مساحة ود هدية حسين

مساحة ود

في طابور الانتظار

تدافع الأطفال أمام باب المسجد محدثين ضجة, يحملون القدور والطاسات بانتظار الحصول على مساعدات غذائية, أدخلوهم إلى الباحة المزيّنة بصور (القائد), بعضهم من الأسر الفقيرة المتعفّفة, والكثير منهم أولاد لمتسوّلين ألقت الحكومة القبض عليهم ووزعتهم على المعتقلات والسجون, ولكنها مالبثت أن أفرجت عنهم لسببين, الأول أنهم وقّعوا على تعهد بعدم الرجوع إلى التسوّل, الآخر - وهذا هو المهم - أن الحكومة وجدت فيهم عبئًا ثقيلاً, إذ ليس بمقدورها أن تطعم هذا العدد من جيوش الشحاذين. أمروهم بالاستعداد, فهذا يوم إذ ليس ككل الأيام, إنهم الآن يبتسمون للكاميرا, ويمسكون بأصابع مجرّحة قدورهم وطاساتهم, بعضهم حفاة وبعضهم الآخر ينتعل أحذية مهترئة لا تناسب أعمارهم الغضّة.

- انتهى التصوير.

هاجوا وماجوا...تدافعوا وعبسوا...بدت ملامحهم اللينة قبل قليل أكثر شراسة.

- نحن عائلة كبيرة وأبي مريض, ولم نأكل منذ يومين, عمّو...قدمي تؤلمني. أنت أيها الحقير لا تدفعني. إياك أن تشتمني ثانية. ارجع إلى الوراء قليلاً أمامي بركة ماء. أبي مفقود حرب, وأمي ستموت من الجوع. أخي حمّال في الشورجة وأختي...لا أدري.

صاح بهم الرجل السمين الذي يحمل مغرفة كبيرة ويتصبّب عرقًا:

- قفوا بانتظام وإلا سأطردكم.

سكتوا...تلمظوا حين كُشف الغطاء, قاوموا رائحة الأرز الشهية, شعروا بجوع أكبر حين مرّ البخار على أنوفهم, راح الرجل السمين يوزع الأرز, لا يأبه بحجم (الطاسة) ذلك أن التعليمات لديه محدّدة بمغرفتين:

- عمّو هذا قليل...نحن سبعة.

- اخرج ودع غيرك وإلا سأعيد ما أخذته.

تسلموا حصصهم, ركضوا بخفة, بعضهم لم يقاوم جوعه, فراح يأكل في الطريق, سقط أحدهم قبل نصف المسافة إلى البيت, أخذ يلملم حبيبات الرز الممزوجة بالتراب وهو يبكي, نصحه آخر بأن يعود ليأخذ حصة أخرى, أسرع إلى المسجد, وكانت ثمة مجموعة جديدة تقف في الطابور, حشر نفسه بينهم, استعدّ المصور:

- ابتسموا...دعوا الفرحة تعلو وجوهكم, سترون أنفسكم في التلفزيون.

- عمّو إحنه ما عدنه تلفزيون. - ليس هذا مهمًا, يكفي أنكم ستظهرون في البرنامج الذي سيوزع على محطات العالم.

- نشكرك. الله يخلي (القائد). صرخ الرجل السمين: أنت...ألم تأخذ حصتك قبل قليل?

- سقطت من بين يدي.

- أخرجوه من الطابور, إنه يعتدي على حق غيره, تناوشته الأيدي, دفعته إلى الوراء, سقط على الأرض وهو يصيح:

- أنا جائع يا أولاد الـ....

لم تنفع توسلاته ولا دموعه التي انسكبت على خديه المخربشين, وحين همّ المصوّر بأخذ صورة جديدة, عادت الوجوه تكشف عن ضحكة عريضة, هرع الطفل ثانية إلى الطابور, نظرات الأسى تسكن عينيه, توقف المصور:

- لماذا لا تضحك? تباعدت شفتاه ورسم ضحكة مبكية.

صاح السمين به: اخرج الآن وتعال غدًا.

وقبل أن يملأ المغرفة بالأرز, ارتفع أذان الظهر فتوقف الرجل وأغلق صفرية الأرز بإحكام, هرع إلى الصلاة, انفرط الطابور وشعر الأطفال بأن المؤذن يتآمر عليهم, حنقوا عليه, على بعضهم, على المصور الذي توارى واختفت ابتساماتهم معه, على عيني (القائد) الذي يسخر من فقرهم, جلسوا في زاوية من باحة المسجد ينتظرون انتهاء الخطبة الطويلة بعد صلاة الظهر, وينظرون إلى الصور الكثيرة التي تزيّن الجدران, تلك الصور التي يصلح صاحبها دائمًا للتصوير.

 

هدية حسين