والتعاون والأخذ والعطاء, وتكرار الانفعالات السارة التي يحسها كل من طرفي العلاقة نتيجة سلوك الآخر وكلماته وأفعاله. ومع التقارب تبزغ بذور عاطفة الحب, وتأخذ في النمو من خلال شعور كل من طرفيها بالارتياح للآخر, وتتدعم هذه العاطفة مع تراث الارتياح وتراكم الانفعالات السارة بين فردين متوافقين. والتوافق لا يعني التماثل أو الاتفاق التام, لأن لكل واحد منا شخصية متفردة لابد أن تتباين في عدد من توجهاتها وملامحها. وحتى نوضح كيف فكر الباحثون في التوافق لا بأس من مثال بسيط. إذا افترضنا أننا أمام سؤال: من يشتري احتياجات الأسرة من السوق.. الزوج أم الزوجة? لوجدنا أنفسنا أمام إجابتين, الأولى تلتزم منطقا: لأن هذا عمل بدني ثقيل ومجاله خارج المنزل فهو واجب الرجل.. بينما تلتزم الثانية منطقا: هذا أمر يدخل ضمن مملكة البيت, كل شئونها من اختصاص الملكة, ولهذا لا دخل للرجل بمثل هذا الأمر. والتفكير المنطقي يقود إلى أن خلافا لا يمكن أن يحدث بين الزوج والزوجة إذا كانا معًا من أنصار الرأي الأول, أو من أنصار الرأي الثاني, لكن الخلاف يبدأ عندما يُشرع كل منهما بصره في اتجاه مخالف, حتى إذا رأت الملكة أن تتحمل عبء شراء الاحتياجات, ورأى زوجها أن يضحي هو ويفعل. المهم أن العلماء خرجوا من التفكير على هذا النحو بنتيجة منطقية مؤداها: حتى يكون الزواج راسخا يجب أن يكون الشريكان متوافقين في منطق معالجتهما لما يواجهان من مهام ومشكلات. وهكذا مضى العلم في ممارسة جهوده التشريحية التوصيفية للعوامل المختلفة المفروض البحث عن توافقها بين الأزواج, ليصنفها في النهاية بين مجالات مادية, وثقافية, ونفسية, ومظهرية, وبدنية, و... يجب أن يسعى الزوجان إلى التأكد من التوافق فيها ابتداء, أو أن يعملا على تحقيق التوافق فيها بعد الزواج. الإنسان ليس مجموع نثرياته ولعله من المناسب الإشارة في البداية إلى ما شاب بعض التصورات (العلمية) التي شاعت من أخطاء وأخطار.. في بعض الحالات شَرَح المنطق التفصيصي الإنسان (بين عوامل المجالات: مادية, وثقافية, ونفسية, ومظهرية, وبدنية, و...), ووصّف ما استطاع أن يصنفه من عوامل جزئية, ثم جمع النثريات التي وصفها, وعامل الإنسان على أنه حاصلها, ذلك رغم أن الإنسان أكبر بكثير من مجموع أجزائه, حتى لو تيسرت معرفة كل هذه الأجزاء. فليس معنى معرفتنا مثلا أن جسد أحد الكائنات الحية يحتوي على عشرين كيلوجراما من المياه, وخمسة كيلوجرامات كربون, ونصف كيلوجرام حديد, و... ليس معنى معرفتنا هذه التفاصيل أن تجميعها يوصلنا إلى الكائن المعني, لأن هناك شيئا معجزًا آخر سيظل غائبا عن عجينتنا, مهما سلم تكوينها. وإذا كان ذلك يسري حتى على الجماد - خصائص أي سبيكة معدنية تختلف تماما عن خصائص عناصرها - فما بالنا بالكيان الحي الأرقى النابض بفتافيت الحس والعواطف والانفعالات والإرادة?! كما أن المنطق التصنيفي الجامد يمكن أن يتجاهل أن الإنسان الطبيعي يعيش على مدار الساعة الواحدة - لا على مدار العمر - عدة شخوص دون أن يكون بالضرورة ممثلا أو بهلوانا.. فالأم حين تستيقظ في الصباح لتساعد أطفالها في الذهاب إلى المدرسة تمارس دور الوالد المسئول, لكنها قد تتحول ما إن تودعهم, وخلال لحظات, إلى (طفل معتمد) يتكئ على كتف الزوج العطوف, وما هي إلا دقائق بعد ذلك حتى تشد رحالها, لتتعامل معاملة الند, مع غيرها من اليافعين, خلال رحلة العمل, والأم في ذلك كله امرأة طبيعية جدًا, وعاقلة جدًا, وعلى سجيتها جدا من دون تعالم, لأن مرشدها فيما تفعله خلاصة علمية موثوقة قطرتها الخبرة الإنسانية الثرية الرحبة المديدة. والمبالغة في التشريح والتجزيء والتصنيف ووضع الحواجز التي تصنع اللاتوافق, ربما أنستنا أن حلول المشكلات ربما كمنت في مجرد أن يفهم المرء أنه لا مانع أن يكون الرجل أبا لزوجته في لحظة, وطفلا لها في أخرى, وشريكا على قدم المساواة في ثالثة.. وأن يفهم ضرورة مجاهدة النفس, بعيدا عن الرومانسية, في ممارسة ذلك كله. بعيدًا عن الاستبداد لقد تسلحت الدراسات بمستحدثات مختلفة مثل الاعتماد على ملاحظة الزيجات الناجحة (بدلا من الزيجات الغارقة في المشاكل), لأن خبرات الناجحين هي حقيقة ما نحتاج اليه في علاج مشاكل الأسرة, ومثل الإمكانات الحديثة التي أتاحها التصوير بالفيديو وبالتالي إمكان استعادة الانفعالات المختلفة في المواقف المختلفة ودراستها على نحو أوفى. بالذات حين يتم تسجيلها مع مجموعة من القياسات الفسيولوجية (الكهربية العصبية, وإفراز العرق, و..), ومع وجود أبجديات أو شفرات لقراءة انفعالات الوجه, مما يسهل في النهاية دراسة الاستجابات الانفعالية والتدفق الانفعالي في هذا الموقف أو ذاك. وقد أكدت هذه الدراسات أنه لم يعد هناك مجال لأن يمارس الرجل دور (سي السيد) في المنزل. رغم أن كل الزوجات تقريبا مستعدات للخضوع أو قبول نفوذ أزواجهن, إذا عدل الرجل من توجه سي السيد إياه, وقد يكون ما هو مطلوب يسيرًا كأن يلتفت عن مشاهدة مباراة كرة القدم حين تكون زوجه راغبة في الحديث معه, فهي تود أن تحس بأن زوجها يفكر بصيغة (نحن نريد ونحن نرى) لا بصيغة (أنا أريد وأرى و...). ومن بين الاكتشافات غير المتوقعة أن الغضب ليس أكثر العواطف تدميرًا في العلاقة الزوجية, فالزوجان السعيدان والتعيسان يتشاحنان, لكن الانتقاد الدائم, والتحقير, واستخدام الحيل الدفاعية, والخطابة الكثيرة على حساب الفعل الحقيقي, هي أكثر أعداء الحياة الزوجية. وقد ظهر أن أفضل طريقة لتجنب الآثار المدمرة لما سبق هي أن يعي الزوج أحلام زوجته ومخاوفها. وكل الأسر السعيدة يتميز الزوج فيها بفهم عميق لنفسية زوجته بما يمكن من انسياب التصرفات والمشاعر دون حدوث اختناقات عاطفية معوقة. وتشكل الصداقة بين الزوجين أهم عوامل الرضاء الزوجي, إذا نحينا العلاقة الجنسية جانبًا - رغم أهميتها البالغة - لأنها خارج نطاق هذه العجالة. كما تأكد أن الأزواج السعداء يتحلون, في نزاعاتهم, بمحاولات متجددة لرأب الصدع, والابتعاد عن السلبية التي يمكن أن تقود لإفلات الأمر من أيديهم, وأن الدعابة كثيرًا ما تساعد في إنجاح محاولاتهم, وأن بمقدورهم التعامل مع النزاعات المتجددة والدائمة - التي تهدد باختناق العلاقة - بطريقة تفرق بين الخلافات الأساسية والثانوية.. فعلى سبيل المثال, تشكو الزوجة من الجرائد والأوراق والكتب المبعثرة التي تشوه منظر البيت, والزوج يعجز عن تلبية متطلباتها في هذا الصدد. وبدلا من تأزيم الموقف يقرران مع الزمن أن المشكلة تنتمي إلى مجال التباينات الثانوية, التي تتطلب التحلي بالمرونة في التعامل معها, لأنها أصغر من أن تكون سببا يعكر صفو ما بينهما, ولأن هذا الموقف يقوي من زواجهما. ولا بأس هنا من مجموعة من النصائح التي - أكدت الخبرات - يمكن أن تجنب الزواج العثرات وتساهم في نجاحه:
تبقى إشارة إلى ضرورة وجود المؤسسات التي تقدم العون والنصيحة للراغبين في حل مشاكلهم الأسرية. وهي ليست مؤسسات علاجية بالضرورة, لأن كل ما سبق ينتمي إلى مجال حل مشاكل التواصل الاعتيادية, وإن فضلت بعض المجتمعات إطلاق مسميات علاجية عليها: (علاج تقبل الآخر), (علاج تعديل السلوك), (العلاج الزوجي), و..., جريا وراء أغراض تجارية. غير أن المؤسسات العلاجية حقا يجب أن تبقى كملاذ أخير للحالات التي يصل التوافق فيها إلى حدود الاستعصاء.
|