جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

الشاعر الذي عاف سكون النار

منذ اثنين وثلاثين عامًا, أصدر الشاعر الحسّاني حسن عبدالله ديوانه الشعري (عفت سكون النار), وقد وضع على صدر الديوان عنوانًا لافتًا هو: (من الكلام الموزون المقفّى). وقدم له ببيان في حال الشعر, يقول في مُستهلّه: (اختلط الحابل بالنابل, فلابدّ من وقفة لنفيْ الالتباس. ولنبدأ من الأمر الواقع. انتصر الشعر الحر, فإن منه تسعة أعشار ما ينشر منذ ربع قرن تقريبًا. ولو اطّرد النصر لأمسى الكلام الموزون المقفّى أثرًا من آثار الماضي, فهل نكسب أو نخسر?).

كان وراء هذا البيان, وهذه الصيحة ثقافة شعرية رصينة اكتسبها الشاعر من خلال دراسة معمّقة, وعلاقة حميمة مع الموروث الشعري. وموقف من التجديد - الذي لم يره تجديدًا, بل مروقًا وإفسادًا وتفككًا وهجمة على الشعر العربي - تابع فيه أستاذه العقاد, الذي وقف في وجه قصيدة الشعر الحر أو الشعر الجديد أو التفعيلة عندما قدمت إليه وهو مقرر للجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب, وأشار بتحويلها إلى لجنة النثر بوصفها ليست شعرًا.

من هنا كانت دعوة الحساني حسن عبدالله, الذي تخرج في دار العلوم, ومارس الدرس الأدبي والنقدي والبلاغي والتحقيق والبحث اللغوي, وأفصح منذ بواكير شبابه عن موهبة شعرية أصيلة, تجلّت في قصائد ديوانه هذا, وفي العديد من قصائده - قبل الديوان وبعده - مما لم ينتظمه بعد ديوانه الجديد. كان هذا العنوان إذن (من الكلام الموزون المقفّى) و(عفت سكون النار), تعبيرًا عن الإيمان بوجوب أن يحيا الشكل القديم, وبأن الشعر الحرّ صائر بالشعر وباللغة إلى فساد هائل, لأنه - في رأيه - خرج على أبرز خاصة في موسيقى القصيدة العربية منذ الجاهلية حتى اليوم. وهي جريانها على نسق ثابت يقوم على البيت أو المقطوعة. والمقطوعة عنوان تنطوي فيه كل أنواع التجديد الطارئة على الأوزان كالمسمّطات والموشحات قديمًا, وبعض شعر (المهجر) و(الديوان) و(أبوللو) حديثًا.

كان الحساني يرى في ذلك الوقت - عام 1972 - أن واقع الشعر الحر يدلّنا على أنه صائر إلى النثر عاجلاً لا آجلاً. ( ولهذا المصير دلائل منها كثرة الأخطاء العروضية, وإذا كان الشعر الحرّ يقوم قبل كل شيء على دعوى عروضية, فلا دلالة لهذه الأغلاط المتفشيّة إلا القصور أو الإهمال. وكلاهما عيب جسيم فيمن يتصدى للتوجيه والإصلاح. ولا أثر لها إلا أن يعرض القارئ المتبصّر عن المقصّرين أو المهملين, وأن يسهم الخطأ في تضليل غير المتبصّر فتختلط الحدود في سمعه بين الشعر والنثر حتى يفقد القدرة على التمييز بينهما, ومن هنا ينشأ جمهور متخلف يجرّ الشعراء معه شيئًا فشيئًا إلى التخلّف).

لم يتردد الحسّاني في إعلان أنه يرفض الشعر الحر. لأنه على يقين من فساد النظام الذي يقوم عليه, ذلك أن للشكل فعلا فيما يحتويه, إذ إن الوزن ليس شيئا مضافا إلى الفكرة الشعرية, بل إنه جزء لا يتجزأ منها, أو هو هي, فصفاته إذن مؤثرة فيها لامحالة. وهنا لُبّ القضية, وهي أن الشكل الذي يقوم عليه الشعر الحر ذو خصائص من شأنها أن تضرّ بالكلام في مرحلة التكوين إضرارًا لا تنجو منه ملكة مهما عظُمت.

الحساني حرّ في أن يقول هذا الكلام, وفي أن يقف هذا الموقف, فلقد تنبأ - في بيانه هذا - بأن الشعر الحر لم يوجد ليبقى, لكنه بقي واستمرّ, وتتابعت موجاته الشعرية موجة بعد موجة, وصار النقاد يتكلمون عن شعراء الثمانينيات والتسعينيات ومطالع القرن الحادي والعشرين الذين جاءوا بعد أن أصدر الحساني ديوانه وقال كلمته.

والذين لا يوافقون الحساني ويختلفون معه في نظرته إلى التجديد الذي طرأ على القصيدة - في النصف الثاني من القرن العشرين - لا تحول عدم موافقتهم بينهم وبين الإعجاب بكثير من إبداعه الشعري, الذي جاء كلّه في القالب العمودي للقصيدة, متمسكا بالنهج الذي ارتضاه القدماء, ولايزال كثير من شعراء الوطن العربي يبدعون فيه حتى اليوم. وقصيدة (الحسّاني) في إطارها العمودي - الذي وصفه هو نفسه بأنه من الكلام الموزون المقفّى - قصيدة شديدة الإحكام, والصياغة, والبناء الفني, فضلاً عن احتشادها بصيد وفير من الصور الشعرية وأساليب الشعرية العصرية. كما في قصيدته (أول الغيث) التي تصور علاقته مع الشعر ونظرته إليه, والمثال الذي يسعى إلى تحقيقه, متعرّضا للأخطار التي تسود الساحة الشعرية, ومُعرّضا بما يسودها من (جهالات) يقول الحسّاني:

كن صديقي يا شعر إني تَنَا ئيْتُ, غريب الأسى وقلّ صديقي
لبّ شوقًا إذا ارتوى عاد يصبو فأنا واحد وألف مشوقِ
لم أزلْ عاشقا سماءكَ حتى دربت أجنُحي على التحليقِ
فتساميْتُ لم يُبالِ تساميَّ حشودًا تطامنت للنعيقِ
والتقينا التقاء حُرٍّ بحرٍّ كرها العيش في ديار الرقيقِ
غير أني أمسيتُ أخشى الجهالا تِ, على النُّبل والذكاءِ العريقِ
يا رفيقي إنّ الصغار استبدّوا فأعنّي على البلاءِ المُحيقٍ
لبنّى إنّ في ضميري رياحًا طلبت صهوة الفضاء الطلِيقِ
فُكّ عنها الوَثاق أُمْضِ همومي لا تدعْني كالفارسِ الموثوقِ
أنظر الساحة العظيمة تخلو من بنيها العظامِ, لا يا رفيقي
بدأت رحلتي إلى مطلع النو رِ, فصبرًا على صعابِ الطريقِ
السّنا المستفيقُ يعلو رويْدًا ليتنا نشهد استواءَ الشروقِ!


وهي قصيدة تكمل بيانه الذي يتصدّر ديوانه, وكلاهما: القصيدة والبيان, من ينبوع واحد, يجسّدان حقيقة موقف الشاعر ورؤيته لواقع القصيدة العربية.

ومن بين قصائد هذا الديوان الذي عاف صاحبه سكون النار, وأمسك بجمر الشعر أو مجمرته, وصدره ينزف شعرًا حارًا متوهجًا, ونبضًا فنيًا آسرًا, وأداءً بيانيًا لاسعًا, يلسع بمغايرته للسائد والمألوف, ويكوي بناره المشتعلة اشتعال البراكين, وتدفقها بالحمم. وهو في قصيدته (أبي) ينسج على منوال نادر المثال في صياغة العلاقة بين الابن وأبيه, ومدى احتياج الابن - الشاعر إلى انتباهة من هذا الأب الذي خلت عيناه وشفتاه من كل ما يشير إلى العطف أو يحمل نبرته أو ارتسامته. القصيدة في فِعْلها الشعري والإنساني تصرخ بالاتهام والإدانة, وتعتصر جوهر العلاقة الإنسانية المنبّتة والمشاعر - غير المتوقعة - في بناء شعري رصين. يقول الحساني حسن عبدالله:

أبي, دمعٌ تحرّك في جفوني وطيفك ماثل في ناظريّا
أتى من دارة الموتى عليه مهابتُه, وصمتٌ لا يُحيّا
شجيٌّ خلْتُ ذكراهُ رميمًا أتى يلقى لأمرٍ ما شجيّا
وقفتُ تجلّةً, لا, لست أدري فخوفي منك أوقفني مليّا
وهأنذا يُطالعني وجومٌ يُطلُّ من العمامة والمُحيّا
يحطُّ كما يحطّ الليلُ وهْنًا فيبعث كلّ جرحٍ بي نزِيّا
أبي...دمع تقطّر ظلّ يومًا طلبتُ مسيله فيه عصيّا
وتمتم نسوةٌ يبكين: طفلٌ وهاهو ذا أخيرًا في يديّا
أرى ماضيّ فيه, وفيه يومي وأبصرُ لي غدًا فيه دجيّا
أكان جمود عيني من جحودٍ تُرى, أم كان في الإحساس عِيّا
أبي...عفوًا, أنا لم أبْكِ عفوًا لأنك كنت جبارًا عتيّا
سهوْتَ, سها جبينُك في أساهُ فما انتبهتُ سنُوهُ إلى سِنيّا
مضيْتَ ولم تطف يومًا بسمعي على طول احتياجي) (يا بُنيّا)
زمانٌ سلَّ من عينيْكَ عطفًا ومن شفتيْكَ, كنتَ به حرِيّا
زمان نال منك ونال مني فلم تكن الودودَ ولا الحفيّا
تولّى ما تولّى منه همٌّ صبيّا كان, ثم غدا فتيّا
تلفع بالظلام فما يراهُ سوايَ إذا مضى يغتالُ فيّا
أبي دمعٌ تقطّر بعد دهرٍ وطيفك ماثلٌ في ناظريّا
فما امتدت يداك تُواسياني ولا امتدّت يدٌ أُخرى إليّا
بكيْتُك أم بكيْتُ شقاءَ عيْنٍ هوت من حولها الدنيا هُويّا
تَلفّتُ لا ترى صرحًا مقيمًا يظلُّ - إذا تخاذلْنا - قويّا
أبي, جهم الوجودُ, فإن تمادتْ جهامتهُ فلن أحيا شقيا
ولست بقائل إن قلتُ يومًا وداعًا يا زمانُ: جَنى عليّا
كلانا سيد حينا, وحينًا يُساقُ لِفعْلِهِ عبدًا عميّا
فإن يكُ في طوايا الغيْبِ لُقيّا فكنْ غيْرَ الذي قد كُنْتَ حيّا!


الشاعر هنا يقدم نموذجه الشعري الدال, الذي اتسع قالبه وجوهره لهذه الحال النادرة من حالات البوح والإفضاء الإنساني, في مواجهة الواقع الشعري المتردّي - من وجهة نظره - الذي يصفه بأنه حال لابد من تغييرها, وإلا اتسعت الفجوة الناشئة بيننا وبين تراثنا, وقلّ الاهتمام بالكلام, وهو يتساءل: (وماذا نكون بغير تراث قادر على الإسهام في تكويننا, وبغير مبالاة باللغة أداة التعبير عن الفكر? هملاً ضائعا لا يدري له وجهة. إن زحف الركاكة على الصحافات والإذاعات يجب أن يتوقف, ويجب أن يعمل كل مخلص للغته وأمته على الحيلولة دون انقطاعنا عن الماضي, فإن في الماضي فنّا عظيمًا وخبرة عظيمة وقيما لا ينهض قوم بغيرها. أيّ خنوع هذا? أن تتضاءل القدرة في الناس على الإحساس الصحيح والفهم الصحيح ثم لا تفعل شيئا. لقد ساءت الحال, واستبداد الشعر الحر على رأس أسباب السوء. فواجب أن يعاد فيه النظر, وإن ظنّ أنه استوى على العرش).

الشاعر يخشى الانقطاع عن الماضي, ويهوله أمر القطيعة مع الموروث الشعري. لكن هذا الماضي وهذا الموروث حيٌّ بنا وفينا, إذ ليس له وجود خارج عنا, بل هو متجدد وفاعل فيما نبدعه اليوم, وإن اتخذ أشكالاً مغايرة, فكيف يقتلع إنسان نفسه من الجذور, ويزعم لنفسه وللآخرين أنه لايزال شجرة حيّة قادرة على الإنبات والإثمار?

ومنذ قال الحساني حسن عبدالله بيانه للناس في صدر ديوانه, وحمل حملته الضارية على مَن لا يلتزمون بالكلام الموزون المقفّى, ويقعون أسرى الركاكات والجهالات - منذ ذلك الحين جرت في نهر الشعر مياه كثيرة, وتدفّقت فيه تجارب وصيغ ومغامرات واقتحامات, تهدف إلى التمرّد على الأسَن, والبحث عن الجدّة, ومجاوزة السائد والمألوف, وارتياد آفاق جديدة لم يطأها الشعر العربي من قبل.

لكن هذا كله لن يطامن من موقف الحساني ولا من رأيه المعلن, وهو الذي يُفضي لنا - نحن قرّاءه - ببعض نجاوى نفسه ومكنونات قلبه وهو يقول في ذكرى العقاد:

كم صبرْتَ على الحَدثانِ إلى أن مللتَ فأسلمْتَهُ المقودا
وعلى شفتيْك اعتراض كظيم أريد له الموت فاستشهدا
هل يطول زمان رآنا قطيعًا تشابَه أشغالُه, مُجهدا
لم نزَلْ نتهافت حتى اطمأنت على الشاطئين صنوف الرّدى
نتّقي أن تُساورنا غضبة نتّقي أن نريد وأن نقصِدا
ينجلي الزيف, لكنْ زيفا جديدا يحلّ فنُصْغي لِما جُدّدا
والنفاق يفحُّ, يسدّ الطريق على كلّ حُرٍّ, يُغلّ اليدا
وقُصارَى الإباءِ شكاةُ الملالِ وهمسٌ تهيّب من أفسدا
لن يطول الزمانُ, لأنك تحيا لأنّ حُسامَك لن يُغمدا


 

فاروق شوشة